التحليلات

الفضاء الرقمي أداة للعنف: تحليل قانوني للتشهير والتحريض ضد النساء في اليمن

تصميم: مركز سوث24

18-12-2025 الساعة 10 مساءً بتوقيت عدن

مركز سوث24 | د. هبة عيدروس، نادية إبراهيم


تشهد اليمن مؤخراً تحوّلاً في طبيعة العنف تجاه النساء العاملات في المجال العام، خاصة الناشطات على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تتعرض هؤلاء الناشطات والصحفيات للتشهير والتحريض العلني على تلك المواقع بما يُهدِّد سلامتهن الجسدية والنفسية وحقهن في حرية التعبير. وهذه الممارسات تُشكل انتهاكًا لحقوق الإنسان الأساسية ويعاقب عليها القانون، وهذه الأفعال تتعارض والتزامات اليمن بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. 


يأخذ العنف الرقمي أبعادًا أكثر خطورة في اليمن، حيث يتداخل مع الصراع السياسي والعسكري، ويتغذى من بنية اجتماعية تقليدية تضع قيودًا صارمة على النساء وتجعل من السمعة والشرف قيمًا قابلة للاستهداف بسهولة. لذلك تعرّف منظمة العفو الدولية العنف المرتبط بالتكنولوجيا (Technology-facilitated gender-based violence-TfGBV) بأنه "أي عمل من أعمال العنف يرتكبه فرد أو أكثر، ويُرتكب أو يُساعد أو يُتفاقم أو يُعزز جزئياً أو كلياً باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أو الوسائط الرقمية، ويؤثر بشكل غير متناسب على النساء والفتيات والأشخاص الآخرين بناءً على ميولهن الجنسية الفعلية و/أو المُدركة، وهوياتهن الجنسية و/أو تعبيرهن عنها، مسببًا أذى جسديًا ونفسيًا واقتصاديًا وجنسيًا".


يغطي هذا التعريف مجموعة من الانتهاكات التي تشهد ارتفاعًا ملحوظًا في اليمن، مثل: الابتزاز الإلكتروني، التحرش، التنمر عبر الإنترنت، نشر الصور والمعلومات الشخصية دون موافقة (Doxing)، إنشاء حسابات وهمية للتشهير بالضحايا، ونشر الشائعات والمعلومات المضللة (Disinformation).


ويحلّل التقرير شكليّ التشهير والتحريض الرقمي قانونيًا، مستندًا إلى توثيق رقمي يوضح استخدامهما كأدوات قمع خاصة ضد النساء في اليمن، ويبرز ضعف الحماية التشريعية وضرورة إصلاحها وإيجاد/ تفعيل آليات تنفيذية توفّر حماية كافية.


ويقدم هذا التقرير الظاهرة من وجهة قانونية مع أمثلة واقعية متزامنة مع الحملة العالمية لمناهضة العنف ضد المرأة.


أولاً: الخلفية والسياق


يعيش اليمن منذ عام 2014، صراعًا مسلحًا أدى إلى تراجع حاد في جميع مؤشرات الحريات، ويشهد تحول الفضاء الرقمي إلى أداة من أدوات العنف والقمع، تستهدف بفعالية خاصة النساء الناشطات في المجال العام والصحفيات، اللاتي يجدن أنفسهن في مرمى نيران متقاطعة من العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية. وتكمن الخطورة في أنّ العنف الرقمي لا يقتصر أثره على الشاشات، بل يتسرب إلى حياة الضحايا الواقعية، معرضًا سمعتهن وحياتهن للخطر، مساهمًا في تكريس ثقافة الصمت والخوف.


أدّت الأزمة اليمنية وانهيار مؤسسات الدولة إلى بروز الفضاء الرقمي كساحة صراع جديدة، تحوّلت فيها منصات التواصل، مثل فيسبوك، من أدوات للتعبير إلى وسائل فعّالة للتشهير والتحريض، خاصة ضد النساء الناشطات والصحفيات.


ولم يعد هذا العنف مجرد مضايقات فردية، بل أصبح جزءً من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى شيطنة الخصوم، وإسكات الأصوات الناقدة، وتكريس ثقافة الخوف التي تخدم أهداف أطراف الصراع. تأخذ هذه الظاهرة أبعادًا أكثر خطورة عندما يتعلق الأمر بالنساء في مجتمع يمني تقليدي، حيث ترتبط سمعة المرأة وشرفها ارتباطًا وثيقًا بمكانة عائلتها ومكانتها الاجتماعية.


إنّ استهداف النساء عبر حملات تشهير وتحريض منظمة لا يهدف فقط إلى تشويه صورتهن الشخصية، بل يشمل تقويض مصداقيتهن المهنية وعزلهن مجتمعيًا، لإسكات أصواتهن ودفعهن للانسحاب من الفضاء العام. 


ويشكّل التشهير والتحريض جوهر استهداف النساء في الفضاء الرقمي؛ إذ يتجاوز التشهير نشر الأكاذيب ليشمل تسريب الصور والمعلومات الحساسة دون موافقة الضحية، وهو ما يعرف بـ "non-consensual dissemination of images or sensitive information"، مما يدمّر سمعتها في مجتمع شديد الحساسية للشرف. أمّا التحريض فيأخذ شكل تهديدات مباشرة وحملات منظمة تدعو لاستهداف الصحفيات والناشطات وعائلاتهن، ما يخلق بيئة عدائية تمتد من العالم الرقمي إلى الواقع. وتتفاقم خطورة ذلك مع الانفلات الأمني وغياب الردع القانوني في اليمن، حيث تسمح الفجوات التشريعية بانتشار هذه الجرائم دون محاسبة، ما يدفع كثيرًا من النساء للرقابة الذاتية أو الانسحاب من الفضاء الرقمي. وتُستهدف النساء بشكل مضاعف كونهن ناشطات ونساء في مجتمع تحكمه معايير متشددة حول السمعة والشرف.


مؤخراً، تعرضت العديد من الناشطات، الصحفيات، والعاملات في المجال العام لحملات تحريض وتشهير ممنهجة تم استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي فيها للنيل من سمعتهنّ ومهنيتهنّ. على سبيل المثال: الحملة التي نالت من الصحفية الإعلامية عهد ياسين، من قبل الداعية المعروف بآرائه المثيرة للجدل عبدالله العديني، وهو عضو البرلمان اليمني عن حزب الإصلاح (فرع الإخوان المسلمين في اليمن)، متحدثًا عن إظهار ساقيها وملابسها في القناة الفضائية التي تقدم برنامجها فيها، وهي ليست أول امرأة يستهدفها في خطاباته الدينية وحملاته على النساء في اليمن. وبالتزامن مع حملة الـ 16 يومًا لمناهضة العنف ضد المرأة، تتعرض الناشطة نورا الجروي، رئيسة تحالف نساء من أجل السلام في اليمن، لهجوم رقمي شرس باستخدام معلومات مغلوطة تستهدف اغتيالها معنويًا واجتماعيًا وسياسيًا، يقوده الصحفي أنيس منصور، رئيس مركز "هنا عدن للدراسات" ومستشار سابق بالخارجية اليمنية عبر حملات تضليل وفبركات تستهدف إسكات صوتها. يمثل ما جرى اعتداءً رقمياً ممنهجاً على امرأة تعمل في الدفاع عن حقوق النساء والناجيات في اليمن، ويجسد أحد أخطر أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي. وقد بادرت شبكة من منظمات المجتمع المدني والمدافعات بالتضامن معهن على نطاق واسع


ثانيًا: تحليل قانوني للنصوص المتعلقة بالتشهير والتحريض العلني


1) قانون الجرائم والعقوبات رقم(12) لعام 1994م: تعتبر المادتان (192) و (193)، من أهم النصوص القانونية التي يمكن استخدامها لمواجهة بعض أشكال العنف الرقمي، خاصة التحريض العلني، رغم أنّ هذا القانون وُضع قبل ظهور ثورة المعلومات وتقنية الاتصالات الحديثة. وتكمن أهمية هاتين المادتين، في أنهما تتيحان إطارًا قانونيًا لمساءلة مرتكبي بعض الأفعال التي تتم عبر الفضاء الرقمي.


ويهدف هذا التحليل إلى تقييم هاتين المادتين من حيث قدرتهما على مواجهة ظاهرة التحريض العلني وخطاب الكراهية في العصر الرقمي، وإمكانية تطبيقهما بشكل فعّال على الجرائم المرتكبة عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.


تميزت المادة (192) بتعريف "العلانية" تعريفًا واسعًا، حيث اشتمل النص على عبارة "أية وسيلة أخرى من وسائل التعبير عن الفكر". يوفّر هذا النص مرونة كبيرة في تفسيره ليشمل وسائل الاتصال الحديثة مثل: الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. ويمكن أن يفسر على أنه يشمل المنشورات على فيسبوك، تغريدات على (X)، الرسائل النصية على الواتساب، البريد الإلكتروني، وغيرها من الوسائل الرقمية.


