التحليلات

التفاهم بين القاعدة والحوثيين: مكاسب متبادلة وتحديات للقوات الجنوبية

زعيم الحوثيين عبد الملك وزعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب سعد بن عاطف (تصميم مركز سوث24)

آخر تحديث في: 15-09-2025 الساعة 2 مساءً بتوقيت عدن

"الحوثيون كسبوا استقرارًا داخليًا وصورة أمنية محسّنة، فيما حصلت القاعدة على موارد ودعم عسكري وبشري ساعدها على إعادة التموضع نحو الجنوب.."

مركز سوث24 | إبراهيم علي


منذ العام 2022، اختفى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من جبهات المواجهة مع الحوثيين، بعد سنوات من المعارك والعمليات المتبادلة في محافظة البيضاء ومحيطها. هذا التحوّل المفاجئ فتح الباب أمام تساؤلات واسعة حول طبيعة العلاقة بين الطرفين، خصوصا مع تزايد الإشارات إلى وجود تفاهم غير معلن تقف خلفه إيران. 


وعلى ما يبدو فإن هذه التهدئة لم تكن عادية، بل مثّلت ترتيبات مصلحية متبادلة؛ فالحوثيون كسبوا استقرارًا داخليًا وصورة أمنية محسّنة، فيما حصلت القاعدة على موارد ودعم عسكري وبشري ساعدها على إعادة التموضع نحو حدود الجنوب.


لكن خلف هذه المكاسب تكمن تناقضات حادة، إذ يقدم الحوثيون أنفسهم كحاجز أمام "الإرهاب"، بينما يسهّلون إعادة إنتاجه بعيًدا عن مناطق نفوذهم في الشمال. 


وفي المقابل، يواصل تنظيم القاعدة الترويج لخطاب "المواجهة مع الرافضة الشيعة"، على حد وصفه، وهو في واقع الحال يستفيد من تسهيلات جماعة مرتبطة بإيران. تستهدف هذه القراءة التحليلية كشف أبعاد هذا التداخل المعقد الاستراتيجية وانعكاساته المستقبلية على المشهد اليمني.


خلفية


منذ مطلع العقد الماضي، مثّل اليمن ساحة صدام متكرر بين القاعدة والحوثيين. محافظة البيضاء كانت أبرز مسرح لهذا التوتر، حيث نفّذ التنظيم هجمات عديدة، ورد الحوثيون بحملات اقتحام وسيطرة على مناطق جبلية معروفة بكونها معاقل للتنظيم، مثل مديريات الزاهر، الصومعة، مكيراس، وولد ربيع. بين عامي 2015 و2020، وثّقت تقارير ميدانية عشرات المواجهات المسلحة التي أسفرت عن خسائر بشرية كبيرة للطرفين.


لكن بحلول 2022، توقف هذا الصراع بشكل لافت. كان التنظيم في العام 2021 قد انسحب من مناطق سيطرته في محافظة البيضاء بعد عمليات عسكرية وأمنية للحوثيين. تؤكد مصادر مركز سوث24 أن الانسحاب حدث نتيجة لتفاهمات بين الطرفين وليس لعملية عسكرية أو أمنية.


بخصوص التهدئة العامة، لم يعلن التنظيم هدنة، ولم يصدر الحوثيون بيانًا بانتصار نهائي. التحليل الأقرب هو وجود "تفاهم غير معلن"، صاغت خطوطه إيران التي ترى في الحوثيين أداة نفوذ إقليمي، ولا تمانع في استخدام القاعدة كورقة ضغط غير مباشرة ضد خصومها، طالما بقي نشاط التنظيم بعيدا عن مناطق سيطرة الجماعة في الشمال. هذا الأمر أكدته حتى تقارير أممية حديثة.


مكاسب الحوثيين


كان الحوثيون أول المستفيدين من التهدئة، فغياب هجمات القاعدة عن صنعاء وصعدة وعمران وبقية مناطق الشمال سمح للجماعة بترويج خطاب مزدوج: داخليًا باعتبارها سلطة قادرة على تأمين الحياة اليومية، وخارجيًا كقوة يمكن أن تكون شريكا في "مكافحة الإرهاب". 


غير أن هذه الصورة "النموذجية" في الجانب الأمني لم تكن لتتحقق لولا توقف عمليات القاعدة. فالتجربة الميدانية في محافظة البيضاء تؤكد أن الجماعة فشلت خلال السنوات السابقة في تأمين مناطق سيطرتها ضد هجمات التنظيم. 


