مظاهرة حوثية للتضامن مع غزة ومناهضة إسرائيل (وكالات)
آخر تحديث في: 15-10-2025 الساعة 10 مساءً بتوقيت عدن
"العمليات في البحر الأحمر لم تعد مجرد ورقة ضغط دولية لوقف الحرب، بل أصبحت فرصة لإعادة تموضع المليشيا على الخريطة الإقليمية والدولية."
مركز سوث24 | إبراهيم علي
فور الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ظهرت تساؤلات حول مصير الجبهات الأخرى التي فتحت على خلفية الحرب، وفي مقدمتها جبهة الحوثيين في اليمن التي شهدت عمليات متبادلة مستمرة بين إسرائيل والجماعة المدعومة من إيران. التساؤل كان مشروعا، لأن الحوثيين ربطوا بوضوح توقف عملياتهم في الممرات المائية والبحر الأحمر باستمرار الحرب في غزة. هذا أيضا ما أكده زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي، عندما قال إن جماعته "ستراقب التزام إسرائيل بالهدنة، وستستأنف دعمها لغزة في حال عدم امتثالها".
منطقيا، يفترض أن تؤدي صفقة غزة إلى خفوت نيران جبهة الحوثيين في شمال اليمن أو على الأقل إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر. إلا أن المؤشرات والتصريحات الإسرائيلية، إلى جانب مكاسب ومصالح الحوثيين، ترسم صورة مختلفة تماما، وتكشف أن هذا الصراع بدأ يكتسب دينامياته ودوافعه الخاصة، بعيدا عن ارتباطه بجبهة غزة.
تحوّل الدوافع الحوثية
نقطة البداية تكمن في تفكيك العلاقة المفترضة بين الجبهتين. فحتى مع افتراض مصداقية دوافع الحوثيين المعلنة حول "إسناد المقاومة الفلسطينية" والضغط لوقف الحرب على غزة، فإن التطورات التي شهدتها الحرب منحتهم استقلالية استراتيجية غير مسبوقة. فالعمليات في البحر الأحمر لم تعد مجرد ورقة ضغط دولية لوقف الحرب، بل أصبحت فرصة لإعادة تموضع المليشيا على الخريطة الإقليمية والدولية.
نجح الحوثيون من خلال هجماتهم الخارجية في كسر عزلتهم الإقليمية والدولية المفروضة خلال سنوات الحرب في اليمن، وتحولوا من فاعل محلي في حرب منسية إلى مصدر تهديد إقليمي قادر على التأثير في حركة التجارة العالمية وأمن الطاقة. كما أن المكاسب الدعائية والسياسية والعسكرية، التي تتمثل في ترسيخ صورة "المدافع" عن غزة عربيا وإسلاميا، تشكل رأس مال استراتيجي للجماعة يصعب التخلي عنه بمجرد توقيع اتفاق هدنة.
وهذا الأمر يثير أمرا مهما: إذا كانت حرب غزة مجرد مبرر لا سبب حقيقي، فستبحث الجماعة عن مبررات جديدة لاستمرار عملياتها العدائية، وربما تحت شعارات أخرى. خصوصا وأنّها مرتبطة بشكل أو بآخر بالعلاقة التي تجمعها بجمهورية إيران الإسلامية.
التحول في المنظور الإسرائيلي
في المقابل، شهدت النظرة الإسرائيلية نحو الحوثيين تحولا جذريا ربما يساوي تحول دوافع الجماعة. وفي هذا السياق لم تعد إسرائيل ترى الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة القادمة من اليمن مجرد "رد فعل" أو "إزعاج تكتيكي"، بل كشفت هذه العمليات عن نقاط ضعف استراتيجية وأكدت قدرة المليشيا اليمنية على التأثير في العمق الإسرائيلي والمصالح الاقتصادية الحيوية، وتحولها إلى تهديد وجودي.
التصريحات التي نقلتها القناة الإسرائيلية 12، بشأن قرار الأمن القومي الإسرائيلي بفصل جبهة غزة عن جبهة الحوثيين، ليست مجرد إجراء إداري فحسب، بل تعكس تحولا استراتيجيا في عقيدة المواجهة. النية الإسرائيلية لتنفيذ هجمات واسعة بعد حرب غزة، و"ضرب الحوثيين بموجات لم يسبق تنفيذها"، تؤكد أن إسرائيل باتت تخطط لعملية استباقية أو عقابية لتقويض قدرات الجماعة وتغيير قواعد الاشتباك.
كما أن إدراك إسرائيل المتزايد بأن الحوثيين لم يعودوا جماعة هامشية بل خطرا كبيرا، ينبع من عدة عوامل، أبرزها؛ نجاح الجماعة كفاعل فعال ضمن وكلاء إيران في المنطقة، قدرتها على الوصول إلى إسرائيل بأسلحة متقدمة نسبياً، والأثر الاقتصادي المدمر على حركة الملاحة في البحر الأحمر. لذلك، استمرار الصراع بالنسبة لإسرائيل أصبح ضرورة أمنية استراتيجية تتجاوز مجرد الرد على الهجمات، إلى محاولة استباقية لتفكيك خطر إقليمي صاعد.
موازنة المخاطر والمكاسب
مع استقلالية دوافع الطرفين، تصبح مسألة استمرار الاشتباك بعد هدنة غزة موازنة دقيقة بين المخاطر والمكاسب.
بالنسبة للحوثيين، استمرار الحرب يصب في صالحهم دعائيا وإعلاميا، حيث يرسخ صورتهم كـ "أبطال" يحملون لواء المقاومة وحماية غزة. لكن هذا المكسب مرتبط بكونهم يقاتلون ضمن "جبهة إسناد". أما استمرار الاشتباك بعد توقف حرب غزة فقد يعرضهم لخسائر كبيرة: فقد يفقدون غطاء "الإسناد" ويصبحون هدفا رئيسيا لإسرائيل، ما يعني توجيه كل القدرات العسكرية والتقنية والاستخباراتية نحوهم، وربما زيادة الضغوط الدولية والعزلة.
أما إسرائيل، فإن استمرار المواجهة مع الحوثيين يمنحها فرصة لتحقيق هدف استراتيجي طويل الأمد؛ تقويض قدرات جماعة تشكل ذراعا لإيران على ممر مائي حيوي هام. لكن فتح جبهة واسعة في اليمن، دون خطة استراتيجية محددة، يحمل أيضا تحديات أهمها؛ توسيع نطاق الصراع الإقليمي، أو دفع الحوثيين للرد بعنف على السفن والمصالح الدولية، مما يزيد الضغط على الملاحة العالمية ويعمّق الأزمة الاقتصادية.
حروب بالوكالة ومجال المناورة
إلى جانب حسابات المكاسب والخسائر، من المهم الإشارة إلى أن الجبهة بين الحوثيين وإسرائيل لا تُعد مجرد مواجهة مباشرة، بل هي جزء من صراع أوسع بين تل أبيب ومحور وكلاء إيران في المنطقة (محور المقاومة). ففي الوقت الذي يمثل فيه الحوثيون الذراع البحري الضاغط للمحور، تنظر إليهم إسرائيل بوصفهم تهديداً استراتيجياً يتطلب احتواءً دائماً ومستمراً.
من المنظور الإسرائيلي، تحوّل الحوثيون من مجرد "مصدر إزعاج" محدود التأثير إلى تهديد استراتيجي متصاعد يستوجب الردع على نحو متواصل. وتدرك تل أبيب أن استهداف الحوثيين لا يندرج ضمن عمل دفاعي ضد جماعة محلية فحسب، بل يعد ردا مباشرا على استراتيجية المحور ككل. ولهذا، فإن قرارها بفصل الجبهات يمثل اعترافا عمليا بأن المواجهة في البحر الأحمر وجبهة الحوثيين في اليمن هي حرب بالوكالة قائمة بذاتها، تهدف إلى استنزاف وكبح قدرات هذا "الذراع البحري" لإيران.
ويختصر تصريح أحد المسؤولين الإيرانيين بأن "الهدنة في غزة قد تعني بدء حرب في مكان آخر" طبيعة هذه المعادلة بدقة: وقف إطلاق النار لا يُنهي الصراع، بل ينقله إلى جبهات جديدة. ويعد البحر الأحمر مثالا واضحا على ذلك، حيث تحولت المواجهة فيه من ورقة دعم لغزة إلى ساحة صراع مستقلة تتداخل فيها الحسابات الإقليمية والدولية وتتشابك الأجندات الاستراتيجية للأطراف المنخرطة في هذا الصراع.
مخاطر التمدد الميداني
لا شك أن استمرار الهجمات المتبادلة بين الحوثيين وإسرائيل بعد وقف الحرب في غزة يحمل في طياته احتمالات توسع الصراع. فكلما زادت الهجمات الإسرائيلية على مواقع الحوثيين، زادت احتمالات الرد الحوثي، وربما بمستوى تصعيدي جديد. وفي حال حدوث ذلك، قد تجد أطراف إقليمية أخرى نفسها منخرطة بشكل غير مباشر، خصوصا الولايات المتحدة التي تمتلك قوات بحرية في المنطقة - على الرغم من الاتفاق المؤقت الذي رعته سلطنة عمان بين واشنطن والجماعة اليمنية.
من هنا، فإن استمرار الحرب في هذه الجبهة قد لا يكون قرارا حوثيا أو إسرائيليا خالصا، بل جزءا من لعبة إقليمية أكبر، تشترك فيها قوى عديدة. هذا التعقيد يزيد من احتمال أن يظل التوتر قائما لفترة طويلة، حتى في حال غياب العمليات الكبيرة.
إنّ الاحتمال الأرجح هو أن هدنة غزة لن توقف نيران البحر الأحمر وجبهة اليمن عموما، بل قد تنقل الصراع إلى مرحلة جديدة أكثر خطورة، إذ يسعى كل طرف لتحقيق أهدافه الاستراتيجية الخاصة. وستكون هذه المرحلة حرجة بالنسبة للحوثيين، الذين سيتحولون من "جبهة إسناد" محمية إلى "هدف رئيسي" معرض لضربات إسرائيلية غير مسبوقة. فمصير هذه الجبهة لن يكون مجرد عودة إلى نقطة الصفر، بل سيكون انتقالا إلى صراع طويل الأمد ومستقل، يمتد تأثيره من الشرق الأوسط إلى حركة التجارة العالمية.
قبل 3 أشهر