وأضاف المشرع للعلانية جملة "مجرد التوزيع على الأشخاص دون تمييز بينهم ولو كان المكان غير عام" وتعد هذه الفقرة مهمة، حيث يتوافق هذا النص بشكل كبير مع طبيعة المحتوى الرقمي، الذي غالبًا ما يتم توزيعه على شريحة واسعة من الجمهور دون تمييز، حتى لو كان المستخدمون يتلقون هذا المحتوى في أماكن خاصة مثل: المنزل، العمل، أو أي مكان خاص آخر. فعلى سبيل المثال: نشر أحدهم منشورًا على فيسبوك مخصص للعامة (Public Post) يعتبر توزيعًا على أشخاص دون تمييز بينهم، بالتالي يندرج تحت تعريف العلانية حسب هذه المادة.


بناءً على ما سبق، يمكن القول إنّ المادة (192)، توفر أساسًا قانونيًا لتطبيق أحكام جريمة التحريض العلني للمادة (193) وجرائم أخرى قد ترتكب بناء عليه (سواء في منشورات مستقلة أو تعليقات على ذات المنشور، أو على الواقع) مثل: السب والقذف، الإيذاء الجسماني، القتل وغيرها من الجرائم الناجمة عن التحريض عبر الفضاء الرقمي بصورة علنية. 


كما تجرّم المادة (193) فعل "الإغراء" أو "التحريض" على ارتكاب جريمة أو عدة جرائم. ويشمل هذا النص الأفعال المباشرة وغير المباشرة التي تهدف إلى حث الآخرين على ارتكاب أفعال إجرامية شريطة توافر العلانية لتحقق الجريمة، أي بالوسائل المحددة في المادة (192). وبما أنّ المادة الأخيرة يمكن أن تشمل وسائل التواصل الاجتماعي كما أوضحنا، فإنّ التحريض الذي يتم عبر هذه الوسائل يعتبر تحريضًا علنيًا. كما تشترط المادة لقيام المسؤولية على المحرّض أن "تقع الجريمة أو الجرائم" بناءً على هذا التحريض. قد يشكل الشرط الأخير عائقًا أمام تطبيق المادة في بعض حالات العنف الرقمي، خاصة التحريض الذي لا ينجم عنه فعل مادي مباشر، كأن يقوم شخص بالتحريض الصريح أو الضمني على منصات التواصل الاجتماعي على استهداف ناشطة في مجال معين بالقتل أو العنف، لكن لم يتم تنفيذ هذا التحريض. وهنا قد لا ينطبق حكم المادة (193)، لأنّ الجريمة المحَرَّض عليها لم تحدث فعليًا.


إلا أن هناك صعوبة في إثبات العلاقة السببية بين التحريض الرقمي والفعل الإجرامي الواقع على الضحية. ومع ذلك يعد المحرّض في هذه المادة شريكًا في الجريمة التي تقع على الضحية، وتقرر له ذات العقوبة المقررة لمرتكب الجريمة ما لا تزيد عن (5) سنوات أو الغرامة (عدا جرائم الحدود والقصاص).


2) قانون الصحافة والمطبوعات رقم (25) لعام 1990م: تمثل المادتان (103) و(104)، جزًء من الإطار القانوني المنظم للعمل الإعلامي، ورغم صدوره قبل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن تطبيقه على بعض أشكال المحتوى الرقمي المتعلقة بالتشهير والتحريض. ويهدف تحليل النصين إلى تقييم مدى قدرتهما على مواجهة العنف الرقمي ضد النساء في المجال العام.


تركز المادة (103) بشكل أساسي على العاملين في الصحافة المقروءة، المسموعة، والمرئية، وتحدد فئات معينة مثل: صاحب الصحيفة، رئيس التحرير، والصحفيين. وهذا التحديد قد يشكل قيدًا على تطبيقها على الفضاء الرقمي، حيث إنّ أي شخص يمكن أن يكون ناشرًا للمحتوى دون أن يكون صحفيًا بالمعنى الحقيقي. فالمادة لا تشمل بشكل صريح مدونيّ أو مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أو مديري الصفحات الإلكترونية الذين ليسوا مرخصين كوسائل إعلام رسمية.


بينما الفقرة (5) التي ورد فيها "كرامة الأشخاص والحريات الشخصية" تعتبر مهمة في مواجهة ظاهرة التشهير الرقمي. فهو يمنع نشر أي شيء يمس كرامة الأشخاص والحريات الشخصية بهدف الترويج والتشهير الشخصي. 


وعليه، يمكن لهذا النص أن يطبّق على حملات التشهير المنظمة التي تستهدف النساء عبر نشر معلومات كاذبة أو صور خاصة أو شائعات تمس كرامتهن وتشوّه سمعتّهن، فإذا تم تفسير "التشهير الشخصي" بشكل واسع ليشمل الأفعال التي تتم عبر الإنترنت، فإنّ هذه الفقرة يمكن أن تكون أساسًا قانونيًا لمساءلة مرتكبي هذه الأفعال. كما أنّ الفقرة (9) من ذات المادة يمكن توظيفها في مواجهة ظاهرة التحريض العلني، فهي تمنع نشر أي شيء يحرّض على استخدام العنف أو الإرهاب.


وبذلك يمكن أن يطبّق على حملات التحريض التي تستهدف النساء عبر التهديد بالقتل أو العنف بأي بجميع أشكاله تجاههن. وإذا تم توظيف النص "التحريض على العنف" بحيث يشمل التحريض العلني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه يمكن أن يكون نصًا كافيًا لمساءلة مرتكبي هذه الأفعال.


كما تنص المادة (104) على عقوبات متوسطة، إذ إنّ الحد الأقصى للغرامة البالغ (10,000 ريال) لا يُعدُّ رادعًا في ظل التضخم الاقتصادي، والحبس مدة سنة قد يكون كافيًا في بعض الحالات، لكنه لا يعكس خطورة العنف الرقمي وآثاره النفسية والاجتماعية العميقة.


يحسب لهذا القانون أنّ العقوبة ليست حصرية، بل يمكن تطبيق عقوبة أشد في قانون آخر متى ارتأى القضاء ذلك لضمان عدم التكرار وإنصاف الضحايا إلى حٍد ما. ويعتمد نجاح تطبيق هذه المواد بشكل كبير على تفسير القضاة لها، وعلى استعداد النيابة العامة والمحاكم لتكييفها مع الواقع الرقمي. فإذا كانت المحاكم حداثية في تفسيرها، يمكن لهذه المواد أن تكون فعّالة في مواجهة العنف الرقمي إلى حٍد ما حتى سن تشريع جديد.


ثالثًا: التوصيات


1- وضع إطار تشريعي جنائي بجميع أشكال العنف التقليدي والرقمي، وملائمة العقوبة للأفعال الإجرامية والآثار المترتبة جراء ذلك على الضحايا خاصة النساء والأطفال.

2- وضع استراتيجية وطنية لمكافحة كافة أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي وربطها بالاستراتيجيات الإقليمية والدولية. 

3- إنشاء وحدات تحقيق قضائية متخصصة في الجرائم الرقمية ضد النساء، مع آلية ضمان حماية الشهود والمبلّغات.

4- تشجيع ودعم منظمات المجتمع المدني المحلية لتوفير مساعدة قانونية ونفسية للنساء خاصة أولئك العاملات في المجال العام، متى اقتضى الأمر.

5- تعزيز وعي المجتمع باحترام النساء ونبذ التحريض وخطاب الكراهية بأشكاله.

6- إنشاء آليات إبلاغ مبكر آمنة لمتابعة خطاب الكراهية والتحريض ضد النساء، وحدات مكافحة جرائم العنف الرقمي تتضمن إدارة خاصة بالجرائم القائمة على النوع الاجتماعي تقودها نساء أمنيات، وإمكانية توفير دور إيواء للمعنّفات إذا اقتضت الحاجة لذلك.

7- تنظيم دورات تدريبية حول الأمن الرقمي وحماية الخصوصية للعاملات في المجال العام والصحفيات.

8- إطلاق حملات توعية مشتركة بين وزارة حقوق الإنسان والشؤون القانونية والاتصالات، التربية والتعليم، والإعلام ومنظمات المجتمع المدني من خلال تنفيذ برامج توعية، إعلانات، حوارات مجتمعية، ندوات ..إلخ .

9- المناصرة الدولية والوطنية لقضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي التي تشكل تهديدًا على الحياة والسلامة والسمعة الشخصية.


د. هبة عيـدروس 
خبيرة قانونية وباحثة أكاديمية في قضايا المرأة، الجرائم السيبرانية، وحريات التعبير.
نادية إبراهيم
خبيرة وباحثة في قضايا النوع الاجتماعي والحماية (اليمن والشرق الأوسط وشمال أفريقيا)

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا