التحليلات

الخسائر الاستراتيجية للحوثيين: ما بعد تأمين القوات الجنوبية لحضرموت والمهرة

جندي من القوات المسلحة الجنوبية - صورة من: Reuters/F. Salman

آخر تحديث في: 15-12-2025 الساعة 9 مساءً بتوقيت عدن

"الأثر الأبعد لإجراءات القوات الجنوبية في محافظتي حضرموت والمهرة هو تأسيس واقع عسكري جديد يمثل حاجزا تجاه التوسع الجغرافي والاقتصادي للحوثيين، خصوصا في السياق المستقبلي للحرب أو مفاوضات السلام.."


مركز سوث24 | إبراهيم علي


يُمثل تأمين القوات الجنوبية لوادي حضرموت والمهرة تحولا جذريا في موازين القوى داخل اليمن، وتفرض تداعيات استراتيجية وخسائر كبيرة على جماعة الحوثيين، رغم أن هذه المناطق لم تكن تحت سيطرتها المباشرة. 


هذه الخسائر لا تتعلق بفقدان أرض في مواجهة مباشرة، وإنما بخسارة عمق لوجستي ومالي طالما استغله الحوثيون لتعزيز جبهاتهم الداخلية والحفاظ على استدامة الصراع طوال السنوات الماضية. فالتحرك الأخير باتجاه المحافظتين يضع قيودا فعلية على قدرة الحوثيين على التوسع والتمويل، كما يعمل على إزالة أي غطاء أمني هش كان يخدم مصالحهم غير المباشرة. 


شلّ شرايين الإمداد والتمويل 


تكمن الخسارة الأكبر والأكثر فورية للحوثيين في تضييق الخناق على الشرايين اللوجستية التي تغذي آلتهم العسكرية. ظلت محافظة المهرة، التي تعتبر بوابة البلاد الشرقية نظرًا لموقعها الاستراتيجي المطل على البحر العربي ومتاخمتها لسلطنة عمان، تشكل لسنوات طويلة شريان الإمداد الرئيسي للحوثيين. وقد استغلت الجماعة الأوضاع الأمنية المتراخية في المحافظة، لإنشاء خطوط تهريب تمتد من منفذي شحن وصرفيت عبر البر والبحر إلى مناطق سيطرتهم. هذا المسار لم يقتصر على نقل السلاح والذخائر والمخدرات فحسب، بل شمل الخبراء أيضا.


ولا شك أن هذا التهديد لم يكن نظريا، إذ أثبتت التقارير الأمنية خلال العام الجاري ضبطيات مكثفة، ففي أكتوبر 2025، تم ضبط محاولات لتهريب أكثر من ثلاثة آلاف قطعة إلكترونية، تشمل لوحات إلكترونية مبرمجة وحساسات تستخدم في صناعة الطائرات المسيرة والعبوات الناسفة، وهو ما يؤكد اعتماد الحوثيين المكثف على هذا الخط للحفاظ على تفوقهم التكنولوجي. لذا، فإن سيطرة القوات الجنوبية على تلك المناطق، تمثل إغلاقا حاسما لهذا الشريان الحيوي. 


هذا التحول يعني أن الحوثيين سيواجهون تحديا متزايدا في تعويض الخسائر واستدامة مخزونهم العسكري، مما يضغط على قدرتهم على مواصلة العمليات العسكرية الكبيرة. علاوة على ذلك، سيؤدي التحرك العسكري الجنوبي إلى تقويض شبكات تهريب المخدرات والأموال المرتبطة بالتمويل العسكري للحوثيين. هذه الشبكات الدولية، التي تشير إليها تقارير عدة بارتباطها بحلفاء إقليميين كإيران وحزب الله، تستخدم التجارة غير المشروعة لضخ العملة الصعبة اللازمة لتمويل المجهود الحربي الحوثي، بما في ذلك شراء التكنولوجيا العسكرية من السوق السوداء. 


لكنَّ السيطرة الجديدة تعني تفكيكا تدريجيا لهذه البنى التحتية المالية السرية، وهو ما يفرض ضغطا اقتصاديا إضافيا على جماعة تواجه تحديات تمويلية متزايدة بالفعل. وبالتالي، فإن الخسارة هنا ليست أمنية بحتة، بل هي خسارة مالية استراتيجية تضر بقدرة الحوثيين على استدامة الحرب.


