مزارع يجهز المبيدات لرش نبتة القات في (وادي الزبيريات) بمنطقة قعطبة بمحافظة الضالع، 8 أبريل 2025 (مركز سوث24)
Last updated on: 08-04-2025 at 7 PM Aden Time
|
مركز سوث24 | خديجة الجسري
تواجه محافظة الضالع في جنوب اليمن أزمة بيئية وصحية متصاعدة، نتيجة الاستخدام غير المنظم للمبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية، بما فيها المحرمة والمقيدة وطنيًا، خصوصًا في زراعة نبتة القات. في ظل غياب الرقابة الفعالة، تنتشر هذه المواد في الأسواق بشكل عشوائي، مخلفة آثارًا مدمرة على البيئة وصحة السكان، بما في ذلك أمراض مزمنة وتلوث المياه الجوفية والتربة. وبينما تتعالى شكاوى السكان من هذه المخاطر، تقف الجهات المعنية عاجزة عن التصدي للكارثة.
وتُعد المبيدات الزراعية في الضالع مصدرًا رئيسيًا لمخاطر صحية وبيئية، نتيجة استخدامها من دون إشراف أو ضوابط. تؤدي هذه الممارسات إلى تسممات واضطرابات في الجهاز التنفسي، ومشكلات عصبية، مع احتمال الإصابة بأمراض مزمنة، منها السرطان. وتشير وزارة الصحة إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان في الضالع، خاصة منذ عام 2018.
مزارع يرش المبيدات على نبتة القات في (وادي شبعة) بمنطقة مريس بمحافظة الضالع، 8 أبريل 2025 (مركز سوث24)
د. مروان محمد عبدالكريم، مسؤول الإحصاء لمحافظة الضالع بوزارة الصحة، قال لمركز سوث24، إن معظم الحالات المصابة بالسرطان وأمراض الكبد المرتبطة بالمبيدات لا تصل إلى المستشفيات الحكومية أو مركز الأورام، بل تُعالج في مستشفيات خاصة، ويفارق الكثير منها الحياة دون تسجيل رسمي.
ومع ذلك بحسب أرقام رسمية من وزارة الصحة تحصل عليها مركز سوث24، سجّل مركز الأورام في عدن نحو 429 حالة إصابة بالسرطان من محافظة الضالع خلال الفترة بين 2018 و2022. وتُظهر البيانات الرسمية تصاعدًا في عدد الحالات خلال السنوات الخمس، إذ ارتفع إجمالي الإصابات من 63 حالة فقط في عام 2018 إلى 115 حالة في عامي 2021 و2022، ما يشير إلى تضاعف الأرقام تقريبًا خلال هذه الفترة.
وتوضح الإحصاءات تقاربًا لافتًا في عدد الإصابات بين الجنسين، حيث بلغ عدد الذكور المصابين 216 حالة، فيما سُجلت 213 حالة بين الإناث. وفي حين سُجلت فروقات طفيفة في بعض السنوات، حافظ التوزيع بين الذكور والإناث على نمط متوازن، ما يعكس تعرضًا مشتركًا لعوامل الخطر البيئية في الضالع.
ويُعتقد أن ارتفاع هذه الأرقام يرتبط جزئيًا بالاستخدام العشوائي للمبيدات والأسمدة الكيميائية في الزراعة.
من جانبها، تحدثت د. صفاء شكري، أخصائية أمراض الدم والأورام في مستشفى الصداقة بعدن، لـمركز سوث24 عن أخطار التعرض للمبيدات الكيميائية، مشيرة إلى ارتباطها بأمراض مثل التهابات الجلد والعين والرئة، وقد تؤدي إلى سرطان الرئة وسرطان الدم والغدد اللمفاوية والكلى والمثانة. وأكدت أن التعرض اليومي والمستمر لهذه المواد يشكل خطرًا على جميع الفئات العمرية، حتى على الأجنة في أرحام الأمهات.
وأضافت أن دراسات علمية عديدة أثبتت وجود علاقة بين المبيدات الكيميائية والإصابة بسرطان الدماغ، وأشارت إلى أن كثرة الاستخدام لفترات طويلة ترفع من احتمالات الإصابة بسرطانات متعددة، بما فيها سرطان البروستاتا والثدي.