وكانت تلك العمليات تمثل إحراجًا لقدراتها العسكرية والأمنية، الأمر الذي يكشف أن نجاح الحوثيين في تسويق أنفسهم كقوة ضابطة للوضع الداخلي لم يكن نتيجة تفوق ذاتي، بل ثمرة مباشرة للتفاهم غير المعلن مع القاعدة، والذي لولاه لظلت الجماعة تواجه ضغوطا كبيرة وتحديات يومية في ضبط المشهد الأمني.


هذه الصورة انعكست في ثلاثة مستويات:


- المستوى الأمني: المناطق الخاضعة للحوثيين بدت أكثر استقرارا مقارنة بمناطق الجنوب حيث عاود التنظيم نشاطه. هذا منح الحوثيين هامش تفوق سياسي على الحكومة المعترف بها دوليا، التي تعاني من اختراقات أمنية متكررة.

- المستوى الإعلامي: قنوات الجماعة ووسائل إعلام حليفة ضاعفت من خطاب "الأمن النموذجي"، مستخدمة غياب العمليات الإرهابية كدليل على كفاءة إدارتها.

- المستوى السياسي والدبلوماسي: بفضل هذه الصورة، يسعى الحوثيون إلى كسر جزء من العزلة الدولية من خلال القول إنهم الأقدر على ضبط التهديد الإرهابي، في مواجهة خصومهم الذين يفشلون في احتوائه.


غير أن هذا الخطاب يحمل تناقضا بنيويا، فالجماعة التي تزعم مكافحة الإرهاب هي ذاتها التي أطلقت العشرات من عناصر القاعدة من سجونها، تحت غطاء "صفقات تبادل أسرى". وبهذا فإن الاستقرار الظاهر في الشمال ما هو إلا نتاج تفاهم مع التنظيم، لا نتيجة مواجهة حقيقية معه.


مكاسب القاعدة


بالنسبة إلى تنظيم القاعدة، مثلت التهدئة مع الحوثيين فرصة نادرة لإعادة التقاط الأنفاس بعد سنوات من الضربات الأمنية والعسكرية، خصوصا من جانب القوات الجنوبية منذ 2016. هذه القوات تبنت استراتيجية مغايرة لتلك التي اتبعتها الحكومات السابقة، فلاحقت عناصر التنظيم إلى معاقله الجبلية والريفية بدلا من الاكتفاء بطرده من المدن، ما كبّد التنظيم خسائر فادحة وأربك حساباته.


لكن الدعم الذي حصل عليه التنظيم عبر الحوثيين أو عبر إيران غيّر المعادلة. فالمؤشرات الميدانية أظهرت:


- إمداد عسكري: تقارير ميدانية ذكرت وصول طائرات مسيّرة وأسلحة نوعية إلى يد التنظيم، وهو ما لم يكن متاحا له سابقا.

- دعم مالي: تمويل مباشر أو غير مباشر ساعد على إعادة ترتيب صفوفه ودفع نفقات مقاتليه.

- إطلاق قيادات: الإفراج عن قيادات وعناصر من السجون الحوثية ضاعف رصيد التنظيم البشري بسرعة غير متوقعة.


هذه الموارد انعكست في عودة نشاط القاعدة إلى محافظات شبوة وأبين وحضرموت، حيث نفّذ سلسلة عمليات ضد القوات الجنوبية، في محاولة لإعادة مشهد الفوضى الأمنية في هذه المناطق. وبذلك يمكن القول إن الحوثيين استخدموا القاعدة كأداة لإرباك خصومهم في الجنوب، فيما جنوا هم ثمار الهدوء في الشمال.


تفكيك خطاب الطرفين


كل من الحوثيين والقاعدة يقدّم رواية متماسكة ظاهريا عن مبرراته وسلوكه، لكن تحليل الوقائع يكشف التناقضات:


- خطاب الحوثيين: يزعمون أنهم يحمون المجتمع من "الإرهاب التكفيري"، بينما هم في الواقع يعقدون تفاهمات مع التنظيم ويستفيدون من توظيفه ضد خصومهم. التناقض هنا يقوّض أي ادعاء بامتلاك مشروع "دولة" أو "نموذج أمني"، ويكشف البعد النفعي البحت لسلوك الجماعة.

- خطاب القاعدة: يقدّم نفسه كحامٍ للسنة ضد "الخطر الرافضي"، لكنه يقبل الدعم من جماعة مرتبطة بإيران، خصمه العقائدي المفترض. هذا التناقض يكشف عمق الأزمة الداخلية للتنظيم، إذ تراجع البعد الأيديولوجي أمام الضرورات العملياتية للبقاء.


النتيجة أن الخطابين معا لا يعكسان سوى تكتيكات ظرفية، فالحوثيون يستخدمون "مكافحة الإرهاب" لتثبيت سلطتهم، والقاعدة تستخدم "العداء للحوثيين" لاستقطاب المقاتلين، بينما الحقيقة أن كليهما نسج تفاهمات غير مباشرة تتيح لكل طرف تحقيق أهدافه المرحلية.


انعكاسات


يمكن القول إن المستفيد المباشر من هذه المعادلة هم الحوثيون الذين ضاعفوا استقرارا شكليا في الشمال على حساب إرباك الوضع في الجنوب. فكل عملية للقاعدة ضد القوات الجنوبية تضعف سلطة الحكومة الشرعية، وتعزز رواية الحوثيين بأن خصومهم عاجزون عن فرض الأمن.


أما على المستوى الأوسع، فإن هذه الدينامية تعني أن الإرهاب لم يُهزم، بل جرى "إعادة توجيهه". لم يعد يستهدف الشمال حيث يتمركز الحوثيون، بل يتركّز في حدود الجنوب حيث تخاض معارك سياسية وعسكرية بين قوى متنازعة. هذا يطيل أمد الصراع ويجعل أي تسوية سياسية شاملة أكثر تعقيدا.


إقليميا، يطرح هذا الوضع أسئلة حساسة: إذا كانت إيران بالفعل وراء التفاهم غير المعلن، فإنها بذلك تتحكم في مسار الإرهاب في اليمن، وتوظفه متى شاءت كورقة مساومة في مفاوضاتها الإقليمية والدولية.


السيناريوهات المستقبلية


من خلال تحليل المسار الحالي، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية:


- استمرار الوضع الراهن: يظل الشمال مستقرا ظاهريا تحت سلطة الحوثيين، فيما ينشط القاعدة في الجنوب لزعزعة خصوم الجماعة. هذا السيناريو يخدم الحوثيين ويتيح لإيران الاحتفاظ بورقة ضغط فعّالة.

- انقلاب القاعدة على التفاهم: إذا شعر التنظيم أنه استنزف لصالح الحوثيين دون مكاسب كافية، أو إذا أراد أن يرد عمليا على تقارير التخادم، قد يعاود الهجمات ضدهم. لكن هذا يتوقف على توازنات دقيقة في التمويل والدعم اللوجستي.

- تدخل إقليمي مضاد: إذا تصاعدت الضغوط الإقليمية والدولية، قد تطلق عمليات عسكرية واسعة ضد التنظيم في الجنوب، ما يضعف أيضا حسابات الحوثيين. لكن التجارب السابقة تشير إلى صعوبة تحقيق حسم عسكري دائم ضد القاعدة.


استنتاج


منذ 2022، أعادت التهدئة غير المعلنة بين القاعدة والحوثيين رسم خطوط الصراع في اليمن. استفاد الحوثيون بإظهار نموذج "مناطق آمنة"، فيما استعاد التنظيم حيويته على حدود الجنوب بدعم غير مباشر من خصومه المعلنين. لكن وراء هذه المكاسب المؤقتة تختبئ تناقضات استراتيجية تهدد الطرفين معاً: الحوثيون يفقدون صدقيتهم كقوة "مكافحة للإرهاب"، والقاعدة تكشف انحسار خطابها الأيديولوجي أمام حسابات البقاء.


في النهاية، يظل الخاسر الأكبر هو البلد نفسه، الذي يجد نفسه أمام معادلة تعيد إنتاج العنف والإرهاب في صورة جديدة، وتعمّق الانقسام بين شمال يسوّق "الاستقرار الموجّه"، وجنوب يعيش تحت وطأة هجمات تنظيم يستمد أنفاسه من تفاهمات خفية.


وفي هذا السياق، يبرز دعم القوات الجنوبية كركيزة حاسمة للحفاظ على الأمن والاستقرار - في مناطق سيطرة الحكومة - من عمليات القاعدة. كما أن تعزيز قدراتها العسكرية والدفاعية لا يقتصر على صد الهجمات الإرهابية، بل يشكل خطا أوليا لحماية السكان والبنية التحتية الحيوية، ويقوّي من قدرة الدولة والمجتمع على مقاومة تمدد التنظيم. 


من دون هذا الدعم المنظم والمستدام، ستستمر القاعدة في استغلال الفجوات الأمنية، ما يهدد إعادة إنتاج العنف وزعزعة استقرار الجنوب، ويجعل أي جهود لإعادة بناء السلام أكثر هشاشة وعرضة للفشل.


إبراهيم علي
اسم مستعار لباحث غير مقيم في مركز سوث24، متخصص في شؤون الجماعات المسلحة، طلب عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا