صورة بواسطة المصور أحمد شهاب - أرشيفية
آخر تحديث في: 07-11-2025 الساعة 8 مساءً بتوقيت عدن
"الخطاب المناطقي يمثل أحد أشكال خطاب الكراهية متى تجاوز حدود التعبير عن الانتماء المحلي إلى التحريض أو التمييز على أساس جغرافي.."
مركز سوث24 | يعقوب السفياني
يشكّل الخطاب المناطقي في جنوب اليمن إحدى الظواهر المقلقة التي طفت على السطح خلال السنوات الأخيرة، في ظل تحولات سياسية واجتماعية عميقة وتقدم تاريخي في مسار مساعي السكان لحكم ذاتي أو استعادة دولتهم السابقة، التي كانت قائمة حتى العام 1990.
وبينما يُعدّ الانتماء المناطقي جزءًا طبيعيًا من التنوّع الاجتماعي، إلا أنّ تحوّله إلى أداة فرز وتمييز قد يكون خللًا أعمق في البنية الاجتماعية. لكن أكاديميين وخبراء في جنوب اليمن، تحدثوا لمركز سوث24 في هذا التقرير، قدموا تفسيرات أوسع مختلفة تفكك هذه الظاهرة بوصفها ظاهرة مستوردة ومصدرة إلى الجنوب، وإحدى أدوات مواجهة مشروع الجنوبيين.
ويأتي هذا التقرير في سياق محاولة تفسير الظاهرة بمنهج تحليلي–تفسيري، يستند إلى مداخلات نخبة الخبراء، ولا يتوقف التقرير عند وصف الظاهرة، بل يسعى إلى تفكيك جذورها السياسية والنفسية والثقافية، وفهم كيف يُعاد إنتاجها في الخطاب العام عبر الإعلام والسياسة والمؤسسات. كما يسلّط الضوء على الفارق بين الهوية المحلية المشروعة كمساحة انتماء إيجابي، وبين المناطقية كخطاب إقصائي يُستخدم لأغراض التمييز أو التوظيف السياسي.
تعريف الخطاب المناطقي
توضح أستاذة القانون المدني في جامعة عدن د. زينة محمد أن الخطاب المناطقي يمثل أحد أشكال “خطاب الكراهية” متى تجاوز حدود التعبير عن الانتماء المحلي إلى التحريض أو التمييز على أساس جغرافي.
وأضافت لمركز سوث24: "هذا الخطاب لا يعبّر عن التنوع الاجتماعي المشروع، بل يعكس حالة من التحيز السلبي تقوّض مبدأ المساواة وتغذي الانقسام داخل المجتمع الواحد". وأشارت إلى أن المادة (20) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تجرّم أي دعاية للكراهية القومية أو الدينية أو العنصرية، وتؤكد أن هذه القاعدة القانونية تشمل الخطابات التي تستخدم الجغرافيا أداة للتفرقة أو للنيل من المكونات الأخرى.
ولفتت إلى أن توصيف الخطاب المناطقي من زاوية قانونية يساعد في إدراك خطورته كممارسة تهدد السلم الأهلي، لا كاختلاف في الرأي، وتدعو إلى تعميق الوعي المجتمعي بمخاطره على وحدة المجتمع الجنوبي وهويته.
وتُعرَّف المناطقية السلبية بأنها انحراف في الانتماء المكاني عندما يُعاد تسييسه بطريقة تُقوِّض مفهوم المواطنة وتُضعف الولاء الوطني. فهي ليست مجرّد اعتزاز بالهوية المحلية أو خصوصية المنطقة، بل تتحول إلى أداة للعزل والإقصاء عندما يُستخدم الانتماء الجغرافي لتبرير التمييز أو رفض الآخر. يرى عالم الاجتماع والسياسة الأمريكي دونالد إل. هوروفيتز في كتابه «الجماعات العِرقية في حالة صراع» (Ethnic Groups in Conflict، جامعة كاليفورنيا، 1985) أن تسييس الانتماءات المحلية أو العرقية يؤدي إلى نشوء ولاءات متنافسة تُضعف بنية الدولة الوطنية وتُغذّي النزاعات الداخلية.
كما يشير عالم الاجتماع البريطاني أنطوني ديفيد سميث في كتابه «الهوية الوطنية» (National Identity، جامعة نيفادا، 1991) إلى أن المناطقية تصبح سلبية عندما تتقدّم “الهوية الإقليمية” على حساب “الهوية الوطنية”، فتُوظَّف لشرعنة الانفصال الرمزي أو السياسي.