منتجات محظورة تُباع علنًا
رغم صدور قائمتين رسميتين عن وزارة الزراعة والري والثروة السمكية في اليمن، تضمان أسماء المبيدات المحظورة وشديدة التقييد، لا تزال العديد من هذه المواد الخطرة تُعرض في الأسواق المحلية وتُباع للمزارعين دون رقابة أو وعي بمخاطرها. وتشير هذه القوائم، الصادرة عن الإدارة العامة لوقاية النباتات في عدن، إلى منع أو تقييد تداول عشرات المبيدات ذات التأثير السمي العالي على الإنسان والبيئة، والتي تشمل مبيدات حشرية، وعشبية، وفطرية، ومبيدات للقوارض.
في جولة ميدانية لمركز سوث24، تم رصد وجود عدد من هذه المبيدات في الأسواق الزراعية بالضالع، وتستخدم أغلبها مع نبتة القات، من بينها: "سوبر أجرنيت – AGRANIL" الذي يحتوي على المادة الفعالة ميثوميل (Methomyl) المحظورة رسميًا بموجب القائمة الحكومية الأخيرة تحت الرقم (132)، بالإضافة إلى مبيدات أخرى شديدة التقييد مثل "أسولام – Asulam"، "أترازين – Atrazine"، و"أزوثويت – Azothoate"، والتي وردت في قائمة سابقة للمبيدات شديدة التقييد.
مبيد سوبر أجرنيت (AGRANIL) في أحد الأسواق بمحافظة الضالع (مركز سوث24)
ويُعرض العديد من هذه المواد على الرفوف دون تحذيرات واضحة، ما يسهّل وصولها إلى المواطنين والمزارعين العاديين. ولم يسمح أصحاب المحلات التي تبيع هذه المواد بتصويرها، لكن معدة التقرير تمكنت من توثيق أخطرها (AGRANIL)، الذي يتداول على شكل مسحوق تحت اسم (سوبر أجرانيت) عبر "الوكيل الحصري في اليمن شركة النجاح للتجارة والتنمية الزراعية".
كما تم توثيق وجود مبيد آخر يحمل اسم "Supracide 40EC – سوبر أسيد"، يُعرض في الأسواق الزراعية ويُستخدم من قبل المزارعين في بعض المناطق. يحتوي هذا المنتج على المادة الفعالة ميثيدايثيون (Methidathion) بنسبة 40 غرام/لتر، وهي مادة مدرجة ضمن قائمة المبيدات المحظورة رسميًا في اليمن تحت الرقم (130) وفقًا لوثيقة وزارة الزراعة والري.
مبيد سوبر أسيد (Supracide) في إحدى المزارع بمحافظة الضالع (مركز سوث24)
الصفحة (7) من قائمة المبيدات الممنوع تداولها في اليمن وفق نشره وزارة الزراعة التي تحصل عليها مركز سوث24. تظهر في الصفين 130 / 132 أسماء المواد (ميثيدايثيون - Methidathion) و(ميثوميل – Methomyl) المحظورة التي تدخل في صناعة المبيدات (سوبر أجرنيت – AGRANIL) و(Supracide 40EC – سوبر أسيد) المنتشرة في أسواق الضالع
في واقعة ميدانية أخرى وثقها مركز سوث24، تم رصد مبيد يُعرف باسم "أجروميك – Agromec 1.8% EC" يُعرض في السوق الزراعية المحلية ويُستخدم من قبل المزارعين، رغم احتوائه على المادة الفعالة Abamectin.
ورغم أن هذه المادة لا تندرج ضمن القوائم الرسمية للمبيدات المحظورة أو شديدة التقييد في اليمن، إلا أن تقارير علمية صادرة عن الهيئة الأوروبية لسلامة الغذاء (EFSA) تصنفها ضمن المركبات عالية السمية ذات هامش الأمان الضيق، مما يعني أن الفرق بين الجرعة الفعالة والجرعة السامة ضئيل جدًا. وقد حذّرت الهيئة من احتمال حدوث تأثيرات عصبية حادة لدى الإنسان عند التعرض المباشر، مما يستدعي ضرورة تنظيم تداول هذه المادة وتشديد الرقابة على استخدامها في السوق اليمنية.
مبيد أجروميك (Agromec) في إحدى المزارع بمحافظة الضالع (مركز سوث24)
قصة ضحية
أروى، أم لأربعة أطفال وتبلغ من العمر 27 عامًا، من إحدى قرى منطقة قعطبة بمحافظة الضالع، كانت من ضحايا هذه المواد في نوفمبر 2024. وفقًا لوالدة أروى، ذهبت ابنتها لشراء مبيد لتأخير محصولها، فقدم لها البائع مبيدًا سريع المفعول يُدعى "جرانيت"، دون تحذير. وبعد رشه في الحقل، شعرت أروى بدوار وغثيان، ونُقلت إلى مركز صحي محلي، ثم إلى مستشفى في عدن، حيث تبين أنها تعرضت لتلف كامل في الكبد نتيجة التسمم. بعد أيام، توفت تاركة أطفالها الأربعة.
وتعمل شريحة واسعة من النساء في الأعمال الزراعية بمحافظة الضالع. وتتجاوز نسبتهن الرجال في بعض المناطق أو حسب المواسم الزراعية.
الخبير الزراعي محمد الخياري قال لمركز سوث24 إن كميات من المبيدات والسموم المحظورة وطنيًا أو دوليًا تتدفق باستمرار لمحافظة الضالع. سواء عبر التهريب أو بإعادة تغليفها تحت أسماء مختلفة. محذرًا من أن ذلك يمثل تهديدًا كبيرًا للصحة العامة والبيئة. وأكد أن أبرز مخاطرها تشمل تسمم البشر، وتلوث المياه والتربة، وتضرر المحاصيل، إضافة إلى القضاء على الحشرات النافعة، مثل النحل.
مسؤوليات مشتّتة وتهريب مستمر
تشترك عدة جهات حكومية في مسؤولية مراقبة تداول المبيدات، أبرزها وزارات الزراعة، البيئة، والصحة. إلا أن غياب التنسيق والرقابة الفعلية يسمح باستمرار انتشار المبيدات المحظورة، لاسيما في محافظة الضالع.
المهندس محمد حسين، مدير إدارة المبيدات في وزارة الزراعة، قال لمركز سوث24 إن القانون رقم (25) لعام 1999 ينظم استخدام وتداول مبيدات الآفات النباتية، ويوضح مسؤوليات الوزارة في هذا الشأن. وأشار إلى أن الوزارة تعمل على تشديد الرقابة على المبيدات المستوردة عبر المنافذ الرسمية، من خلال عمليات فحص وتفتيش صارمة، وإصدار تصاريح استيراد تضمن سلامة المنتجات قبل دخولها البلاد.
ورغم ذلك، أقر حسين بأن تهريب المبيدات المحرّمة مستمر عبر السواحل، ما يزيد من انتشار هذه المواد في الأسواق، خصوصًا في الضالع. وأضاف أن الوزارة تنسّق مع الجهات الأمنية لملاحقة الشحنات المهربة، وإبلاغ الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة بحقها.
لكن القضية لا تقف عند وزارة الزراعة. محمد عبدالله الحميدي، وكيل قطاع التجارة الخارجية في وزارة الصناعة والتجارة، أوضح لـمركز سوث24 أن وزارته لا تتحمل مسؤولية رقابة المبيدات، بل يقتصر دورها على إصدار السجل التجاري فقط.
من جهته، قال فضل صويلح، مدير حماية المستهلك في وزارة الصناعة والتجارة، إن الرقابة على المبيدات "يجب أن تُسند لفنيين متخصصين، ويفضل أن يكونوا من وزارة الزراعة". وأشار لمركز سوث24 إلى أن مساهمة الوزارة في الرقابة تتطلب تزويدها بكشوفات واضحة من وزارة الزراعة، تتضمن قائمة المبيدات الممنوعة والمسموح بها.
وفي السياق ذاته، أكد صالح السلامي، مدير إدارة المستهلك بمكتب الصناعة والتجارة في الضالع، أن وزارة الزراعة ومكتبها في المحافظة هما الجهتان المعنيتان بملف المبيدات، سواء كانت محظورة دوليًا أو مرخصة محليًا.
مزارع يجهز المبيدات لرش نبتة القات في وادي الزبيريات بمنطقة قعطبة بمحافظة الضالع، 8 أبريل 2025 (مركز سوث24)
وأوضح لمركز سوث24 أن المكتب لا يتدخل إلا بعد تلقي إشعار رسمي من الوزارة بشأن دخول منتجات غير مرخصة، ليتم حينها تنفيذ نزول ميداني وسحب المواد المخالفة من الأسواق. كما لفت إلى أن بعض المستوردين يمتلكون تراخيص صادرة عن وزارة الزراعة، ما يصعب من عملية ضبط السوق.
أما على الجانب الصحي، فقد وصف نائب مدير مكتب الصحة في الضالع، محسن البهلي، الوضع بأنه "خطر يتفاقم في ظل استخدام عشوائي للمبيدات والأسمدة دون أي رقابة أو ضوابط". وقال لمركز سوث24 إن المحافظة لا تمتلك بيانات دقيقة حول الأمراض الناتجة عن هذه المواد، كما لم تُجرَ أي دراسات علمية محلية حتى الآن لتقييم آثارها على الإنسان والبيئة.
وشدد البهلي على الحاجة الملحة لإجراء أبحاث متخصصة وسَنّ قوانين وضوابط تحد من استخدام المواد السامة، بهدف حماية الصحة العامة والبيئة في الضالع.
دعوات لتبني بدائل طبيعية
في ظل استمرار استخدام المبيدات المحرمة بشكل عشوائي، يطالب مسؤولون وخبراء في محافظة الضالع باعتماد حلول بديلة ومستدامة، من شأنها تقليل الأضرار البيئية والصحية، وتعزيز الزراعة الآمنة.
محمد عسكر، مدير مكتب الصناعة والتجارة في الضالع، قال لمركز سوث24 إن "الجهات المعنية، نظرًا لخطورة هذه المبيدات على المجتمع، مطالَبة بأداء دورها في حظر استيراد وتداول هذه المواد الضارة". وشدد على ضرورة التنسيق المشترك بين وزارتي الزراعة والصناعة لمنع منح أي تصاريح للاستيراد تتعلق بهذه السلع.
كما كرر صالح السلامي، مدير إدارة المستهلك في المحافظة، نفس الدعوة، مؤكدًا أهمية التكاتف بين الجهات المختصة لمنع دخول المبيدات المحرمة، وحظر منح التراخيص للاستيراد أو التداول المحلي.
من جانبه، دعا الخبير الزراعي محمد الخياري إلى اعتماد حلول طبيعية وآمنة، مشيرًا إلى أهمية استخدام المبيدات العضوية مثل الزيوت النباتية، وعلى رأسها زيت النيم الذي يعد مبيدًا طبيعيًا فعّالًا. وأوضح إمكانية تحضير مستخلصات طاردة للحشرات من مواد مثل الثوم والفلفل الحار، إلى جانب استخدام مبيدات بيولوجية تعتمد على الفطريات والبكتيريا الممرضة للحشرات.
وأضاف الخياري أن التوعية والتشريع يمثلان ركيزتين أساسيتين لمواجهة الأزمة، مقترحًا ثلاث خطوات رئيسية:
• تدريب المزارعين على استخدام المبيدات بشكل آمن، وتطبيق أساليب بديلة للمكافحة.
• سنّ قوانين صارمة لمنع استيراد واستخدام المبيدات المحظورة دوليًا.
• دعم الأبحاث في مجالات الزراعة العضوية وتطوير مبيدات طبيعية فعّالة.
مزارع في وادي الزبيريات بمنطقة قعطبة بمحافظة الضالع، 8 أبريل 2025 (مركز سوث24)
تكشف الشهادات الميدانية والبيانات الرسمية التي توصل إليها مركز سوث24 عن أزمة مركّبة في محافظة الضالع، حيث تتقاطع العوامل البيئية والصحية والرقابية لتفرز واقعًا بالغ الخطورة. إن استمرار تداول المبيدات المحظورة وشديدة التقييد في الأسواق، واستخدامها من قبل المواطنين دون معرفة بمخاطرها، يطرح تساؤلات عميقة حول فعالية الرقابة المؤسسية، ومدى التزام الجهات المعنية بحماية أرواح الناس وسلامة البيئة.
في ظل هذا الواقع، لا يكفي الاكتفاء بإصدار قوائم المنع أو التقييد دون آليات تنفيذ فعلية على الأرض. فالثغرات في الرقابة، وتشتت المسؤوليات بين الجهات الرسمية، وغياب التوعية المجتمعية، تتيح المجال لتوسع تجارة هذه المواد القاتلة، وتفاقم أضرارها عامًا بعد آخر. وبينما تتصاعد أرقام المصابين بالأمراض المرتبطة بالمبيدات، يبقى المجتمع المحلي الحلقة الأضعف في مواجهة هذا الخطر الصامت.
تم إنتاج هذا التقرير بتمويل من منظمة (صندوق العمل العاجل - Urgent Action Fund) الأمريكية.
Previous article
Next article