إزالة النفوذ الهش وإغلاق نقاط الضعف الأمنية


على الرغم من أن الحوثيين لم يكونوا يسيطرون بشكل مباشر على محافظتي حضرموت والمهرة، حيث كانت تخضعان لقوات محسوبة على الحكومة اليمنية، وعلى رأسها قوات المنطقة العسكرية الأولى وحلفاؤها، فإن هذه السيطرة كانت تُعد، من وجهة نظر الحوثيين، بمثابة غطاء سياسي وعسكري ضعيف يخدم مصالحهم بشكل غير مباشر. وتتمثل الخسارة الحقيقية للحوثيين في انتهاء هذا الغطاء، إذ إن تلك القوات، رغم إظهارها العداء للحوثيين، كانت تعاني من ضعف واضح في الأداء، فضلًا عن أن وجودها كان محل خلافات سياسية وعسكرية مستمرة. وقد أسهم هذا الضعف في خلق فراغات أمنية استغلها الحوثيون وحلفاؤهم بصورة غير مباشرة لتعزيز نفوذهم ومرونة تحركاتهم.


من المهم الإشارة إلى أن هذا الغطاء الهش كان يسهّل بقاء نقاط ضعف أمنية سمحت بوجود خلايا حوثية ناشطة في المنطقة، أو بمرور آمن لمناصري الجماعة ومهربيها. إن استبدال هذه القوات بـ القوات الجنوبية، الأكثر انضباطًا ووضوحًا في العقيدة والتوجه العسكري، أدى إلى إزالة أي غطاء أو «منطقة رخوة» كان يمكن للحوثيين استغلالها. وقد ظلت تلك القوات الضعيفة، المنخرطة في صراعات داخلية أوسع مع المجلس الانتقالي الجنوبي، تساهم في تشتيت الجهد الأمني بعيدًا عن الخطر الحوثي الحقيقي. أما اليوم، ومع إزاحتها وتوحيد السيطرة تحت قيادة أكثر حزمًا في مواجهة التهديدات الأمنية، فقد أُغلق الطريق عمليًا أمام أي محاولات حوثية مستقبلية للتغلغل في العمق الشرقي للبلاد.


وتعني هذه النتيجة انتهاء أي نفوذ غير مباشر أو قدرة على استغلال حالة التراخي الأمني التي كانت سائدة في هاتين المحافظتين، وهو ما قد يدفع الحوثيين إلى حصر تركيزهم في المناطق الخاضعة لسيطرتهم المباشرة.


سد الطريق أمام التوسع الحوثي


الأثر الأبعد لإجراءات القوات الجنوبية هو تأسيس واقع عسكري جديد يمثّل حاجزا تجاه التوسع الجغرافي والاقتصادي للحوثيين، خصوصا في السياق المستقبلي للحرب أو مفاوضات السلام. إذ تكمن الخسارة الكبرى للحوثيين في بناء جدار فاصل يمنع التوسع المستقبلي شرقا نحو المنشآت النفطية. فلطالما شكلت حضرموت، بكونها أغنى محافظات البلاد بالموارد الطبيعية، هدفا اقتصاديا استراتيجيا لكل الأطراف.

 

الحوثيون، الذين يواجهون أزمة مالية خانقة، كانوا يطمحون للوصول إلى هذه الموارد إما للسيطرة عليها مباشرة أو لابتزاز الأطراف الأخرى بها. وقد فرضوا بالفعل حصارا محكما على تصدير النفط من محافظتي شبوة وحضرموت كلّف الحكومة اليمنية خسائرا تجاوزت 7 مليار دولار، جراء قصف موانئ النشيمة والضبة في أكتوبر ونوفمبر 2022.  لذا فتوحيد السيطرة الجنوبية على هذه المناطق يقطع الأمل نهائيا في تحقيق هذا الهدف الحيوي، ويحرمهم من فرصة الوصول إلى موانئ تصدير النفط والغاز، مما يضمن بقاء هذه الموارد بعيدة عن متناولهم.


كما أن هذا التطور يؤدي إلى تركيز الصراع في محاور جديدة قد لا تخدم الأهداف الحوثية التوسعية. بدلا من الاستمرار في صراع ضعيف وموزع مع القوات السابقة، يجد الحوثيون أنفسهم الآن أمام خصم موحد، قوي، ومدعوم إقليميا (المجلس الانتقالي الجنوبي). هذا يدفع الصراع نحو محاور أخرى، وقد يجبر الحوثيين على الانخراط في معارك استنزافية في جبهات جديدة مع قوات الجنوب، الأمر الذي يشتت قواهم بعيدا عن هدفهم الرئيسي وهو تأمين الشمال. 


الرد الحوثي: قلق ميداني وإعلامي مضاعف


لم تقتصر خسائر الحوثيين على التضييق اللوجستي في الشرق فحسب، بل امتدت لتظهر في ردود فعل ميدانية عصبية تعكس حالة من الارتباك والقلق من فتح جبهات جديدة ضدهم، ولا سيما عقب التصريحات الأخيرة المتعلقة بتحرير المحافظات الوسطى. ويشير هذا السلوك إلى خشية حقيقية من انتقال المواجهة إلى مناطق جديدة تُربك حساباتهم العسكرية. ويبرز هذا الارتباك بشكل واضح في ما أقدمت عليه جماعة الحوثي في طريق ثرة – مكيراس بمحافظة أبين. فبعد أيام قليلة من لقاءات وتصريحات أكدت ضرورة التوجه نحو تحرير محافظة البيضاء، سارعت الجماعة إلى تفجير وتخريب أجزاء واسعة من هذا الطريق الاستراتيجي باستخدام الديناميت والألغام، في محاولة لقطعه بالكامل وعرقلة أي تحرك عسكري محتمل للقوات الحكومية والمقاومة باتجاه مكيراس.


ولا يقتصر ارتباك الحوثيين على الميدان العسكري، بل يتجلى بوضوح في الخطاب الإعلامي للجماعة، خصوصًا في تناولها للأحداث التي شهدتها حضرموت والمهرة. فعلى الرغم من حالة العداء القائمة بينها وبين كلٍّ من المجلس الانتقالي الجنوبي والشرعية، ركزت وسائل إعلام الحوثيين هجومها بشكل مكثف ومباشر على القوات الجنوبية والمجلس الانتقالي دون غيرهما.


وفي هذا السياق، أعادت الجماعة توظيف ما يمكن تسميته بـ «الورقة الإسرائيلية» كأداة تحريض وتشويه ضد خصومها. فقبل أشهر، روّجت وسائل إعلام حوثية مزاعم عن وصول وفد إسرائيلي إلى عدن ولقائه بقيادات في المجلس الانتقالي، عقب قرارات إدارية اتخذها رئيس المجلس عيدروس الزبيدي. وتكرر هذا الأسلوب مجددًا بعد أحداث وادي حضرموت والمهرة، حيث احتفت وسائل إعلام الجماعة بادعاءات نشرتها صحيفة بريطانية حول إرسال الانتقالي ممثلين لإجراء مباحثات مع مسؤولين إسرائيليين. ويعكس هذا التوظيف المكثف محاولة يائسة لتشويه صورة الخصم محليًا وإقليميًا.


وقد بلغ هذا القلق مستوى لافتًا حينما أظهرت وسائل إعلام الحوثيين احتفاءً غير مسبوق بتصريحات صادرة عن شخصيات سعودية، وعن رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، بل وحتى بتقارير لصحف عبرية، طالما أنها تصب في إطار مهاجمة المجلس الانتقالي. ويكشف هذا السلوك أن الجماعة باتت تنظر إلى توحيد الجبهة الجنوبية تحت سيطرة القوات الجنوبية باعتباره خطرًا أكبر وأكثر إلحاحًا من خصومها الآخرين.


خلاصة


في المحصلة، يكشف المشهد الجديد في الجنوب أن الحوثيين يواجهون مأزقًا حقيقيًا بعد فقدانهم أحد أهم المسارات السرية التي كانت تُستخدم لتمرير السلاح والأموال عبر محافظة المهرة. ويؤكد هذا الإغلاق، إلى جانب حالة الخوف التي دفعتهم إلى تفجير الطرق الرابطة بين أبين والبيضاء لمنع أي تقدم عسكري محتمل، أن قدرتهم على مواصلة الحرب قد تراجعت بشكل ملحوظ. وما يجري اليوم يفرض ضغطًا متزايدًا على الجماعة، ويدفعها إلى إعادة تقييم استراتيجيتها، وربما يجعلها أكثر قابلية لتقديم تنازلات في أي مفاوضات سلام مستقبلية.


إبراهيم علي
باحث في مركز سوث24 متخصص في شؤون الجماعات المسلحة. أخفى هويته الحقيقية لأسباب أمنية

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا