التحليلات

هجوم المحفد: توقيت استراتيجي وتحشيد مزدوج

السيارة المفخخة التي انفجرت أمام المجمع الحكومي في المحفد، 21 أكتوبر 2025 (مصادر عسكرية محلية)

28-10-2025 الساعة 3 مساءً بتوقيت عدن

مركز سوث24 | إبراهيم علي


شهدت مديرية المحفد بمحافظة أبين جنوب اليمن، يوم 21 أكتوبر الجاري، تصعيدا أمنيا خطيرا تمثل في هجوم جديد مختلف نفذه تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بسيارتين مفخختين. استهدف الهجوم تحديدا المجمع الحكومي الذي يضم مقر اللواء الأول "دعم وإسناد" التابع للقوات الجنوبية، وأودى بحياة خمسة جنود وإصابة 12 آخرين، وفقا لتقارير تلفزيونية.


تحمل هذه العملية في طياتها دلالات هامة ذات صلة بالوضع العملياتي للتنظيم، لكن الأهم هو توقيتها الذي يربطها بعدد من الأحداث المحلية والإقليمية المتزامنة، ما يثير تساؤلات حول وجود "تخادم" محتمل يهدف لزعزعة استقرار الجنوب.


القاعدة والحوثي على خط الجنوب


لا شك أن هجوم المحفد الأخير الذي نفذه تنظيم القاعدة لم يكن حدثا معزولا بل يعكس ترابطا عمليا بين شبكات العنف والإرهاب في اليمن. فتنظيمات مثل القاعدة وداعش لا تتحرك بمعزل عن المشهد السياسي الذي يخلقه الحوثيون أحيانا، بل تستغل هذه التنظيمات أي فراغ أمني أو موجة اضطراب لتوجيه ضربات هدفها تقويض الاستقرار وزعزعة ثقة المواطنين في السلطات المحلية.


المعطيات الميدانية توحي بأن هناك تناغما تكتيكيا وتخادما بين الطرفين، إذ يرتفع مستوى التحشيد السياسي أو الإعلامي لدى الحوثيين في وقت تنفذ فيه القاعدة عمليات ميدانية مؤثرة، فتتضافر العمليات الكلامية والاعتداءات على الأرض لتشكّل ضغطا مزدوجا على أجهزة الدولة وقواعد السلطات المحلية.


هذا التناغم يبدو واضحا في تزامن الهجمات مع التصعيد الخطابي الحوثي الذي يمهد لزعزعة المشهد جنوبا. فقد أطلق القيادي الحوثي محمد البخيتي "مكاشفة" قال فيها بوضوح: "لا بد أن نصارح الشعب اليمني بأن الحلّ السياسي في اليمن لم يعد ممكنا"، وأرجع القيادي الحوثي ذلك إلى أن "مصالحهم المالية والاقتصادية باتت مرتبطة باستمرار الأزمة". وذهب أبعد من ذلك بدعوته الصريحة إلى الحسم غير السياسي، قائلا: "الخيار الأنسب هو في تسلح الشعب اليمني بالوعي... تمهيدا لتحرك شعبي من صعدة إلى المهرة لتحرير اليمن من الاحتلال واستعادة ثرواته النفطية والغازية". هذا الخطاب التعبوي العلني ضد ما أسماه "الاحتلال" في الجنوب يسبق أو يتزامن مع ضربات القاعدة الميدانية ضد القوات الجنوبية، وهو ما يجعل "الهجوم الإرهابي" بمثابة تغطية عسكرية للرسالة السياسية الحوثية التي تدعو للتحرك "الشعبي" ضدهم.


وفي سياق متصل، ترافق الهجوم الإرهابي على المحفد بتصعيد آخر يستهدف استقرار الجنوب عبر جبهة جديدة، إذ أعلنت عناصر موالية لجماعة الحوثي وتنظيم القاعدة، أبرزهم الناشط عادل الحسني وقائد لواء النقل السابق أمجد خالد ـ وهو مطلوب لأمن عدن ـ عن تأسيس "مقاومة وطنية مسلحة" في بيان علني دعا بشكل صريح للقيام بأعمال عنف تستهدف الأراضي الجنوبية، وهو ما يرسّخ حقيقة "التخادم" بين الأطراف المتعارضة في الظاهر بهدف مشترك هو تقويض سلطة المجلس الانتقالي الجنوبي وزعزعة الاستقرار في المنطقة.


وما يؤكد فرضية هذا التناغم التكتيكي هو ما حدث من قبل، وتحديدا في يونيو المنصرم، إذ تمكنت قوات اللواء الأول دعم وإسناد من اعتراض وإسقاط مسيرة حوثية أثناء محاولتها استهداف مواقع عسكرية تابعة للواء في المحفد بأبين. وأفادت مصادر عسكرية حينها بأن جماعة الحوثي أطلقت قذيفتين باتجاه الموقعين، إلا أن القوات الجوية للواء رصدت المسيرة وأسقطتها قبل أن تتسبب في أي خسائر بشرية أو مادية. هذه المحاولة الحوثية السابقة لاستهداف ذات المواقع التي ضربتها القاعدة بسيارة مفخخة أخيرا، تكشف عن استهداف مشترك لهدف واحد، ما يعزز الاعتقاد بوجود سعي متضافر لزعزعة استقرار المحفد وإضعاف اللواء الأول "دعم وإسناد" تحديدا.


كما أن تقارير الخبراء والدلائل الإقليمية تشير إلى أن شبكات الدعم الخارجي لعبت دورا في تعزيز قدرات هذه الجماعات؛ تمويل وتدريب واحتضان قيادات، وكل ذلك فضلا عن تسهيل قنوات تواصل ميدانية، ما يضع النشاط الإرهابي في إطار مشروع أوسع له أبعاد إقليمية تتجاوز حدود اليمن.


وهنا، لا يمكن تجاهل زاوية جديدة على المألوف، فتحت وطأة الضغط الإقليمي والدولي المتصاعد بسبب اعتقال موظفين في منظمات أممية، قد يكون هناك عنصر تكتيكي في تصرفات القاعدة، من خلال شن هجوم يخفف عن الحوثي الضغط الدولي أو يصرف الأنظار. 


ولا يقتصر هذا التناغم على الأرض، بل يمتد إلى الفضاء الدعائي أيضا. فقد أصدر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب قبل أيام بيانا يهاجم فيه المملكة العربية السعودية، محرّضا أنصاره وغيرهم على تنفيذ عمليات. جاء ذلك بالتزامن مع حملة تحريضية تصعيدية من قبل جماعة الحوثي ضد السعودية، كان من أبرزها تغريدات صادرة عن قيادات بارزة كمحمد البخيتي ونصر عامر وآخرين. 


ومما يعزز مسألة هذا التخادم والرسائل المزدوجة، هو البعد الدعائي الذي اختارته القاعدة لهذه العملية. فعلى رغم أن العملية نفذت في مديرية المحفد وضد قوات جنوبية، إلا أن الأسماء المختارة للهجوم كانت تحمل دلالات فلسطينية واضحة، أبرزها اسم "القدس لن تهوّد"، إلى جانب ظهور الانتحاريين في التسجيلات المصورة بعمائم فلسطينية. ولا شك أن هذا التوجيه الدعائي يكشف عن تناغم لافت مع الخطاب الحوثي الأخير الذي كثّف من اتهاماته لخصوم الجماعة – وفي الجنوب تحديدا - بـ"التصهين" أو العمل ضمن أجندات معادية للقضية الفلسطينية، محاولا بذلك نزع أي شرعية وطنية عنهم. ومن هنا فإنّ ربط عملية إرهابية داخلية بالقضية الفلسطينية يخدم هدفين، أولهما إضفاء "شرعية جهادية" زائفة على العملية، وثانيهما توفير غطاء دعائي لاتهام الحوثي المضاد للقيادات الجنوبية بالعمالة، وهو ما يرسّخ فكرة وجود هدف استراتيجي مشترك في استهداف الجنوب.


مثل هذا الانسجام والتقارب في الخطاب الدعائي لا يمكن اعتباره محض صدفة، وبالذات لدى من يراقب مسار التحريض المتشابه بين الطرفين من حيث الأسباب والدوافع والأهداف. 


الضغط السياسي والخطر الإرهابي


لم يأت هجوم المحفد في فراغ سياسي؛ بل جاء كرد فعل عنيف ومدروس على الزخم الشعبي والسياسي الذي شهده الجنوب مع إحياء الذكرى الثانية والستين لثورة 14 أكتوبر. هذه المناسبة تحولت هذا العام إلى مظلة سياسية جامعة أعادت التذكير برمزية الثورة وأهدافها التاريخية، وفي مقدمتها "التحرير والاستقلال".


الفعاليات التي عمت محافظات جنوبية عدة لم تكن احتفالية فحسب، بل حملت رسائل سياسية صريحة وذات سقف عالٍ، من قبيل الدعوة إلى إصلاح مؤسسات الدولة، وتعزيز الوحدة الجنوبية، وترسيخ الحوار الداخلي كأداة لتثبيت الموقف الجنوبي في أي عملية تفاوضية مقبلة. ووسط هذا الزخم، ألقى عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي، خطابا قاطعا أكد فيه أن استقلال الجنوب "قادم رغم المؤامرات"، مشددا على أن أي تسوية سياسية في اليمن لن تكون ممكنة من دون تمثيل الجنوب كطرف رئيسي.


هذا الحراك السياسي الكثيف، الذي أعاد طرح القضية الجنوبية كأولوية، وضع الجنوب في واجهة المشهد الإقليمي والداخلي. وعليه، فإن استهدافه بعملية كبيرة من قبل تنظيم القاعدة بعد أيام فقط من هذا الزخم، لا يبدو محض مصادفة. فالضربات في لحظات الصعود السياسي تخدم غايتين في آن واحد، أولهما تقويض الثقة العامة بالقيادة الجنوبية من خلال إظهار عجزها الأمني، وثانيهما تشتيت الجهود السياسية بإشغالها بأزمات أمنية متلاحقة تبعدها عن التركيز على استكمال البناء الداخلي.


الأهم من ذلك، أن قدرة المجلس الانتقالي على حشد الجماهير في أكثر من محافظة وتأكيده على هدف الاستقلال قد أثارت استياء وقلق خصومه الإقليميين والداخليين، وعلى رأسهم جماعة الحوثيون. فالصعود الشعبي والسياسي للتيار المطالب بالاستقلال في الجنوب يقضي مباشرة على أطماع الحوثيين في السيطرة على الجنوب أو بسط نفوذهم عليه، ويزيل أي فرصة لهم لتوحيد اليمن تحت حكمهم. وهنا، يصبح هجوم المحفد، عبر تنظيم القاعدة، جزءً من جهد تكتيكي يهدف إلى ضرب هذا الزخم الجنوبي أو على الأقل الحد من تأثيره.


دلالات الهجوم


على الرغم من مصرع جميع عناصر القاعدة الذين نفذوا عملية المحفد وفشل الأهداف الاستراتيجية للهجوم، إلا أنّ الهجوم يرسل إشارات مهمة لكنه ليس إعلان عودة كاملة لتنظيم القاعدة. استخدام سيارة مفخخة في ضربة واحدة يوضح أن التنظيم لا يزال يملك قدرة على التخطيط وتجهيز هجمات ذات أثر كبير، وهذا أمر يجب أخذه بجدية من قبل الجهات الأمنية، وأيضا الجهات الدولية المسؤولة عن تقديم الدعم لملف مكافحة الإرهاب. لكن هذا لا يعني أن القاعدة "تعافت".


كما أن العودة إلى تنفيذ عمليات تحمل الطابع الانتحاري، بعد توقفها لفترة، يحمل دلالات على عودة نسبية للتماسك الداخلي، إذ كان هذا النوع من العمليات قد توقف نظرا لتراجع مستوى الاستعداد للتضحية على إثر الخلافات الداخلية المرتبطة بـ"خلافة" داعش وعوامل أخرى. أمر آخر واضح للعيان: اختيار المحفد كهدف، خارج معقل تنظيم القاعدة النشط في مديرية مودية شرقي أبين، يكشف عن قدرة تشغيلية أكبر ومرونة في الحركة، على الرغم من أن المعارك مع التنظيم تتركز في مناطق وعرة حدودية مع البيضاء وشبوة.


كما أن تعقيد العملية يوضح أن التنظيم قادر على تنفيذ هجمات مركبة عندما تتوفر له المعلومات والظروف المناسبة. والرسالة الأمنية البسيطة هي: سد الثغرات الاستخباراتية واللوجستية سيقلل فرص تكرار مثل هذه الضربات.


استنتاج


لم يكن هجوم المحفد حدثا أمنيا معزولا، بل يندرج ضمن سياق استراتيجي متقن التوقيت. إنه يخدم مصلحة واضحة في زعزعة استقرار الجنوب، وإثبات عجز السلطات المحلية عن حماية نفسها، وتعميق السخط الشعبي بسبب الخدمات، بما يفتح الباب أمام تحركات سياسية أو عسكرية قد تخدم مصالح جماعة الحوثي وحلفائها. 


ومن هنا، فإن التعامل مع هجوم المحفد لا يجب أن يكون أمنيا فحسب، بل سياسي واستراتيجي أيضا، كونه يعكس تحديا يتجاوز القاعدة كتنظيم إلى منظومة مصالح أوسع تتقاطع عند هدف واحد: إبقاء مناطق الجنوب في حالة استنزاف دائم. 


وكما أثبتت فعاليات أكتوبر أن الجنوب قادر على استعادة صوته، فإن مواجهته لهذا النمط من التخادم بين القاعدة والحوثيين تتطلب يقظة دائمة، وحصافة سياسية وأمنية تعمل على تحويل كل محاولة لزعزعة الاستقرار إلى فرصة لتقوية التماسك الداخلي.


إبراهيم علي

اسم مستعار لخبير متخصص في الجماعات المسلحة. باحث غير مقيم في مركز سوث24 للأخبار والدراسات

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا