أحد أفراد الأمن المنتمين لجماعة الحوثي في اليمن يرفع سلاحه خلال مظاهرة أمام مبنى السفارة الأمريكية المغلقة في صنعاء، اليمن، في 18 يناير 2023. (محمد حويس / وكالة فرانس برس / غيتي إيميجز)
آخر تحديث في: 03-11-2025 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن
"الهجمات التي تعرضت لها الجماعة الدينية في ثنايا التصعيد الأخير، وما أدت إليه من انكشاف استخباراتي، وخسائر بشرية ومادية كبيرة، دفعت باتجاه تراجع حالة الردع الحوثي على المستوى الداخلي.."
مركز سوث24 | محمد فوزي
منذ نوفمبر 2023، انخرطت ميليشيا الحوثيين في تصعيد نوعي في إطار ما أطلق عليه الحوثي "جبهة الإسناد والدعم" لقطاع غزة، حيث عمد الحوثيين في ثنايا هذا التصعيد إلى مهاجمة عشرات الأهداف في منطقة البحر الأحمر وفي الداخل الإسرائيلي.
واليوم عملياً وبعد التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، يمكن القول إنّ نتائج التصعيد الذي خاضه الحوثي تتمحور حول بعض الاتجاهات الرئيسية، خصوصاً ما يتعلق بالخسائر الكبيرة وحالة الارتباك التنظيمي الناتجة عن العمليات التي جرت من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، فضلاً عن تداعيات سلبية على الداخل اليمني والبنى التحتية في مناطق سيطرة الجماعة الدينية، وفي المقابل تعاظم موقع الحوثيين في إطار المحور الإيراني كأحد الأوراق التي يمكن أن توظفها طهران في أي سياق تصعيدي.
وكما سبق الإشارة، فإن الهجمات التي تعرض لها الحوثيون – خصوصاً الهجمات الإسرائيلية الأخيرة – وما تمخض عنها من خسائر على المستوى القيادي البشري، فضلاً عن تدمير العديد من البنى التحتية الخاصة به، تطرح تساؤلات بخصوص مسارات إعادة الهيكلة الداخلية، ومسارات تركيز الحوثيين على المدى القريب والمتوسط، وهي المسائل التي ستحاول هذه الورقة التعاطي معها.
أولاً- دوافع إعادة الهيكلة
بداية تُشير بعض الأدبيات الأمنية والعسكرية إلى أنّ مفهوم إعادة الهيكلة فيما يتعلق بالجيوش أو المجموعات المسلحة، يُقصد به عملية إعادة التنظيم الشاملة والنوعية لهيكل القوة العسكرية والأمنية والسياسية، بهدف التعاطي مع بعض التحديات والتهديدات الراهنة، أو الخسائر التي تكبدتها هذه المجموعات، وبالتطبيق على حالة الحوثي كان هناك مجموعة من العوامل التي تُحفز التوجه نحو إعادة الهيكلة، وذلك على النحو التالي:
1- الخسائر البشرية التي مُني بها الحوثيون: تكبدت ميليشيا الحوثي في ثنايا التصعيد الأخير سواءً مع بريطانيا وأمريكا، أو نتيجة الهجمات الإسرائيلية العديد من الخسائر النوعية، على غرار اغتيال العديد من القيادات في الحكومة – غير المعترف بها دولياً – والتنفيذية في مناطق سيطرة الحوثيين، بما في ذلك رئيس الحكومة الحوثية أحمد غالب ناصر الرهوي، و10 مسؤولين آخرين، وذلك على وقع الهجوم الإسرائيلي في مطلع سبتمبر 2025. فضلاً عن اغتيال رئيس أركان الجماعة والقائد العسكري لها محمد عبد الكريم الغماري.
وبالإضافة لما سبق، كان هناك خسائر بشرية إضافية على مستوى العناصر، وهي الخسائر التي قدرتها الولايات المتحدة الأمريكية بأنها بلغت نحو 650 عنصراً حوثياً، فيما قدرها الحوثي بنحو 280 شخصاً قال إنهم من المدنيين. وخلاصة ما سبق، بعيداً عن التقديرات الدقيقة التي يصعب حصرها بسبب التعتيم الذي تفرضه جماعة الحوثي على حجم خسائرها، يتضح أنّ الميليشيا اليمنية قد تكبّدت خلال التصعيد الأخير خسائر بشرية كبيرة، خلّفت دون شك حالة من الارتباك داخل بنيتها التنظيمية، مما خلق فراغ واضح في هرمها القيادي.
2- الخسائر المادية واستهداف البنى التحتية: رغم حالة التعتيم من قبل ميليشيا الحوثي في اليمن على حصيلة خسائرها في الحرب الأخيرة، إلا أنّ العديد من المؤشرات تشي بأنّ البنى التحتية للحوثي قد تعرضت لأضرار كبيرة. وفي هذا السياق من المهم الإشارة إلى أن مفهوم البنى التحتية يُقصد به الأصول المُتجذرة تحت سطح الأرض أو الماء، والمرتبطة بصفة أساسية بوسائل المواصلات والنقل والكهرباء وأنظمة الصرف الصحي وسائر المرافق الحيوية للدول أو المجموعات المسلحة، فضلاً عن الأصول العسكرية.
وكان ملاحظاً التركيز الأمريكي البريطاني الإسرائيلي في ثنايا التصعيد مع الحوثيين على استهداف البنى التحتية الخاصة بالميليشيا اليمنية، حيث تم استهداف العديد من مراكز القيادة والعناصر اللوجستية الحيوية، ومنصات إطلاق الصواريخ ومصانع الطائرات المسيرة ومخازن الأسلحة. بالإضافة إلى الاستهدافات التي حدثت لمطار صنعاء، والعديد من الطائرات المدنية التي استحوذت عليها الجماعة الحوثية في أعقاب الانقلاب الذي قامت به في اليمن، والأضرار التي لحقت بميناء الحديدة، فضلاً عن الهجمات التي طالت مواقع طاقوية ومواقع لصناعة الإسمنت.
3- الحفاظ على حالة الردع الداخلية: كانت منظومة الردع الحوثي على المستوى الداخلي تقوم على مجموعة رئيسية من المرتكزات، على غرار الترويج لسردية سرية وتحصن البنى التحتية خصوصاً العسكرية الخاصة به، والاعتماد على نقل حروبه الداخلية وموجات التصعيد إلى المناطق الطرفية، أي نقل المواجهات إلى محافظات خارجة عن نطاق سيطرته المباشر مثل مأرب والجوف وتعز والحديدة، ليتفادى أي تهديد داخلي قد يهز سلطته في صعدة وصنعاء وذمار.
غير أنّ الهجمات التي تعرضت لها الجماعة الدينية في ثنايا التصعيد الأخير، وما أدت إليه من انكشاف استخباراتي، وخسائر بشرية ومادية كبيرة، دفعت باتجاه تراجع حالة الردع الحوثي على المستوى الداخلي، ما تجسد في تنامي الدعوات خصوصاً من معسكر الشرعية لتنفيذ حرب برية ضد الميليشيا. إذ انكشفت درجة من الهشاشة التنظيمية والاختراق الاستخباراتي، وأنّ سردية القوة والردع كانت نوعاً من البروباجندا والتمويه. وهي اعتبارات عززت من حاجة الميليشيا اليمنية إلى التعاطي معها، وتقليل أثرها، وسد حالة الفراغ وتراجع الردع التي تشكلت.
4- تعزيز التموضع في إطار المحور الإيراني: تحولت ميليشيا الحوثي في اليمن إلى أحد أهم الأذرع الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، في إطار سياسية "الاعتماد على الوكلاء" التي تنتهجها طهران منذ سنوات. ويستند هذا الافتراض إلى مجموعة من الاعتبارات الرئيسية، وأولها أنّ إيران ومنذ العام 2014 استثمرت في ميليشيا الحوثي بشكل غير مسبوق سواءً على مستوى الدعم المالي أو الدعم العسكري والتسليحي. وثانيها أنّ الحوثيين يعدون أداة التحرك الرئيسية بالنسبة لإيران للتموضع والنفوذ في اليمن بما يملكه من مقدرات وأهمية استراتيجية. وثالثها أنّ الحوثيين ثبتت أهميتهم بالنسبة لإيران في ثنايا التصعيد الأخير كورقة ضغط على القوى الدولية، مع قدرتهم على التأثير على مسار التجارة العالمية في البحر الأحمر، وبعض العمليات النوعية التي يمكن أن ينفذونها. ورابعها كافة الأذرع الإيرانية الأخرى في المنطقة تم كسر شوكتها بقدر كبير، على عكس الحوثيين الذين لا يزالون يحتفظون ببعض قوتهم.
وفي ضوء الاعتبار السابق الإشارة إليه، تسعى ميليشيا الحوثي في اليمن إلى التعاطي مع الخسائر التي تكبدتها في ثنايا التصعيد الأخير، مع معالجة كافة أوجه الاختراق الاستخباراتي، وسد الشغور القيادي واستعادة الردع داخلياً، من أجل الحفاظ على محورية الدور في إطار الاستراتيجية الإيرانية بالمنطقة، على اعتبار أنّ الحفاظ على هذه المكانة سوف يضمن لها استمرار الدعم المالي والتدفقات العسكرية والتسليحية القادمة من إيران.
وفي ضوء مجمل العوامل والاعتبارات السابقة، إلى جانب المؤشرات التي ترجّح احتمالية التصعيد الداخلي في اليمن، ومع الأخذ في الحسبان أنّ اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة لم يتضمن أي التزامات إسرائيلية تتعلق بالمسألة اليمنية أو بالتعامل مع الحوثيين، بما يفتح عملياً الباب أمام احتمال استئناف الهجمات الإسرائيلية ضد الجماعة، يبدو أنّ الميليشيا اليمنية شرعت في تبنّي مسارات تحرك جديدة تستهدف، من جهة، احتواء التداعيات الناتجة عن التصعيد الأخير، ومن جهة أخرى، الاستعداد المسبق لمختلف السيناريوهات التصعيدية المحتملة.
ثانياً- مؤشرات على عملية إعادة هيكلة لميليشيا الحوثي
برزت في الآونة الأخيرة العديد من المؤشرات التي عبرت إجمالاً عن عملية إعادة هيكلة تُجريها ميليشيا الحوثي، لضمان التعاطي مع تداعيات التصعيد الأخير، وسعياً للاستعداد لأي سيناريوهات مقبلة، ويمكن تناول أبرز هذه المؤشرات في ضوء التالي:
1- قرارات جديدة من زعيم الحوثيين: أفادت بعض التقارير بأنّ عبد الملك الحوثي زعيم الميليشيا اليمنية، وفي أعقاب الخسائر التي مُنيت بها الجماعة، تبنت مشروعاً جديداً لإعادة الهيكلة الداخلية، والسعي لإزاحة الأطراف المتصارعة على الأموال والنفوذ، وإبعاد مراكز القوى من غير السلالة الحوثية.
2- السعي لسد الشغور القيادي: بدأت مساعي الحوثيين لسد حالة الشغور القيادي التي ترتبت على اغتيال العديد من القيادات التنفيذية والعسكرية، مع الغارات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت الحوثيين، وذلك بتنصيب أحمد محمد مفتاح كرئيس للحكومة – غير المعترف بها دولياً – وصولاً إلى تعيين يوسف المداني رئيساً لأركان الميليشيا خلفاً لمحمد الغماري الذي اغتالته إسرائيل.
3- السعي لاحتواء الانقسامات والصراعات الداخلية: أفادت بعض التقارير بأنه ومنذ الهجمات الإسرائيلية التي أدت إلى اغتيال عدد من الوزراء في حكومة الحوثيين – غير المعترف بها دولياً – تصاعدت حِدة الصراعات البينية داخل الأذرع العسكرية والأمنية التابعة لمليشيا الحوثي، خصوصاً بين عبد الكريم الحوثي، وزير داخلية الحوثيين، وبين عبدالحكيم الخيواني، رئيس ما يسمى بجهاز الأمن والمخابرات.
ولفتت نفس التقارير، إلى أنّ ذراع عائلة الحوثي استغلت حالة الارتباك داخل جهاز الأمن والمخابرات بقيادة الخيواني، وعجزه عن منع الاختراقات التي طالت صفوف قيادات المليشيا العسكرية والأمنية، لتمهيد الطريق نحو الإطاحة به. وأُسندت هذه المهمة إلى "علي حسين الحوثي"، فيما يبدو أنه مؤشر على احتمالية سيطرة "علي حسين الحوثي" على الذراع الاستخباراتي والأمني للميليشيا بشكل كامل، وهي مقدمات للإطاحة بـ "الخيواني".
4- التحرك لسد الانكشاف الاستخباراتي: كشفت جولة التصعيد الحوثي مع إسرائيل، خصوصاً في مراحلها الأخيرة عن حالة من الانكشاف النسبي الاستخباراتي للحوثيين، وكان من أبرز الحيثيات بهذا الخصوص ما ذكرته تقارير، من أنّ الحوثيين استحدثوا شبكات اتصالات جديدة بتقنيات روسية وصينية، بالتزامن مع فرض وسائل رقابة متعددة على السكان، مع التوجه للاستغناء عن التقنيات الإيرانية في الاتصالات والتجسس. وعلى مستوى آخر لفتت تقارير، إلى أنّ ميليشيا الحوثي عملت خلال الأشهر الأخيرة على استبدال بعض فرق الحماية الشخصية، وتغيير السيارات الخاصة بقيادات الميليشيا، فضلاً عن نقل هذه القيادات إلى مواقع بديلة.
كذلك لفتت تقارير أخرى، إلى أنّ ميليشيا الحوثي أصدرت تعليمات مشددة لكافة أذرعها العسكرية والأمنية والتنظيمية، تقضي برفع مستويات الحيطة والحذر الأمني. حيث تلقت القيادات الحوثية الرفيعة بروتوكولات أمنية صارمة تتضمن تقييد تحركاتها وأنشطتها، ومنع الاجتماعات المباشرة، وتقليص أعداد المرافقين، إلى جانب تغيير أماكن الإقامة وتجنب استخدام السيارات المعروفة، واعتماد أساليب تمويه وتخفي عالية المستوى.
وفي سياق متصل لفتت تقارير، إلى أنّ ميليشيا الحوثي أقرت "منح المناطق العسكرية صلاحيات واسعة ودمج أجهزتها الأمنية الخمسة تحت مظلة أمنية واحدة، كإجراءات احترازية لحصر الاختراقات من خارج هيكل المليشيات الجديد". وهو فيما يبدو توجه يستهدف توزيع الصلاحيات وتخفيف المركزية، وتخفيف الضغط على القيادة المركزية للميليشيا في صنعاء.
ويبدو أنّ إيران لم تكن بعيدة بدورها عن عملية إعادة الهيكلة التي تتم داخل ميليشيا الحوثي، حيث كشفت تقارير على أنّ هذه التحركات جاءت مدعومة بتوجيهات إيرانية منذ يونيو 2025. ووفقاً للتقارير، أوصت طهران ميليشيا الحوثي بسرعة إعادة بناء هيكلهم التنظيمي، “لاحتواء الترهل في صفوفها القيادية وبنية المنتمين لأجنحتها الداخلية”، فيما يبدو أنه استمرار لمساعي إيران الاستحواذ على الميليشيا اليمنية، وضمان الولاء الخاص لها، وسد الثغرات التي قد تؤدي إلى إضعاف الحوثيين.
إجمالاً، تكشف كافة المعطيات والمؤشرات السابقة عن توجه حوثي نحو تبنّي عملية إعادة هيكلة واسعة على المستوى الداخلي، وهو التوجه الذي يشمل السعي لسد الثغرات الاستخباراتية في ضوء ما كشفته الحرب الأخيرة من عملية اختراق نسبي. فضلاً عن زيادة تأمين القيادات الحوثية، والسعي لإعادة تأهيل البنى التحتية التي تدمرت أو تضررت نتاج التصعيد، والتعامل مع أزمة الانقسامات الداخلية. وهو مسار يستهدف بشكل رئيسي الحفاظ على التماسك التنظيمي، واستعادة الردع المفقود خصوصاً على المستوى الداخلي اليمني، فضلاً عن الاستعداد لأي سيناريوهات تصعيدية جديدة.