وفي هذا السياق، يمكن اعتبارها أيضًا شكلًا من العنف الرمزي بالمعنى الذي طرحه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه «اللغة والسلطة الرمزية» (Language and Symbolic Power، دار بوليتي، 1991)، حيث تُمارَس الهيمنة عبر اللغة والصورة والتصنيف الاجتماعي لتكريس تراتبية خفيّة بين الجماعات داخل المجتمع.
ووفقًا لهذه المقاربات، لا يمكن اعتبار المناطقية ظاهرة طبيعية أو فطرية في المجتمعات، بل نتاج بيئات مختلّة تُهمّش فئات وتُفضّل أخرى، فتجعل الجغرافيا حجة للتمييز بدلًا من كونها مصدرًا للثراء والتنوّع.
وعلى النقيض من ذلك، تُعدّ الهوية المحلية مكوّنًا طبيعيًا في البنية الاجتماعية، تعزّز التنوع وتعمّق الإحساس بالانتماء للبيئة والمجتمع دون أن تتناقض مع الهوية الوطنية الجامعة. الفرق الجوهري بينهما يكمن في الغاية، فالهوية المحلية تقوم على التفاعل الإيجابي، أما المناطقية فتنشأ حين يتحوّل هذا الارتباط بالمكان إلى وسيلة لقياس الولاء أو المفاضلة بين المواطنين.
وتُبرز التجربة في الجنوب أن الانتماء المحلي ظلّ عبر التاريخ مصدر قوة وتكامل، قبل أن تحاول بعض الخطابات السياسية والإدارية تحويله إلى أداة استقطاب وتقسيم.
ويؤكد رئيس مركز التغيير للإعلام والدراسات د. علي سالم يحيى أن الخطاب المناطقي في الجنوب لا يعكس طبيعة مجتمعية راسخة، بل هو نتيجة ممارسات سياسية وإدارية خاطئة تراكمت خلال السنوات الماضية.
وقال لمركز سوث24 أن المجتمع الجنوبي بطبيعته ميّال للتعايش والتكامل، وأن ظهور المناطقية ارتبط بحالة عدم التوازن في مؤسسات الدولة وبروز مصالح ضيقة داخل مراكز القرار. مشيرًا إلى أن تلك السياسات أسهمت في “صناعة خصم داخلي” داخل البنية الجنوبية ذاتها، الأمر الذي ولّد شعورًا بالتمييز والإقصاء واستُغل لتبرير صراعات جانبية لا تعبّر عن الواقع الاجتماعي الحقيقي.
من جانبه، يرى الأديب والناقد د. سعيد الجريري أن ما يُروَّج له من “نَفَس مناطقي” في بعض المنصات الرقمية أو الخطابات العامة لا يمثل ثقافة جنوبية أصيلة، بل هو نتاج لظروف الحرب والانقسام السياسي وتراجع الدور الثقافي المستقل.
وأضاف لمركز سوث24: "هذا الخطاب مؤقت بطبيعته، لأنه يعيش على التوترات ويذوب بزوالها، فالجنوب تاريخيًا لم يعرف الصراعات المناطقية إلا حين غابت الدولة العادلة وصعدت النزعات السياسية الضيقة. والثقافة الجنوبية، في جوهرها، قائمة على التسامح والانفتاح".
ولفت الجريري إلى أن "تحويل الجغرافيا إلى ميدان للتصنيف الاجتماعي يتناقض مع قيم المجتمع نفسه"، مؤكّدًا أن "المناطقية ليست انعكاسًا لثقافة، بل لأزمة وعي".
تشريح الخطاب المناطقي
يشير أستاذ علم الاجتماع بجامعة عدن د. فضل الربيعي إلى إن المشروع الوطني الهادف إلى بناء دولة مدنية مؤسسية حديثة في الجنوب لا يمكن أن يقوم إلا على أسس مدنية حقيقية بعيدة عن العصبيات والعفوية، وإن استمرار الخطاب القبلي والمناطقي دون مواجهة فكرية وسياسية جادة سيبقي المجتمع عرضة للتفكك والضعف.
وحول ظروف نشوء مثل هذا الخطاب، قال الربيعي لمركز سوث24 إن الخطاب المناطقي يُنتج عادة داخل بيئة مختلّة تسودها الولاءات الضيقة والعلاقات الشخصية، مؤكدًا أن كثيرًا من الأشخاص وجدوا أنفسهم في مواقع القرار بالصدفة أو عبر شبكات المصالح، ما جعل الولاء المناطقي وسيلة للانتفاع والاستئثار بالسلطة.
وأضاف أن "هذه الممارسات تعيد إنتاج تجربة النظام السابق في صنعاء، الذي اعتمد على الولاءات القبلية في إدارة الحكم، وانتهى إلى انهيار الدولة وتفكك المجتمع". مؤكدًا أن المعالجات الحقيقية لهذه الظاهرة تكمن في العودة إلى القيم المعيارية، أي الالتزام بالضوابط والمعايير المتعلقة بالكفاءة والمؤهلات، وجعلها أساسًا في إدارة مؤسسات الدولة والمجتمع.
ولفت إلى أن ترسيخ هذه الثقافة على مستوى الفكر والسلوك هو السبيل لتراجع ثقافة العفوية والولاءات، مشيرًا إلى أن أغلب أفراد المجتمع يدركون خطورة هذا الخطاب، لكن غياب الممارسة العملية لترجمة هذا الوعي إلى سلوك مؤسسي هو ما يجعل الظاهرة قابلة لإعادة الإنتاج.
وتوضح رئيسة قسم الصحافة والنشر بكلية الإعلام بجامعة عدن د. نوال مكيش أن الخطاب المناطقي في الإعلام لا يتجلّى في الكلمات فقط، بل في النية والمضمون والغاية التي تحملها المادة الإعلامية.
وأضافت لمركز سوث24: "النقد الإعلامي البنّاء هو فعل وطني ومسؤول، يستند إلى المعلومة الدقيقة والحجة الرصينة، ويسعى إلى تصحيح المسار لا إلى التحريض أو الإقصاء. أما الخطاب المناطقي فهو انحراف خطير عن جوهر الرسالة الإعلامية، لأنه يفرغ حرية التعبير من معناها ويحوّل المنبر الإعلامي إلى أداة تعبئة ضد الآخر".
وشددت على أن "الصحفي والإعلامي المحترف لا ينتمي إلى منطقة أو جهة، بل إلى ضميره المهني وقضيته الوطنية الكبرى، وأن مسؤوليته تكمن في توجيه الكلمة لخدمة المصلحة العامة لا لإشعال الخلافات".
وبشأن التمييز المهني بين النقد البنّاء والخطاب المناطقي، قالت مكيش إن ذلك "يتطلب وعيًا أخلاقيًا ومهنيًا رفيعًا، لأن الخطاب التحريضي غالبًا ما يتسلل إلى اللغة من خلال التعميم والانحياز الجغرافي".
واعتبر د. سعيد الجريري أن ظاهرة الخطاب المناطقي في الجنوب قد تكون موجودة على مستوى شعبوي لعوامل حديثة، لكنها لم تمتد إلى الأدب أو الفنون أو الإبداع الثقافي وهي الجوانب العميقة المعبرة عن بنية المجتمع.
وأضاف: "الشعر الجنوبي الحديث والقصة والمسرحية والكتابات النقدية تعبّر جميعها عن هوية فكرية جامعة تتجاوز الجغرافيا. الأدب والنقد يمتلكان دورًا أساسيًا في مواجهة النزعات المناطقية من خلال تشكيل الوعي وتحرير الفكر وإشاعة التفكير النقدي، لكن غياب المؤسسات الثقافية ذات الرؤية المستقلة جعل “الخطاب الثقافي” صدى للخطاب السياسي بدل أن يكون بديله.
الآثار الاجتماعية والنفسية
تحذر د. زينة محمد أن الخطاب المناطقي حين يتجاوز حدود التعبير المشروع إلى التحريض أو الإقصاء، فإنه يتحول إلى أداة لتقويض السلم الاجتماعي وتهديد مبدأ المساواة أمام القانون.
وتشير إلى أن هذا الخطاب يخلّف آثارًا نفسية مباشرة على الفئات المستهدفة، إذ يزرع الشعور بالوصم والتمييز، ويؤدي إلى تفكيك الروابط بين المواطنين، مؤكدة أن التحريض على الكراهية أو التحقير الجماعي يخلق حالة من العدوانية المتبادلة بين المناطق، ويقوّض الثقة العامة في العدالة والقانون.
من جانبه، يرى د. فضل الربيعي أن الخطاب المناطقي لا يهدد فقط التماسك الاجتماعي، بل يضرب جذور الثقة المتبادلة بين الأفراد والمكونات، ويعيد إنتاج الولاءات الضيقة على حساب الولاء الوطني.
ويشير إلى أن هذه الظاهرة تضعف قدرة المجتمع على الصمود في وجه الأزمات، لأنها تشتّت الجهود وتغذّي الشكوك المتبادلة، موضحًا أن تفشيها يؤدي إلى تآكل فكرة المواطنة واستبدالها بروابط الانتماء العائلي والمناطقي.
ويقول د. علي سالم يحيى إن الخطاب المناطقي خلق خصمًا داخليًا في المجتمع الجنوبي، وأدى إلى “تشظي الصف الجنوبي وتقديم خدمات مجانية لأعداء القضية الجنوبية”. مؤكدً أن خطورة هذا الخطاب تكمن في قدرته على اختراق الوعي الجمعي لا عبر القوة، بل عبر اللغة والسلوك اليومي، حتى أصبح البعض يمارسه دون وعي.
وتشير د. نوال مكيش إلى أن الإعلام حين يتورط في تغذية الخطاب المناطقي فإنه لا يؤثر فقط على الرأي العام، بل يزعزع قيم الانتماء الوطني ويحوّل الكلمة من وسيلة للبناء إلى أداة للهدم.
آليات المواجهة
يمكن مواجهة الخطاب المناطقي قانونيًا كما توضح د. زينة محمد. وأشارت إلى أن الخطاب المناطقي حين يتجاوز حرية الرأي إلى التحريض أو الإقصاء، يجب أن يُعامل قانونيًا كأحد أشكال “خطاب الكراهية”، وأن يواجه بأدوات تشريعية ومؤسسية واضحة.
وترى د. زينة أن المؤسسات القانونية والجامعات قادرة على تكوين جبهة مدنية قانونية متكاملة لتفكيك الخطاب المناطقي علميًا وقانونيًا، من خلال تنظيم الندوات والبحوث الأكاديمية حول خطاب الكراهية وتأثيره على التماسك الاجتماعي، وإدماج مفاهيم المواطنة المتساوية في المناهج التعليمية، وإطلاق حملات طلابية توعوية تعزز الانتماء الوطني فوق الانتماء الجهوي.
ويشير الأكاديمي د. فضل الربيعي إلى أن مواجهة الخطاب المناطقي تتطلب إرادة سياسية ومجتمعية جادة، لأن هذه الظاهرة لا تُهزم بالشعارات، بل ببناء مؤسسات مدنية قوية تقوم على الكفاءة والمعيارية. ويعتبر أن التحدي الأكبر أمام النخب السياسية والاجتماعية والثقافية هو تحويل الإدراك بخطورة الظاهرة إلى ممارسة عملية في السياسات والإدارات والمؤسسات.
وتتفق الأكاديمية د. نوال مكيش مع هذا الطرح، مؤكدة أن الإعلام ومؤسسات التعليم يمتلكان الدور الأهم في بناء الوعي المضاد للمناطقية. وترى أن كلية الإعلام ووسائل الإعلام الجنوبية تملكان اليوم سلاح الوعي والمعرفة، وهما خط الدفاع الأول في مواجهة الخطاب الذي يزرع الانقسام.
وتشدد على أن الإعلام الجنوبي يجب أن يتحول إلى مساحة توعوية مسؤولة تُبرز النماذج الإيجابية التي تجسد روح الجنوب الواحد، وأن تتبنى كليات الإعلام المناهج التي تزرع قيم الانتماء والاحترام المهني لدى الأجيال الجديدة. وتشير إلى أن التكامل بين التعليم والإعلام يمكن أن يُحدث أثرًا عميقًا في تشكيل وعي جمعي جديد، قائم على المسؤولية والمواطنة، بحيث تصبح الكلمة أداة للبناء لا للهدم، والمعرفة وسيلة لحماية الهوية لا لتقسيمها.
أما الأكاديمي د. علي سالم يحيى فيؤكد أن نجاح أي مواجهة فكرية أو قانونية لخطاب المناطقية مرهون بوجود إعلام وطني قوي قادر على تفكيك الخطاب المناطقي من الداخل. ويشير إلى أن الجنوب يحتاج إلى “خطاب إعلامي وطني متسامح” يركّز على بناء الهوية الجامعة، ومعالجة جذور المشكلة لا أعراضها.
ويرى أن الإعلام الجنوبي الحالي يعاني من ضعف مهني ومؤسسي كبير، وأن إصلاحه أولوية لا تقل أهمية عن الإصلاح السياسي، لأن الخطاب المناطقي يعيش ويتكاثر في بيئة إعلامية هشّة. ويشدد على ضرورة إعادة تعريف مفهوم الإعلامي والصحفي الجنوبي، وتحديد معايير الكفاءة والمهنية، وإبعاد من يتعاملون مع الإعلام كمنبر للتهريج أو للتعبئة المناطقية.