التقارير الخاصة

خريطة الإصلاحات الاقتصادية للحكومة اليمنية، ماذا تحقق فعلاً؟

مجلس الوزراء يناقش مستجدات الأوضاع الاقتصادية والخدمية والخطط المنسقة مع البنك المركزي لمواجهة تراجع العملة 22 يوليو 2025 (إعلام رسمي)

آخر تحديث في: 20-08-2025 الساعة 11 مساءً بتوقيت عدن

مركز سوث24 | عبد الله الشادلي


في بلد يعيش واحدة من أعقد الأزمات الاقتصادية، بلغ الانهيار المالي في اليمن خلال صيف 2025 مستوى غير مسبوق. فقد تجاوز سعر صرف الدولار الأمريكي حاجز 2900 ريال، ولامس الريال السعودي 760 ريالًا، ما فاقم موجة غلاء خانقة أطاحت بالقدرة الشرائية للمواطنين، وأدى إلى عجز الحكومة المعترف بها دوليًا عن صرف رواتب موظفي القطاع العام لأكثر من شهرين متتالين. 


قادت هذه الأوضاع إلى احتجاجات واسعة في محافظة حضرموت، كبرى محافظات جنوب اليمن، كاشفةً عن عمق السخط الشعبي من تدهور المعيشة.


تزامن هذا المشهد الاقتصادي والشعبي المأزوم مع انقسامات حادة داخل مجلس القيادة الرئاسي حول سبل إدارة الأزمة، وسط ضغوط قوية من المجلس الانتقالي الجنوبي – الشريك الرئيس في السلطة الذي أقر فيه مايو الماضي توجيه رسالة لمجلس الأمن الدولي والرباعية الدولية (الولايات المتحدة – بريطانيا – السعودية – الإمارات) بشأن الأزمة، وضرورة التحرك العاجل لتخفيف معاناة السكان.


ووجدت الحكومة اليمنية، بقيادة سالم بن بريك وزير المالية الذي تم تعيينه رئيسا للوزراء مطلع مايو المنصرم، نفسها أمام أزمة اقتصادية وخدمية بدأت تنعكس سياسيًا بشكل مطرد.  وأمام هذا التحدي، شرعت الحكومة والبنك المركزي في عدن بإطلاق ما وصف بأنه "أكثر حزمة إصلاحات جرأة منذ سنوات." 


وقد تركزت هذه الحزمة على كبح المضاربة في سوق الصرف واستعادة البنك المركزي لدوره التنظيمي. وفي غضون أسابيع قليلة، بدأت المؤشرات الأولية لهذه الإصلاحات بالظهور، حيث انخفض سعر الدولار من مستوى 2900 ريال إلى نحو 1617 ريالًا، وتراجع الريال السعودي من 760 ريالًا إلى حدود 425 ريالًا، منذ أواخر يوليو وحتى الآن.


ورغم أن هذا التحسن رافقته مخاوف وتوجس، ووصف بأنه قابل للانتكاس، إلا أنه منح الحكومة متنفسًا سياسيًا واقتصاديًا مؤقتًا، وأعطى انطباعًا أوليًا بوجود قدرة على التدخل المنظم في سوق الصرف. فما هي الإصلاحات الفعلية التي نفذتها الحكومة اليمنية حتى الآن، وكيف يقيمها ويراقبها الخبراء؟


خريطة الإصلاحات


شكّل إنشاء اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الاستيراد نقطة الانطلاق الأهم في مسار الإصلاحات الحكومية. فقد صدر قرار تشكيلها عن رئيس مجلس الوزراء لتكون أداة مركزية لضبط عمليات الاستيراد، بعدما ظل هذا الملف لعقود أحد أكبر مصادر استنزاف العملة الصعبة وتغذية السوق الموازية.


في العاشر من أغسطس 2025، بدأت اللجنة عملها رسميًا باستقبال طلبات المصارفة والتحويل من التجار عبر البنوك وشركات الصرافة، وفق آلية مشددة تقوم على التحقق من الوثائق ورفعها إلى اللجنة لدراستها قبل منح الموافقة أو الرفض. وأكد البنك المركزي أنه لن يُسمح بدخول أي بضائع عبر المنافذ الجمركية ما لم تستوفِ هذه الإجراءات، في خطوة تستهدف إنهاء فوضى الاستيراد وإغلاق الباب أمام تدفق السلع عبر قنوات غير رسمية.


ويقول البنك المركزي إن هذه الآلية تعزز الشفافية وتضمن انسيابية حركة الاستيراد عبر القنوات الرسمية، بما يحصر استخدام النقد الأجنبي في تمويل السلع الأساسية فقط. 


ويعتبر خبراء أن هذه اللجنة تمثل "حجر الزاوية" في استعادة البنك المركزي لدوره كمنظم للسوق، لأنها تحد من المضاربات العشوائية وتعيد توجيه النقد الأجنبي إلى الاحتياجات الفعلية للاقتصاد بدلًا من تركه رهينة السوق السوداء.


وفي هذا السياق، يقول المستشار الاقتصادي في مكتب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، فارس النجار، أن هذه الخطوة غيّرت قواعد اللعبة في سوق العملة. إذ جرى، بحسب تصريحه لمركز سوث24، "قصر عمليات بيع النقد الأجنبي على الجهات الكبيرة، وإلزام شركات الصرافة بتوريد فائض العملة الأجنبية أسبوعيًا إلى البنوك، وتحديد سقوف البيع بخمسة آلاف دولار للبنوك وألفي دولار لشركات الصرافة".


 ويضيف أن الأهم في هذه الإجراءات هو "وقف تلبية احتياجات استيراد المشتقات النفطية من السوق الموازي، وهو إجراء من شأنه إطفاء محرك الطلب المصطنع على النقد الأجنبي".


بهذا المعنى، لم تقتصر اللجنة على دور تنظيمي بيروقراطي، بل أصبحت أداة مباشرة لإعادة ضبط السوق ومنع المضاربين من التحكم في حركة النقد. غير أن خبراء الاقتصاد، وفي مقدمتهم د.  محمد جمال الشعيبي، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة عدن، يحذرون من أن نجاح هذه الخطوة مرهون بقدرة الحكومة على تأمين احتياطيات كافية من العملات الأجنبية، حتى لا تتحول اللجنة إلى مجرد آلية مؤقتة سرعان ما تنهار تحت ضغط السوق الموازية إذا غابت القدرة التمويلية المستدامة.


بموازاة ضبط عمليات الاستيراد، أطلق البنك المركزي في عدن مشروعًا استراتيجيًا لا يقل أهمية يتمثل في تطوير أنظمة المدفوعات الإلكترونية. هذا المشروع، الذي يحظى بدعم مباشر من البنك الدولي، يعد بمثابة إصلاح هيكلي عميق يستهدف تحديث البنية التحتية المالية لليمن وتعزيز قدرة الدولة على مراقبة تدفق الأموال.


يقوم النظام الجديد على إنشاء منصة رقابية إلكترونية شاملة تربط بين البنوك، وشركات الصرافة، والمؤسسات الحكومية، وحتى الأفراد. ومن خلال هذه المنصة، تُوحد كافة المعاملات المالية من تحويلات، رواتب، مدفوعات حكومية، وضرائب، تحت إشراف مباشر من البنك المركزي.


الأثر المباشر لهذا النظام، هو تقليص الاعتماد المفرط على النقد (الكاش)، وتشجيع التحول إلى المعاملات الإلكترونية، مما يمنح البنك المركزي قدرة غير مسبوقة على تتبع حركة الأموال لحظة بلحظة. وهو ما وصفه د. محمد جمال الشعيبي بأنه خطوة جوهرية لمكافحة الفوضى في السوق النقدية، شريطة أن يقترن هذا المشروع بإصلاحات موازية تعزز النشاط الاقتصادي الحقيقي.


إلى جانب ذلك، ينظر إلى الشبكة الموحدة للمدفوعات كأداة فعالة في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فضلًا عن تقليص التهرب الضريبي والجمركي، الذي طالما شكّل أحد أبرز معضلات الدولة اليمنية. ويؤكد فارس النجار أن هذه الخطوة تمثل "تسوية فورية وتتبعًا رقميًا يقلل السيولة خارج النظام"، بما يسهم في منع عودة الأموال إلى السوق الموازي ويضاعف من أثر الاستقرار النقدي.


ورغم أهمية هذا النظام من الناحية الفنية، يبرز تحدٍ أساسي يتمثل في ضعف البنية التحتية التكنولوجية في اليمن، إلى جانب استمرار سيطرة الحوثيين على أجزاء من البلاد، ما قد يحد من فاعليته على المدى القصير. ومع ذلك، يعتبر البدء بتنفيذه في عدن  بأن الحكومة تسعى لفرض سيطرتها على النظام المالي الوطني وإعادة رسم قواعد اللعبة المصرفية .


أيضًا، يُعد إعداد وإقرار الموازنة العامة للدولة، في 24 يوليو 2025، الضلع الثالث في مثلث الإصلاحات الذي راهنت عليه الحكومة. فلطالما شددت المؤسسات المالية الدولية، كصندوق النقد والبنك الدوليين، على ضرورة وجود موازنة رسمية كشرط أساسي لضبط الإيرادات وترشيد الإنفاق العام، وهي خطوة غابت عن اليمن لسنوات طويلة.


يرى د. محمد جمال الشعيبي، أن الموازنة ليست مجرد أداة محاسبية، بل هي إطار انضباط مالي يسمح للحكومة بمراقبة تدفقات الأموال ويمنع عودتها إلى السوق الموازي، بما يعزز من أثر الإصلاحات النقدية الأخرى. وأوضح في حديثه لمركز سوث24 أن هذه الخطوة كانت مطلبًا متكررًا للمؤسسات الدولية، وجاء اعتمادها اليوم كجزء من حزمة إصلاحات أوسع تهدف لإعادة بناء الثقة بالاقتصاد اليمني.


من جانبه، وصف فارس النجار، الإصلاحات الثلاثة (اللجنة الوطنية لتنظيم الاستيراد، شبكة المدفوعات، الموازنة) بأنها "حلقة مترابطة تعزز الأثر الاقتصادي المتماسك".


مضيفًا: "اللجنة تنظم الطلب الحقيقي على العملة الأجنبية، شبكة المدفوعات توفر التسوية الفورية وتتبعًا رقميًا يقلل السيولة خارج النظام، أما الموازنة فتوفر انضباطًا ماليًا يمنع إعادة السيولة إلى السوق الموازي، مما يضاعف من أثر الاستقرار".


ومع ذلك، تبرز التحذيرات من أن نجاح هذه الخطوة يتوقف على مدى التزام الحكومة بمؤشرات واضحة للنفقات، بحيث لا يُسمح بالصرف خارج الموازنة، وهو ما شدد عليه النجار بوضوح. فبدون انضباط صارم، قد تتحول الموازنة إلى مجرد وثيقة شكلية، تعجز عن معالجة الخلل العميق في إدارة الموارد أو مواجهة نفوذ القوى المتحكمة بالمال العام.


القطاعات الإنتاجية


لا تقتصر الإصلاحات الحكومية على الأدوات النقدية والإجراءات المالية، بل امتدت لتشمل القطاعات الإنتاجية التي تمثل حجر الزاوية في تخفيف الضغط على ميزان المدفوعات. وفي هذا السياق، طرحت الحكومة توجهًا استراتيجيًا لإعادة تشغيل مصافي عدن، وإنشاء مصفاة جديدة ومنطقة حرة في حضرموت، كجزء من رؤية أوسع لإنعاش الاقتصاد المحلي وخلق فرص عمل جديدة.


المستشار الاقتصادي فارس النجار، أوضح أن تشغيل مصافي عدن إلى جانب مصفاة صافر في مارب، "سيخفض فاتورة المشتقات النفطية التي تصل حاليًا إلى نحو 3 مليارات دولار سنويًا في اليمن"، الأمر الذي سينعكس على تحسين الميزان التجاري ودعم العملة الوطنية. ويشير إلى أن هذه الخطوات جاءت استجابة مباشرة للضغوط الشعبية والاقتصادية المتصاعدة من حضرموت، التي كانت مركز الاحتجاجات الأوسع ضد الأزمة المعيشية.


على المستوى النقدي، سجلت الإصلاحات الحكومية حضورًا ملموسًا من خلال سلسلة من الإجراءات الحاسمة التي استهدفت ضبط سوق الصرف. ويعتقد د. محمد جمال الشعيبي أن أبرز ما تحقق هو "استعادة البنك المركزي في عدن لدوره القانوني، وبدء اتخاذ إجراءات لتنظيم تداول العملة الصعبة، من خلال تثبيت أسعار العملات، وإيقاف وسحب تراخيص مؤسسات وفروع صرافة مخالفة، وإغلاق مكاتب غير مرخّصة".


وتعززت هذه الخطوات بقرار رئيس الوزراء في 11 أغسطس، الذي حظر استخدام العملات الأجنبية كبديل عن العملة الوطنية في المعاملات التجارية الداخلية، مثل الإيجارات والرسوم الدراسية وتذاكر السفر. واعتبر الشعيبي هذا القرار "إجراءً مهمًا لدعم السيادة النقدية"، لما له من أثر مباشر في فرض الريال كعملة وحيدة للتداول المحلي.

السيناريوهات المحتملة


يقف الاقتصاد اليمني اليوم أمام مفترق طرق حاسم، تتجاذبه مسارات متناقضة بين التعافي المستدام والارتداد إلى الفوضى. فالإصلاحات التي أطلقتها الحكومة والبنك المركزي تبدو حتى الآن كخطوات جريئة نجحت في تحقيق بعض المؤشرات الإيجابية، غير أن استمرارها يتوقف على عوامل أكثر تعقيدًا من مجرد ضبط مؤقت لسوق الصرف.


السيناريو الأول يتمثل في التعافي المستدام، وهو الخيار الذي يتطلب البناء على الإجراءات الحالية وتحويلها إلى سياسات راسخة تضمن استقرار السوق النقدية على المدى الطويل. ويؤكد المستشار الاقتصادي فارس النجار أن بلوغ هذا المسار مرهون بثلاثة شروط أساسية: أولها الحفاظ على انضباط تنفيذي صارم يمنع تراخي الجهات المعنية عن تطبيق القرارات، وثانيها توفير شفافية منظمة عبر نافذة إلكترونية للبنك المركزي تتيح مراقبة حركة الأموال بصورة لحظية، وثالثها تقليص نفوذ القوى التي تستخدم الأموال غير المشروعة في تغذية المضاربات، باعتبارها المحرك الأخطر لاضطراب السوق. فإذا تمكنت الحكومة من الوفاء بهذه المتطلبات، فإن ما تحقق من استقرار أولي يمكن أن يتحول إلى قاعدة صلبة لانطلاقة اقتصادية جديدة.


أما السيناريو الثاني فيتمثل في الارتداد إلى مربع الفوضى، وهو خطر لا يزال حاضرًا بقوة إذا ما أخفقت الحكومة في معالجة الأسباب الجذرية للأزمة. ويحذر د. محمد جمال الشعيبي من أن أي تراخٍ في تنفيذ الإصلاحات سيعيد السوق الموازية إلى الواجهة، مع ما يعنيه ذلك من عودة المضاربة وفقدان السيطرة على سعر الصرف. وتزداد هذه المخاطر تعقيدًا في ظل تباين السياسات النقدية بين مناطق الحكومة والحوثيين، فإذا لم تتمكن الإصلاحات من ملامسة حياة الناس اليومية عبر تحسن فعلي في الأسعار والرواتب، فإن حالة السخط الشعبي ستتجدد، بما يهدد بانهيار الجهود الحكومية وعودة الأزمة بصيغة أكثر حدة.


وبين هذين المسارين، يظل مستقبل الإصلاحات رهينًا بقدرة الحكومة على ترجمة المكاسب المؤقتة إلى تحولات بنيوية مستقرة، مدعومة بدعم خارجي يعزز احتياطيات البنك المركزي ويمنحها القدرة على الصمود في وجه الأزمات المقبلة. فالمعركة الحقيقية ليست فقط في استعادة التوازن اللحظي لسعر الصرف، وإنما في بناء نظام اقتصادي قادر على الصمود، بعيدًا عن الهشاشة التي جعلت السوق عرضة للانهيار مرارًا.


صحفي ومحرر لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا