منظر لمبنى متضرر بعد الضربات الإسرائيلية، في طير دبا، جنوب لبنان، 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2025. رويترز / علي هنكير
11-11-2025 الساعة 9 صباحاً بتوقيت عدن
|
|
"يتضح من استقراء مجمل المواقف الأمريكية والإسرائيلية بخصوص الوضع في لبنان، طغيان قناعة وسردية مفادها عدم قيام الدولة اللبنانية بواجبها تجاه بعض الأولويات الملحة التي تم الاتفاق عليها.."
مركز سوث24 | محمد فوزي
بالتزامن مع بحث الحكومة اللبنانية بحضور الرئيس جوزيف عون التقرير الثاني للجيش بشأن حصر السلاح بيد الدولة، نفذت إسرائيل هجمات على مدار الأيام الماضية هي الأعنف على جنوب لبنان منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر 2024. وهي الهجمات التي عبرت عن توجه إسرائيلي تصعيدي، وطرحت العديد من التساؤلات بخصوص دلالاتها وتداعياتها على ملف وقف إطلاق النار في لبنان، وإمكانية تجدد الحرب.
أولاً- حيثيات الهجمات الإسرائيلية
شنت إسرائيل على مدار الأيام الماضية سلسلة من الغارات العنيفة على الجنوب اللبناني، وهي الهجمات التي جاءت بعد تحذيرات إسرائيلية بضرورة إخلاء بعض المناطق، ويمكن تناول أبرز الحيثيات الخاصة بموجة الغارات الإسرائيلية الأخيرة في ضوء الآتي:
1- هجمات على بعض البلدات الجنوبية: هاجم الجيش الإسرائيلي في 6 نوفمبر الجاري، مباني في بعض البلدات اللبنانية وهي: كفر دونين، زوطر الشرقية، عيتا الجبل، الطيبة، وطير دبا، وزعم الجيش الإسرائيلي في تحذيراته، أنّ هجماته على هذه البلدات، تأتي في إطار استهداف "بنى تحتية عسكرية تابعة لحزب الله"، وذلك "للتعامل مع المحاولات المحظورة التي يقوم بها الحزب لاستعادة أنشطته في المنطقة".
2- مقتل 3 أشخاص في غارات جديدة: في 8 نوفمبر الجاري تجددت الهجمات الإسرائيلية على بعض مناطق الجنوب اللبناني، حيث شن الجيش الإسرائيلي ثلاث غارات على جنوب لبنان، ما أودى بحياة 3 أشخاص، وأدى لإصابة 7 آخرين، فيما زعم الجيش الإسرائيلي أنه استهدف "عنصرين لحزب الله". ونقلت الوكالة الوطنية للإعلام عن الوزارة قولها، إنّ "الغارة الأولى استهدفت سيارة قرب مستشفى صلاح غندور في مدينة بنت جبيل (قضاء بنت جبيل) جنوب لبنان، أدت إلى إصابة 7 أشخاص بجروح".
وذكرت أن "الغارة الثانية وقعت في وادي جنهم بالقرب من شبعا في راشيا الوادي (بين قضاءيْ مرجعيون وراشيا) وأسفرت عن سقوط 3 أشخاص، فيما وقعت الثالثة في بلدة برعشيت قضاء بنت جبيل جنوبي لبنان، ولم يعلن بعد عن حصيلة الضحايا".
3- تنديد الرئيس اللبناني بالهجمات الإسرائيلية: قال الرئيس اللبناني جوزيف عون، إن الهجمات التي شنتها إسرائيل على جنوب لبنان، تُعد «جريمة مكتملة الأركان»، وأضاف عون، في بيان، أنّ الهجمات الإسرائيلية تُعد أيضاً «جريمة سياسية نكراء»، مؤكداً أن إسرائيل «لم تدّخر جهداً منذ اتفاق وقف إطلاق النار قبل عام لإظهار رفضها أي تسوية تفاوضية بين البلدين». وقال الرئيس اللبناني: «كلما عبّر لبنان عن انفتاحه على نهج التفاوض السلمي لحل القضايا العالقة مع إسرائيل، أمعنت الأخيرة في عدوانها على السيادة اللبنانية وتباهت باستهانتها بقرار مجلس الأمن رقم 1701، وتمادت في خرقها تفاهم وقف الأعمال العدائية».
4- تحذير "اليونيفيل" والجيش اللبناني من تداعيات الهجمات: قال الجيش اللبناني، إن الاعتداءات "الإسرائيلية" الأخيرة على جنوب لبنان تمنع استكمال انتشاره في المنطقة، وفق اتفاق وقف إطلاق النار. وأكد الجيش اللبناني أنّ هذه الاعتداءات تمثل استمرارا للنهج التدميري "للعدو الإسرائيلي"، الذي يهدف إلى ضرب استقرار لبنان، توسيع الدمار، وإدامة التهديد على المدنيين.
وفي سياق متصل، قالت قوات "اليونيفيل"، إنها رصدت غارات جوية "إسرائيلية" في "طير دبا" و"الطيبة" و"عيتا الجبل" ضمن منطقة عملياتها في جنوب لبنان. وأضافت أن هذه الغارات تشكل انتهاكا واضحا لقرار مجلس الأمن رقم 1701، وتأتي فيما تنفذ القوات اللبنانية عمليات للسيطرة على الأسلحة والبنية التحتية غير المصرح بها في منطقة جنوب الليطاني. وحذرت "يونيفيل" من أن أي عمل عسكري بهذا النطاق يهدد سلامة المدنيين ويقوّض التقدم نحو حل سياسي ودبلوماسي.
وحتى وقت كتابة هذا التحليل، لم يصدر موقف رسمي من حزب الله تجاه التصعيد الإسرائيلي الأخير في الجنوب اللبناني، لكن صحيفة معاريف العبرية أشارت في تقرير لها، إلى أنّ الحرب القادمة مع لبنان "أقرب من أي وقت مضى". موضحة أن الجيش الإسرائيلي يشتبه بأن "حزب الله" سيحاول تنفيذ هجوم ضد قواته، معتبرةً أن "الجيش الإسرائيلي يواصل ممارسة الضغط على حزب الله في جنوب لبنان، استناداً إلى محاولات الحزب تغيير الواقع في جنوب لبنان، ويبدو أنه يسعى لتعزيز تحرك قتالي محدود، بهدف تغيير تفاهمات الاتفاق مع لبنان ورغبة الحكومة اللبنانية في نزع سلاح الحزب".
ثانياً- دلالات الهجمات الإسرائيلية الأخيرة
يطرح التصعيد الإسرائيلي الأخير في الجنوب اللبناني مؤشرات خطيرة بخصوص احتمالية تجدد الحرب بين حزب الله وإسرائيل، وقبيل الانتقال إلى مناقشة السيناريوهات المحتملة بهذا الخصوص، من المهم الإشارة إلى بعض الدلالات والرسائل المهمة التي حملتها الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، وذلك على النحو التالي:
1- محاولة الضغط على حزب الله: ليس غريباً أن يكون الاستهداف الإسرائيلي الأخير في جنوب لبنان بجوار مراكز عسكرية تابعة للجيش اللبناني بالقرب من (ثكنة الشهيد محمد فرحات) التي شارك قائد الجيش اللبناني قبل أسابيع في افتتاحها، في تحركات تعبر عن قناعة لدى المستوى الأمني في إسرائيل بأن حزب الله يقوم بإعادة بناء قدراته العسكرية وانتشاره في جنوب الليطاني، وأن الجيش اللبناني لا يقوم باللازم في مسألة حصر السلاح، خصوصاً وأن بياناً للقيادة المركزية الأمريكية كان قد أشار إلى نقلاً عن المستشارة مورغان أورتاغوس خلال مشاركتها في اجتماع "الميكانيزم" الأخير. وقد رفض الجيش اللبناني مراراً طلبات لـ "الميكانيزم" بدخول منازل معينة، أو منشآت مدنية لجنوبيّين، أصحابها داخلها، كما رفض التجاوب لاعتبارات سياديّة وعسكريّة خاصّة به، ما زاد من هذه القناعة الإسرائيلية، وبالتالي فهي رسالة مزدوجة للضغط على حزب الله وكذا الجيش اللبناني.
وتأكيداً على هذه الفرضية، كانت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية قد أشارت إلى أنه وللمرة الأولى منذ بدء تطبيق اتّفاق وقف إطلاق النار، أنّ الاستخبارات الإسرائيلية رصدت نقل أسلحة وتدريبات ميدانيّة جديدة لـ "الحزب"، بعضها يتمّ بالتعاون مع الجيش اللبناني.
2- الرد على الرسائل الأخيرة للحزب: بعد فترة طويلة من الصمت من قبل حزب الله، سواءً على مستوى التعامل مع ملف نزع السلاح، أو التعامل مع أطروحات التفاوض مع إسرائيل، أو مع التصعيد العسكري الإسرائيلي، بعث حزب الله اللبناني برسالة في 6 نوفمبر الجاري للرؤساء الثلاثة (الرئيس ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب) والشعب اللبناني، وكانت خلاصة بيان الحزب أنه يرى أن "لبنان ليس مضطراً لأن يخضع للابتزازات الإسرائيلية وأن يقدم المزيد من التنازلات، وأنه يرفض التفاوض اللبناني المباشر مع إسرائيل.
ويبدو أنّ الحزب أراد إيصال رسائل عبر هذا البيان إلى أطراف متعددة، حيث سعى إلى بعث رسائل للداخل اللبناني بأنه يظل متماسكاً ومنظماً وأنه يستعيد قوته. وكذلك إلى الجانبين الإسرائيلي والأمريكي مفادها أنه يرفض الاستسلام ورفع الراية البيضاء، وأنه مستعد لكافة السيناريوهات بما في ذلك التصعيد العسكري. والثالثة إلى الدول الوسيطة والسلطات اللبنانية ومفادها أنه لن يقبل بالمزيد من التنازلات، وفي ضوء هذا الموقف وفي ضوء الاستراتيجية الإسرائيلية المعروفة بـ "التفاوض تحت النار"، يبدو أن إسرائيل عملت على الرد على هذا البيان والموقف من حزب الله عبر الهجمات الأخيرة.
3- غلق الباب أمام جهود الوساطة: كان لافتاً أنّ هذه التحركات التصعيدية الإسرائيلية جاءت بعد سلسلة من التحركات التي قادتها بعض الدول من أجل الوساطة وتجنب التصعيد، وكان آخر هذه التحركات يرتبط بزيارة رئيس المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد إلى العاصمة اللبنانية بيروت، ولعل ما زاد من أهمية هذه الزيارة يرتبط بكونها أعقبت زيارة قام بها رئيس المخابرات المصرية إلى إسرائيل والتقى فيها برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، للمرة الأولى منذ 7 أكتوبر 2023، ما عكس أنّ القاهرة استشعرت الخطر ووجود نوايا إسرائيلية للتصعيد في لبنان.
فضلاً عن ما ذكرته تقارير من أن رئيس المخابرات المصرية قدّم على هامش زيارته للبنان، مبادرة جديدة دخلت بموجبها القاهرة على خط الوساطة في ملف الأزمة اللبنانية والتصعيد المحتمل، وتضمنت المبادرة المصرية وفق التقارير صيغة مقبولة لحصر السلاح في أيدي الدولة، ونزع سلاح الحزب، غير أنّ إسرائيل فيما يبدو راهنت على غلق الباب أمام أي جهود للوساطة، عبر التصعيد الأخير. وهنا لا يجب إغفال أنّ "نتنياهو" وبعد الضغوط الأمريكية فيما يتعلق بمنع العودة إلى الحرب في غزة، بات يبحث عن جبهات جديدة للتصعيد.
4- التقييمات الأمريكية الإسرائيلية بخصوص لبنان: يتضح من استقراء مجمل المواقف الأمريكية والإسرائيلية بخصوص الوضع في لبنان، طغيان قناعة وسردية مفادها عدم قيام الدولة اللبنانية بواجبها تجاه بعض الأولويات الملحة التي تم الاتفاق عليها في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار. إذ ترى التقديرات الأمريكية الإسرائيلية، أنّ الدولة اللبنانية لم تستكمل مهمتها فيما يتعلق بنزع السلاح الفلسطيني والسيطرة على المخيمات الفلسطينية في لبنان، سواءً السلاح المحسوب على منظمة التحرير، أو الفصائل المتحالفة مع حزب الله كحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي في لبنان.
أما الملف الثاني، فيرتبط بتموضع وسلاح حزب الله، فكما سبق الإشارة فإنّ النظرة الأمريكية الإسرائيلية ترى أنّ الجيش اللبناني لا يقوم بما يجب، وأن حزب الله بدأ في إعادة التموضع والانتشار بما في ذلك في جنوب الليطاني، وبالتالي جاء هذا التصعيد الإسرائيلي الأخير – والذي يرجح أنه جاء بضوء أخضر أمريكي – استناداً إلى هذه التقييمات الاستخباراتية.
ثالثاً- السيناريوهات المتوقعة بخصوص الجبهة اللبنانية
في ضوء المعطيات السابق الإشارة إليها يبدو أن لبنان يتجه نحو بعض المتغيرات الدراماتيكية المهمة، وتكشف كافة المؤشرات على أنّ الجبهة اللبنانية قد تدخل في نطاق تصعيد أكثر حدة، وفي هذا الإطار يوجد بعض السيناريوهات الماثلة الرئيسية:
1- تكثيف القصف الإسرائيلي على لبنان: يفترض هذا السيناريو عودة إسرائيل إلى التصعيد عبر موجات من القصف الجوي العنيف على بعض المناطق اللبنانية خصوصاً في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت فضلاً عن احتمالية استهداف العاصمة بيروت نفسها. ويستند هذا السيناريو إلى الحشد الإسرائيلي العسكري والسياسي لتنفيذه، وتبني إسرائيل سردية أنّ السلطات اللبنانية لا تقوم بدورها في ملف نزع السلاح، فضلاً عن وجود مصلحة مباشرة لـ "نتنياهو" والائتلاف الحاكم في مسألة التصعيد، بالإضافة لتبني حزب الله مواقف تصعيدية تجاه نزع السلاح وتجاه سيناريو التحركات العسكرية الإسرائيلية.
2- عملية برية إسرائيلية جديدة في لبنان: يفترض هذا السيناريو عدم اقتصار التحرك الإسرائيلي على القصف الجوي العنيف، بل تنفيذ عملية برية شاملة في الجنوب اللبناني، سعياً لتحييد حزب الله ومنع إعادة انتشاره، وتثبيت التمركز الإسرائيلي في بعض نقاط الجنوب اللبناني، وإقامة ما يُعرف بالمنطقة العازلة. لكن فرص هذا السيناريو تظل أقل من السيناريو الأول، لاعتبارين، الأول يرتبط بالخسائر الكبيرة التي تكبدتها إسرائيلية في العملية البرية السابقة التي شنتها في الجنوب اللبناني. والثاني يرتبط بعقلية حزب الله في الفترة الراهنة وهي العقلية التي تقوم على فكرة "الحرب الكربلائية" وأن المعركة القادمة هي معركة وجود وبالتالي سوف يستميت الحزب في الدفاع عن وجوده، ويسعى إلى استعادة الردع المفقود تجاه إسرائيل، ويوظف في سبيل ذلك كافة إمكاناته وقدراته العسكرية.
3- نجاح الوسطاء في تهدئة الأوضاع: يفترض هذا السيناريو نجاح الوسطاء خصوصاً مصر وفرنسا والولايات المتحدة في التوصل إلى اتفاق يتم بموجبه كبح جماح تجدد التصعيد في لبنان. ويستند هذا السيناريو إلى بعض الافتراضات والاعتبارات الرئيسية، وعلى رأسها مقبولية دور القاهرة لدى كافة الأطراف اللبنانية، وردود الفعل الإيجابية تجاه المبادرة المصرية، ووجود مصلحة مباشرة لكافة الأطراف الإقليمية والدولية في تجنب سيناريو التصعيد. فضلاً عن إدراك حزب الله أنّ هذه المعركة القادمة سوف تكون مدمرة على كافة المستويات ما قد يدفع الحزب إلى إبداء بعض المرونة، بالإضافة إلى ضغوط الداخل الإسرائيلي على حكومة "نتنياهو" لتجنب التصعيد.
إجمالاً يمكن القول، إنّ الجبهة اللبنانية وفي أعقاب التصعيد الإسرائيلي الأخير باتت على صفيح ساخن، ولعل أي سيناريو سيحدث في لبنان سوف يكون مرتبطاً إلى حد كبير بمدى المرونة التي سيبديها حزب الله تجاه مبادرات الوسطاء في ملف نزع السلاح. فضلاً عن مدى القدرة الأمريكية على كبح جماح حكومة بنيامين نتنياهو، لكن كافة المؤشرات تكشف عن أنّ سيناريو تجدد التصعيد يظل هو الأكثر ترجيحاً في اللحظة الراهنة.