زعيم تنظيم القاعدة، سعد بن عاطف العولقي (لقطة شاشة، محمد فيصل)
آخر تحديث في: 23-11-2025 الساعة 6 مساءً بتوقيت عدن
|
|
"تبدو خطوة المنشقين لحظة مفصلية داخل مشهد الجماعات الجهادية المتطرفة في اليمن، ليس لأنها تمثل قوة كبيرة الآن، بل لأنها قد تكون النواة الأولى لتيار جديد يتبلور، أو شرارة لانقسام داخلي أعمق يهدد بانهيار تنظيم القاعدة في جزيرة العرب."
شهدت الساحة الجهادية في اليمن خلال الأيام الماضية تطورا لافتا بإصدار مجموعة من المنشقين عن تنظيم القاعدة في اليمن بيانا أعلنوا فيه دعوة التنظيم للتحاكم إلى "محكمة شرعية". وعلى رغم أن الدعوة ذاتها ليست جديدة في الخطاب الجهادي، فإن مصدرها هذه المرة هو ما يجعلها جديرة بالاهتمام والقراءة. فالمنشقون الذين أصدروا هذا البيان كانوا قد خرجوا من التنظيم قبل سنوات طويلة، ومضى كل واحد منهم في مساره الخاص، دون أي تنسيق يذكر أو نشاط سياسي أو عسكري واضح طوال الفترة الماضية. ومن هنا فإن اجتماعهم المفاجئ وإعلانهم موقفا جماعيا يحملان دلالات لا يمكن إنكارها، على المستويين التنظيمي والسياسي.
أول ما يلفت النظر هو أن هذا التحرك يشير إلى رغبة واضحة لدى المنشقين في لعب دور جديد خلال المرحلة المقبلة. فبيان يحمل لغة شرعية حادّة، موجّهة إلى تنظيم يمر بحالة من التراجع والاهتزاز، لا يصدر عبثا ولا يهدف بطبيعة الحال إلى تسجيل مجرد موقف عابر. بل يبدو أقرب إلى محاولة لإعادة تقديم أنفسهم كلاعبين محتملين في المشهد الجهادي اليمني، خاصة في ظل وجود خلافات داخل القاعدة وتزايد الضغوط العملياتية والأمنية عليها في المناطق الجنوبية.
طبيعة المنشقين وتأثيرهم المحتمل
على الرغم من محاولات التنظيم التقليل من شأن المنشقين بوصفهم "أسماء قديمة"، تشير مصادر خاصة [1] إلى أن حجم المجموعة يصل إلى العشرات، والأهم من ذلك أنهم يتمتعون بصفة نوعية. وتوضح المصادر أن معظم هؤلاء كانوا يمثلون قيادات فاعلة داخل التنظيم، وهو ما يعطي تحركهم ثقلا تنظيميا أكبر من مجرد بيان إعلامي. كما يؤكد التنسيق أو التواصل القائم بينهم أنهم يتحركون كجبهة شبه موحدة، مما يزيد من دلالة البيان كـنواة لكيان جديد محتمل أو جبهة معارضة داخلية.
من المرجّح أن المنشقين يسعون إلى بناء كيان أو إطار جديد، ليس بالضرورة أن يعلن نفسه في الوقت الراهن، لكنه يتحرك في اتجاه خلق مساحة سياسية وتنظيمية بالإمكان أن تستقطب أعضاء متذمرين من قيادة القاعدة أو مختلفين مع خياراتها خلال السنوات الماضية.
وتجدر الإشارة في هذ السياق إلى أن تنظيم القاعدة في اليمن مرّ بسلسلة من الأزمات الحادة خلال السنوات الماضية: من الانشقاق لصالح داعش قبل قرابة عقد، إلى خسائره الميدانية، إلى التنافس الداخلي على القيادة، ثم تراجع نفوذه القبلي. كل هذه العوامل جعلت التنظيم أضعف من الناحية الفكرية والتنظيمية، وهو ما يفتح المجال أمام مبادرات انشقاقية من هذا النوع.
والمثير للاهتمام أن المنشقين يدركون، على ما يبدو، أن أي حركة مضادة للقاعدة قد تستقطب انتباها دوليا وإقليميا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. التجربة السورية مع هيئة تحرير الشام تقدم مثالا حيا: انشقاق عن القاعدة حظي في نهاية المطاف بدعم سياسي وإعلامي، باعتباره قوة جهادية "أقل ضررا" يمكن التعامل معها في بعض الملفات. ربما لا يطمح المنشقون في اليمن إلى نموذج مماثل، لكن من الواضح أنهم يفهمون قواعد اللعبة الجديدة: أي فصيل ينشق عن تنظيمات مصنفة إرهابية، ويظهر بخطاب أكثر اعتدالا أو على الأقل أقل تصعيدا، قد يجد لنفسه نافذة دعم، أو على الأقل نافذة تغاضي.
"مؤامرة خارجية" ونواة كيان جديد
وبالنسبة إلى تنظيم القاعدة في اليمن، فخطوة المنشقين الأخيرة لا يمكن أن تُقرأ إلا كتهديد مباشر. من الطبيعي أن يرى التنظيم في هذا البيان "مؤامرة خارجية" لضرب تماسكه من الداخل. وهذا بالفعل ما نقلته وسائل إعلام عن "مصادر جهادية"، والتي تحدثت عن أن المنشقين ربما يكونون مدعومين من جهات عربية أو دولية تريد إضعاف القاعدة.
يشير رد فعل التنظيم، المستند إلى مصادر مقربة من مركزه الإعلامي، إلى أن قيادة القاعدة في اليمن ترى بيان "المنشقين" كـحملة منظمة وممولة خارجيا وليست انشقاقا داخليا عفويا. وتعتمد هذه الرؤية على الربط بين الأسماء الواردة في البيان والقيادي السابق عن التنظيم، رياض النهدي (أبو عمر النهدي)، المسؤول العام عن "تيار التغيير والحرية"، الذي أعلن عنه في منطقة العبر بوادي حضرموت في أبريل 2025. وتتهم مصادر في التنظيم هذا التيار بأنه "مدعوم من دولة خليجية"، ويهدف إلى مواجهة تنظيم القاعدة. ولتقويض مصداقية البيان، يصر التنظيم على أن هذه الأسماء ليست لـ"منشقين جدد"، بل هي "إعادة تدوير لأسماء قديمة" غادرت صفوفه بين عامي 2016 و 2021، مشيرة إلى أن بعضهم يقيم في مناطق لا تخضع لسيطرة القاعدة، مثل تعز وصنعاء، أو داخل مناطق نفوذ الحوثيين. ومن هنا، ترى القيادة أن الهدف من هذا التكتيك هو إحداث بلبلة إعلامية وسياسية والترويج لـ"انشقاقات مزيفة" ضمن استراتيجية خارجية موجهة ضد التنظيم.
وهذه الرواية ليست جديدة، فالقاعدة دائما تعزو أي خلاف داخلي إلى "اختراق" أو "تدخل خارجي"، لأن الاعتراف بوجود خلل ذاتي داخل التنظيم يعني الاعتراف بفشل قيادته، وهو ما تحاول تجنبه بشدة.
ورغم هذه الحساسية، فإن النقطة الأكثر أهمية هي أن مثل هذا الانشقاق لم يتكرر في السنوات الماضية. فمنذ الانشقاق الكبير لصالح داعش عام 2014–2015، لم يظهر أي كيان منشّق منظم يستطيع الوقوف كبديل أو حتى كتجمع مستقل. كل الانشقاقات التي حدثت كانت فردية أو محدودة، ولم تتطور إلى جبهة قائمة بذاتها. لذلك فإن اجتماع هؤلاء المنشقين حاليا وإصدارهم بيانا يحمل خطابا موحدا، يعطي الانطباع بأنهم قد يحاولون تأسيس شيء أكثر تماسكا من مجرد مبادرة إعلامية. وبتعبير أحد قيادات القاعدة المنشقين فإن "المستقبل للمنشقين وليس للتنظيم".
هذه الخطوة تفسّر انزعاج القاعدة الواضح من البيان، كما يمكن أن يفهم من التصريح المنقول عن مصادر جهادية. فالتنظيم يدرك أن الحركة لم تعد مقتصرة على الكتابة، بل قد تكون مقدمة لتبلور نواة تنظيمية، وربما تكون مشروعا سياسيا أو عسكريا صاعدا. وإذا ما نجح المنشقون في جذب عدد من المعترضين داخل التنظيم، أو حتى مجموعة من العناصر غير الراضية عن المسار الحالي، فإن القاعدة ستواجه أزمة تقلّص داخلي حقيقي.
صراع الشرعية داخل التنظيم
التنظيم يعاني أساسا من تآكل موارده البشرية والمالية، وفقدان مناطق نفوذ، وتراجع حضوره بين القبائل. ومع ذلك، ما يزال يحتفظ ببعض الوزن في مناطق معينة، لكن أي انشقاق جديد يساعد في تشكيل كيان مستقل سيضعف بنيته أكثر، وقد يفتح الباب لانقسامات متتالية تشبه ما واجهته جماعات جهادية أخرى في المنطقة. هذا السيناريو يقترب من صورة "التشظي الداخلي"، التي هي أخطر من الضربات الأمنية لأنها تضرب روح التنظيم وليس جسده.
وبجانب ذلك، فإن الدعوة للتحاكم إلى "محكمة شرعية" ليست مجرد جملة شرعية، بل أداة ضغط. كما أنها بمثابة اتهام مبطن بأن قيادة القاعدة لا تطبق الشريعة كما ينبغي، أو أنها انحرفت عن خطها الأول. وفي الخطاب الجهادي، يشكل هذا النوع من الاتهامات سلاحا ثقيلا يمكنه استقطاب عناصر حساسة عقائديا. فالمنشقون يعرفون جيدا أن الطعن في الشرعية الدينية للقيادة يمكن أن يفتح بابا للتمرد الداخلي، خاصة في تنظيم ينظّم شرعيته بالكامل على أساس الامتثال للعقيدة لا على أساس الانتصار السياسي.
ويكشف المنشور الذي كتبه رياض العسيري (أحد المنشقين الرئيسيين) عن جوهر الأزمة التي يواجهها التنظيم، والتي تتجاوز مجرد الخلاف على تطبيق الشريعة. الرسالة، التي جاءت تحت عنوان "قاعدة اليمن... هل تسير على منهج القاعدة الأم؟"، هي في الأساس محاكمة منهجية لقيادة التنظيم في اليمن باستخدام أقوال ومبادئ أسامة بن لادن. وتركز العناوين الرئيسية للمنشور على اتهام فرع اليمن بـالغلو، والانحراف عن فقه المآلات والموازنات، وسوء تقدير الواقع والمقومات اللازمة للجهاد، وهو ما أدى إلى الدخول في مواجهات غير محسوبة أفضت إلى المفاسد دون تحقيق مصالح معتبرة. حسب تعبير العسيري.
استنتاج
رغم أن البيان لم يعلن تأسيس كيان جديد صراحة، فإن صياغته ومصدره وسياقه يعطي انطباعا بأن المنشقين ربما يختبرون رد الفعل، سواء من داخل التنظيم أو خارجه. هذا النوع من الاختبارات شائع في البيئات الجهادية، إذ يلقى بيان أو موقف ثم بعد ذلك يقاس مدى التفاعل، ثم تبنى الخطوات التالية عليه. كما أنّ الوضع الحالي في اليمن يوفر أرضية خصبة لهذه المبادرات. فالبلد يشهد تحولات واسعة تتمثل في صراعات داخلية متزايدة، وتكاثر الجهات الفاعلة، ووجود ثغرات أمنية كبيرة، وتغير مستمر في نفوذ الجماعات المسلحة هنا وهناك. وهذه البيئة غير المستقرة تمنح المجموعة المنشقة فرصة حقيقية للظهور.
تبدو خطوة المنشقين لحظة مفصلية داخل امشهد الجماعات الجهادية المتطرفة في اليمن، ليس لأنها تمثل قوة كبيرة الآن، بل لأنها قد تكون النواة الأولى لتيار جديد يتبلور، أو شرارة لانقسام داخلي أعمق يهدد بانهيار تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
إبراهيم علي
باحث في مركز سوث24 متخصص في شؤون الجماعات المسلحة. أخفى هويته الحقيقية لأسباب أمنية
السابق: