الصورة: إنترنت
Last updated on: 25-08-2025 at 10 PM Aden Time
|
"ارتبط قرار حصر المعاملات بالريال اليمني بالتحولات السريعة التي شهدتها السوق خلال الأسابيع الثلاثة السابقة لإصداره، حيث ارتفعت قيمة العملة المحلية أمام الدولار بعد تدخلات من البنك المركزي.."
مركز سوث24 | عبد الله الشادلي
في الحادي عشر من أغسطس 2025، أصدر مجلس الوزراء اليمني قرارًا ملزمًا يقضي بحظر استخدام العملات الأجنبية في كافة المعاملات التجارية داخل البلاد، والاكتفاء حصريًا بالعملة الوطنية، الريال اليمني. وشمل القرار جميع أشكال البيع والشراء والتعاقدات المالية، ليشكل منعطفًا حادًا في السياسة النقدية للحكومة، ومحاولة لإعادة الاعتبار للريال كعملة سيادية وحيدة للتداول المحلي.
جاء القرار في لحظة حساسة، بعد أن شهدت العملة الوطنية تحسنًا نسبيًا خلال الأسابيع الثلاثة السابقة، إذ تراجع سعر الدولار من مستويات قياسية تجاوزت 2900 ريال منتصف يوليو، إلى نحو 1617 ريالًا مطلع أغسطس. هذا التحسن السريع بعث بصيص أمل في الشارع، الذي أنهكته موجة غلاء خانقة، لكنه في الوقت نفسه غذّى مخاوف من أن يكون مجرد انفراجة لفترة معينة، سرعان ما تبتلعها السوق المضطربة.
متعلق: خريطة الإصلاحات الاقتصادية للحكومة اليمنية، ماذا تحقق فعلاً؟
وبينما اعتبره البعض طوق نجاة لاستعادة سيادة العملة الوطنية وكبح المضاربة، يتخوف آخرون أنه قد يكون قفزة في فراغ قد تنتهي بانتكاسة أشد إيلامًا إذا لم تُرافقه إصلاحات عميقة وإجراءات صارمة. وهكذا، فتح القرار الباب على مصراعيه أمام جدل واسع حول جدواه العملية، والفوائد التي يمكن أن يحققها، والتحديات التي قد تعترض طريقه في سوق شديد التعقيد والانقسام.
القرار في سياق هش
ارتبط قرار حصر المعاملات بالريال اليمني بالتحولات السريعة التي شهدتها السوق خلال الأسابيع الثلاثة السابقة لإصداره، حيث ارتفعت قيمة العملة المحلية أمام الدولار بعد تدخلات من البنك المركزي وإجراءات حكومية هدفت إلى تقليص المضاربة في العملات. غير أن هذا التعافي لم يبعث على تفاؤل واسع لدى الجميع، إذ نظر إليه البعض باعتباره مجرد تحسن مؤقت، قابل للتراجع مع أول أزمة مالية أو سياسية جديدة.
هذا التوجس يعكس حالة فقدان ثقة متراكمة في العملة الوطنية والسياسات النقدية. فمنذ عام 2015، اعتاد المواطنون على مشاهدة الدولار في صعود متواصل دون أي تراجع، وهو ما رسّخ لديهم قناعة بأن الريال يسير في مسار هبوطي دائم.
وفي هذا السياق، يوضح الخبير الاقتصادي د. عيسى أبو حليقة أن هذه التجربة الطويلة "أفقدت الناس الثقة بقدرة البنك المركزي والقطاع المصرفي على ضبط السوق أو توفير السيولة والتحكم بالمضاربة".
ويضيف أبو حليقة في حديثه لمركز سوث24: "هذا الواقع جعل المواطنين والتجار يتشككون باستمرار في قدرات البنك المركزي، خاصة في ظل غياب إجراءات فعّالة طوال السنوات الماضية".
من هنا، فإن أي قرار بحصر التعاملات بالريال يواجه بيئة مشبعة بالشكوك والذاكرة السلبية، ما يضع الحكومة أمام مهمة مضاعفة: ليس فقط فرض الانضباط النقدي، بل أيضًا استعادة ثقة مجتمع فقد إيمانه بالعملة الوطنية بعد سنوات طويلة من التدهور المتواصل.
الفوائد المأمولة
رغم حالة التوجس التي رافقت صدور القرار، يرى خبراء الاقتصاد أن حصر المعاملات بالريال اليمني يحمل في طياته فوائد جوهرية إذا ما جرى تنفيذه بجدية. فإلى جانب أنه يعزز الثقة بالعملة الوطنية، فإنه يمثل أداة لمكافحة المضاربة العشوائية، وتدعيم السياسة النقدية للبنك المركزي، والحد من ظاهرة "الازدواج النقدي" التي أصبحت سمة بارزة في السوق اليمنية خلال السنوات الماضية.
رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، مصطفى نصر، وصف هذه الخطوة بأنها "إيجابية طال انتظارها"، موضحًا أنه "لم يكن من المنطقي استمرار التعامل بالعملات الأجنبية داخل الدورة الاقتصادية المحلية، وهو ما كان يشوه السياسة المالية والنقدية على حد سواء".
وأضاف نصر لمركز سوث24: "القرار يعزز الثقة بالعملة الوطنية ويضع حدًا للتوسع الكبير في تداول العملات الأجنبية داخل السوق المحلي، حيث لا توجد حاجة فعلية لها في التعاملات الداخلية".
ولم يقتصر الأمر على الجانب النظري، فقد بدأت بعض الجهات الرسمية في الالتزام المبكر بالقرار. فقد أعلنت جامعة عدن أن جميع الرسوم الجامعية ستُحصّل بالريال اليمني، فيما وجهت هيئة النقل البري الشركات العاملة في هذا القطاع بتوحيد تعاملاتها بالعملة الوطنية. كما أكد وزير العدل والنائب العام إلزام المحاكم ومكاتب التوثيق بتسجيل العقود بالريال فقط. وكذلك فعلت وزارة الصناعة والتجارة والخطوط الجوية ومؤسسات أخرى.
ويشدد نصر على أن نجاح هذه الخطوات يتوقف بالدرجة الأولى على التزام المؤسسات الحكومية نفسها، إذ يرى أن "المطلوب أولًا إلزام جميع المؤسسات الحكومية بعدم التعامل بالعملات الأجنبية، لأن أي استثناء يخلق طلبًا إضافيًا عليها، ويغذي المضاربة أو تهريبها إلى الخارج".
التنفيذ على الأرض
على الرغم من بدء تطبيق قرار حصر التعاملات بالريال اليمني، إلا أن التجربة العملية على الأرض تكشف عن فجوات واسعة في التنفيذ. فما يزال جزء كبير من التعاملات التجارية يجري بعملات أجنبية، خصوصًا في القطاعات المرتبطة بالسلع المستوردة والعقارات والمعاملات الكبرى. فعلى سبيل المثال، قد تُسجَّل العقود رسميًا في المحاكم بالريال اليمني التزامًا بالقرار، غير أن الاتفاقات بين الأطراف كثيرًا ما تُبرم بالدولار أو الريال السعودي، في محاولة للتحايل على القوانين وحماية الأموال من تقلبات سعر الصرف.
هذا الالتفاف على القرار يعبّر عن واقع اقتصادي معقد يجد فيه القطاع الخاص نفسه في مواجهة مباشرة مع تبعات السياسة النقدية الجديدة.
ويكشف المدير التنفيذي لشركة "الأخوين للطاقة الشمسية" المهندس ماجد النملة عن حجم هذه التحديات، قائلاً: "القرار أثّر بشكل مباشر على تعاملاتنا اليومية، خصوصًا مع الموردين المحليين حيث أصبحنا ملزمين باستخدام الريال اليمني فقط. أما مع الموردين الأجانب فالمسألة أكثر تعقيدًا، إذ يشترطون الدفع بالدولار، ما اضطرنا للجوء إلى البنوك أو الصرافين لتغطية الفارق وتحويل المدفوعات، وهو ما زاد من التكاليف وأطال فترة إنجاز الصفقات".
وأضاف النملة لمركز سوث24 أن سلوك المستهلكين بدوره يعكس حالة من الانقسام: "بينما يلتزم بعض العملاء بالدفع بالعملة الوطنية، يفضل آخرون الدفع بالدولار أو الريال السعودي للحفاظ على قيمة أموالهم وتفادي تقلبات سعر الصرف. هذا التباين خلق حالة من التوتر في السوق وأثّر بشكل ملحوظ على المبيعات".
التحديات القائمة
رغم الطابع الجريء للقرار، إلا أنه يواجه سلسلة من التحديات البنيوية التي قد تحد من فعاليته على المدى القريب. ويأتي في مقدمتها مسألة العقود والالتزامات السابقة الموقعة بالدولار أو الريال السعودي، سواء لأقساط شقق سكنية أو سيارات أو مشاريع تجارية. هذه العقود تمثل مشكلة حقيقية تهدد بتقويض القرار إذا لم تتم معالجتها بحلول واقعية.
في هذا الصدد، يحذر د. عيسى أبو حليقة من مغبة تجاهل هذه العقود، مشددًا على أن "مبدأ احترام العقود واجب قانونيًا، ما يعني أن العقود الموقعة بالريال السعودي أو الدولار يجب أن تستمر بنفس العملة حتى يتم السداد الكامل". ويرى أن محاولة فرض التحصيل بالريال اليمني على هذه الالتزامات ستؤدي إلى شلل قطاعات حيوية مثل العقارات والسيارات، وقد تدفع المستثمرين إلى الهروب نتيجة حالة الشك وعدم اليقين.
ويقترح أبو حليقة مقاربة أكثر تدرجًا لمعالجة هذه المعضلة، عبر آليات تسوية اقتصادية تنظمها الدولة، مثل تشكيل لجان مختصة أو السماح بالسداد بالعملة المحلية وفق سعر الصرف الرسمي المعلن، بما يحفظ حقوق الدائن والمدين ويجنب المواطنين خسائر جسيمة.
إلى جانب هذه العقود، يبرز تحدٍ آخر يتمثل في قدرة القرار على كبح نشاط السوق السوداء. إذ رغم أن التطبيق الصارم قد يحد فعلاً من المضاربة، إلا أن خبراء يحذرون من أن المضاربين وشركات الصرافة قد يلجأون إلى مسارات جديدة غير رسمية، بما في ذلك التعامل عبر تطبيقات المراسلة أو شبكات غير معلنة، وهو ما قد يعيد إنتاج الأزمة في أشكال جديدة يصعب ضبطها.
القدرة المؤسسية للبنك المركزي
يبقى نجاح قرار حصر المعاملات بالريال اليمني مرهونًا بقدرة البنك المركزي على إدارة السوق وضبط السيولة وتفعيل أدواته الرقابية. وهنا تتباين آراء الخبراء بين من يرى أن المشكلة تكمن في غياب تفعيل الأدوات المتاحة، ومن يعتقد أن المركزي بدأ بالفعل خطوات مهمة قد تؤسس لنجاح تدريجي.
الأستاذ المشارك في كلية الاقتصاد بجامعة عدن، د. سامي محمد قاسم، يشير إلى أن المشكلة ليست في غياب الأدوات النقدية، بل في ضعف استخدامها. وقال لمركز سوث24: "البنوك المركزية في كل دول العالم لديها الأدوات اللازمة للسيطرة على السوق النقدية، غير أن تفعيل هذه الأدوات يتطلب تنسيقًا فعالًا مع النيابة العامة والأجهزة الأمنية".
ولفت إلى أن التحدي الأبرز أمام البنك المركزي يتمثل في تعدد السلطات المحلية والأمنية، وغياب غرفة عمليات مشتركة للرقابة والضبط، إلى جانب تدخل السياسة في مفاصل الاقتصاد والتجارة. واعتبر أن هذه العوامل مجتمعة جعلت من الصعب فرض إجراءات صارمة على المخالفين.
في المقابل، يبدو عيسى أبو حليقة أكثر تفاؤلًا، مشيرًا إلى أن البنك المركزي يمتلك بالفعل أدوات نقدية فاعلة، وقد بدأ بتفعيلها، مثل تشكيل لجنة خاصة بتنظيم الاستيراد وتحديد البنوك المخولة بتغطية نفقات التجار، وهو ما أغلق منفذًا كان يغذي السوق السوداء بنسبة تصل إلى 30%، واعتبره خطوة مهمة على طريق نجاح القرار.
أما من منظور قطاع الأعمال، فتبدو الصورة أقل إشراقًا. إذ يرى المهندس ماجد النملة، أن قدرة البنك المركزي تبقى محدودة إذا ما قورنت بحجم السوق الموازي وسرعة تقلباته.
مضيفًا: "صحيح أن هناك جهودًا للرقابة، إلا أن السوق ما زال متقلبًا. وفي حال لم يتم تعزيز الاحتياطي من النقد الأجنبي وتوحيد السياسات النقدية، فإن مواكبة تنفيذ القرار بشكل فعال ومستدام ستكون مهمة بالغة الصعوبة".
المستقبل والسيناريوهات
رغم الجدل الدائر حول قرار حصر المعاملات بالريال اليمني، يتفق الخبراء على أن مستقبله يظل رهنًا بقدرة البنك المركزي والحكومة على تحويله من خطوة إجرائية إلى سياسة راسخة تعيد الثقة بالعملة الوطنية.
ويؤكد مصطفى نصر، أن نجاح القرار لن يتحقق إلا إذا تمكن البنك المركزي من ضبط الكتلة النقدية والتحكم في المعروض من العملة المحلية، بما يتيح له إدارة السوق والسيطرة على سعر الصرف بصورة أكثر فاعلية. ويرى أن هذا هو الشرط الأساسي لتحويل القرار إلى أداة دائمة لاستقرار السوق.
أما د. عيسى أبو حليقة فيقترح رؤية أوسع تقوم على الجمع بين السياسة النقدية والإصلاحات الاقتصادية. فهو يرى أن الحل لا يقتصر على فرض الريال في المعاملات، بل يتطلب استقطاب عملات صعبة جديدة تدعم احتياطيات البنك المركزي. ولهذا دعا إلى عقد مؤتمر استثماري واسع يتيح للشركات ورجال الأعمال الاطلاع على الفرص الاقتصادية في اليمن، بما يسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية وتوليد مصادر مستدامة للعملات الأجنبية.
ويعتقد أن الدعم الدولي سيكون عنصرًا حاسمًا، مشيرًا إلى وجود توجه عالمي تقوده مؤسسات كبرى مثل البنك الدولي ووزارة الخزانة الأميركية والاتحاد الأوروبي، لتنظيم القطاع المصرفي اليمني ودعمه.
لكن الصورة ليست وردية بالكامل. فقد حذر د. سامي محمد قاسم من أن فشل البنك المركزي والحكومة في تنفيذ هذه السياسات والمحافظة عليها سيقود إلى انهيار أوسع في قيمة العملة المحلية، وزعزعة ثقة التجار والمواطنين بأي خطوات لاحقة. وأضاف أن فقدان القدرة على التحكم بالسياسة النقدية سيحرم السلطة الشرعية من واحدة من أهم أدوات التأثير والإدارة في الحياة الاقتصادية والسياسية، وهو ما قد ينعكس سلبًا على استقرار النظام السياسي نفسه.
وبين هذه الرؤى، يتضح أن القرار يقف عند مفترق طرق: فإما أن يتحول إلى ركيزة لإعادة بناء السيادة النقدية عبر التزام صارم وتنفيذ محكم ودعم خارجي، أو أن ينزلق إلى مجرد إجراء شكلي سرعان ما تلتف عليه السوق، بما يعمّق أزمة الثقة ويعيد الاقتصاد إلى دائرة الانهيار.
Previous article