القنصلية الإسرائيلية الجديدة في دبي، 30 يونيو 2021. — كريم صاحب/ وكالة فرانس برس عبر صور جيتي
28-08-2025 الساعة 9 مساءً بتوقيت عدن
|
في خضمّ توتر العلاقات بين الإمارات وإسرائيل عقب حرب غزة وما رافقها من أزمات دبلوماسية وأمنية، تبرز أبوظبي كلاعب إقليمي يسعى للموازنة بين مصالحه الاستراتيجية والتزاماته الإنسانية. هذا التحليل يتناول أبعاد التحولات الراهنة في مسار العلاقات الثنائية وانعكاساتها على المشهد الإقليمي.
مركز سوث24 | نانسي طلال
في مطلع أغسطس 2025، قررت وزارة الخارجية الإسرائيلية، بإجلاء معظم الدبلوماسيين الإسرائيليين وأفراد عائلاتهم من بعثاتها في دولة الإمارات. وقد شملت تعليمات الجلاء موظفي السفارة الإسرائيلية في أبو ظبي والقنصلية العامة في دبي، بالإضافة إلى أفراد أسرهم[1]. ويشمل هذا الإجراء موظفي البعثات الرسمية، بما في ذلك الوفود الدينية. تجدر الإشارة، إلى أن الجدل بشأن هذا الشكل من تخفيف العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والإمارات قد بدأ أواخر يوليو 2025، عندما تناولت وسائل إعلام إسرائيلية أنباء عن رغبة وقرار إماراتي بطرد السفير الإسرائيلي يوسي شيلي على خلفية فضائح أخلاقية[2]. إلا أن سُرعان ما غيرت إسرائيل في خطابها الإعلامي عبر بلورة صيغة تحذير أمني، وسحب الدبلوماسيين الإسرائيليين من الإمارات، مُبررة ذلك باحتمالية "تصاعد نشاط الجماعات المسلحة الساعية إلى الانتقام من إسرائيل".[3] ليعود السفير الإسرائيلي، يوسي شيلي، ويثير جدلاً واسعاً في 16 أغسطس 2025 حول سلوكه أثناء وجوده في أبو ظبي، ويتصدر عناوين الصحف مجدداً بعد أن خالف، بحسب التقارير، قواعد الأمن بنشره صورة لنفسه من داخل السفارة الإسرائيلية في الإمارات مما أغضب مسؤولو الإمارات من انتهاك البروتوكول.[4]
ذلك بالإضافة للغضب الإماراتي من إشاعة صيغة التحذير الأمني الذي يُشكك في مستويات الأمان داخل دولة الإمارات كأهم محور تُعززه الدولة وتستثمر فيه كإطار حيوي جاذب للاستثمار الدولي وتوافد السياحة ولجوء أغنياء العالم إليها، خاصة بعدما صدر بيان رسمي عن الولايات المُتحدة والمملكة المتحدة و12 دولة أخرى في 31 يوليو2025، يؤكد أن إيران تسعى إلى التعاون مع المنظمات الإجرامية الدولية "لاستهداف الصحفيين والمعارضين والمواطنين اليهود والمسؤولين الحاليين والسابقين". إلى جانب ذلك، أصدرت بريطانيا بياناً حذّرت فيه من أنّه من المرجّح جداً أن "يحاول الإرهابيون تنفيذ هجمات في الإمارات"[5]. وهو ما انعكس في تغريدات عدد من المؤثرين الإماراتيين على منصة «إكس» الذين سارعوا للدفاع عن سمعة بلادهم الأمنية.
وفي ظل المُستجدات الإقليمية والمُتغيرات البارزة مؤخراً في التصريحات الرسمية من الجانبين الإماراتي والإسرائيلي، يرصد هذا التحليل المُتغيرات في المشهد الحالي وأبعاد تأثيره في شكل العلاقات الإماراتية الإسرائيلية الثنائية وسياسات كلاً منهم إقليمياً.
تعاون اقتصادي وطيد
وقّعت إسرائيل والإمارات اتفاقياتٍ لإقامة علاقات دبلوماسية في سبتمبر 2020. عُرفت باسم اتفاقيات إبراهيم، تلك الاتفاقيات التي توسطت فيها الولايات المتحدة، وشملت البحرين، ثم وُسِّعت لاحقًا لتشمل المغرب. شكّلت التجارة عنصرًا أساسيًا في اتفاقيات إبراهيم، إلا أن وتيرة نمو تجارة إسرائيل مع البحرين والمغرب ظلت مُتواضعة بما تحقق بين إسرائيل والإمارات، حيث بلغ إجمالي تجارة السلع عام 2021 بين إسرائيل والبحرين (6.5 مليون) دولار أمريكي، بعد أن لم يُسجَّل أيُّ تبادلٍ تجاريٍّ في عامي 2020 و2019. وبلغت تجارة إسرائيل عام 2021من السلع مع المغرب (41.6 مليون) دولار أمريكي. إلا أن حجم التجارة بين إسرائيل والإمارات تجاوز المليار دولار خلال العام الأول من إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مُحققاً (1.1 مليار) دولار أمريكي. كما استوردت إسرائيل بضائع بقيمة (771.5 مليون) دولار أمريكي من الإمارات في العام 2021، وهي قفزة هائلة مقارنة بـ(114.9مليون) دولار أمريكي المسجلة في عام 2020، وفقًا لبيانات المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي. وتلقت الإمارات واردات إسرائيلية بقيمة) 383.2 مليون (دولار أمريكي خلال الفترة نفسها[6]. فضلاً عن إعلان الإمارات عام 2021 عن إنشاء صندوق استثماري بقيمة (10 مليارات) دولار يستهدف القطاعات الاستراتيجية في إسرائيل.[7]
كما نمت التجارة بين الإمارات وإسرائيل بنسبة (11%) بين عامي 2023 و2024، على الرغم من الاعتراضات الإماراتية الشديدة على الحرب في غزة، ووفقًا لمكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، بلغ إجمالي حجم التجارة بين إسرائيل والإمارات -باستثناء البرمجيات والصفقات المباشرة بين الحكومتين – حوالي (3.2 مليار) دولار في عام 2024. فقد بلور مُراقبين وصف ارتفاع التعاون التجاري بأنه انعكاس لعمق العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والإمارات مقارنةً بتلك التي أحدثتها معاهدات السلام التي أبرمتها إسرائيل على مدى عقود مع مصر والأردن، والتي بدت أقرب إلى سلام بارد اتسم بالنزاعات[8].
يرى مُراقبون أن النجاح الحيوي لاتفاقيات إبراهيم هو عدم اقتصارها على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تعزيز العمل على التقارب الدبلوماسي أيضاً[9]. فقد أبقت الإمارات على سفيرها في تل أبيب حتى في الوقت الذي كانت تشن فيه حملة شرسة في مجلس الأمن الدولي لاتخاذ إجراءات لوقف إطلاق النار في غزة. كما أرسلت كميات كبيرة من المساعدات إلى القطاع المحاصر، وافتتحت مستشفى ميدانيًا هناك، ونقلت مئات الغزيين لتلقي العلاج الطبي في أبوظبي.
تعاون عسكري وتوازن دبلوماسي
أطلقت دولة الإمارات في إبريل 2025، خطتها الاستراتيجية 2025-2028 لتعزيز قطاعها الدفاعي، مع التركيز بشكل كبير على توطين الصناعات وتطوير مناطق صناعية جديدة. حيث تمتلك الإمارات أكثر من 400 شركة دفاعية، تُنتج مكونات صغيرة وأخرى كبيرة لذخائر المركبات العسكرية، على رأسها شركة EDGE، التي تتخذ من أبوظبي مقراً لها، كتكتل دفاعي يضم أكثر من 35 شركة تحت مظلتها[10]. وفي ظل اتفاقيات إبراهيم، التي أدت لإضفاء الطابع الرسمي على تجارة الأسلحة وتسهيل نقل التكنولوجيا الحساسة، دخلت مجموعة EDGE الإماراتية مؤخراً، مُحادثات مع ممثلي شركة الدفاع الإسرائيلية Elbit Systems بشأن شراء "طائرة هيرمس 900 "المسيرة متوسطة الارتفاع وطويلة المدى (MALE)، بالإضافة إلى اتفاقيات نقل التكنولوجيا وترخيص الإنتاج[11]. إذ تُعتبر اتفاقية "هيرميس" كأمر حيوي يُمكّن الإمارات من الانتقال من دولة مستوردة إلى دولة مصنّعة، وإذا تم الانتهاء من هذه الاتفاقية، فإنها ستشكل خطوة مهمة في تعميق التوافق الاستراتيجي والتعاون الدفاعي والردع الإقليمي، مما قد يؤدي إلى تغيير التوازن الجيوسياسي في الخليج. علماً بأن البلدان يتبادلان المعلومات الاستخباراتية بشأن التهديدات المشتركة ويعملان عبر منصة استخبارات مشتركة، تسمى "كريستال بول"، تركز على تهديدات الأمن السيبراني.[12]
الجدير بالذكر أنه في السنوات الخمس التي سبقت الاتفاقيات الإبراهيمية، التقى قادة الإمارات وإسرائيل سرًا في عدة مناسبات لمناقشة الأمن الإقليمي، والتهديد الذي تشكله إيران على مصالحهما، والتعاون العسكري المحتمل[13]، ويُعتبر الحذر من إيران من أهم المحاور التي بُنيت عليها العلاقات بين إسرائيل والإمارات. كما رأى القادة الإماراتيون أن الاتفاقيات الإبراهيمية بوابة واسعة لتعزيز التجارة، وتوطيد الروابط مع واشنطن، وهو ما أثبت أهميته في فتح باب بيع أنظمة الأسلحة والطائرات المتطورة.
ففي ظل المشهد الإقليمي المتقلب بشكل متزايد، يُكافح الخليج عامة جاهدًا لتجنب أي مواجهات بين إسرائيل وإيران، لتجنب أي تأثيرات سلبية تمس مصالح دول الخليج أو تُزعزع أمنها، الذي تبنى عليه تطورات سياساتهم التُجارية والاستثمارية. لذا يبرز نهج الإمارات في محافظتها على علاقات دبلوماسية مع كل من إسرائيل وإيران، مُحتفظة بمكانة نادرة -ليس كمراقب سلبي، بل كجسر تواصل محتمل. فعلى الرُغم من عدم الإعلان عن أي وساطة رسمية، تشير مصادر دبلوماسية إلى أن الإماراتيين حافظوا بهدوء على قنوات الاتصال مفتوحة مع إيران وإسرائيل، حتى خلال ذروة الحرب المستمرة بين إسرائيل وحماس.[14] كما كشفت "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية عن وساطة إماراتية غير مُعلنة لمُحادثات "غير رسمية" بين إسرائيل وسوريا. وُصفت المناقشات بأنها تركز على المسائل الأمنية، وورد أن الجانب السوري طلب من إسرائيل مهلة للسماح للرئيس الجديد "بتنظيم" الأمور، وطالب بوقف الغارات الجوية الإسرائيلية على الأراضي السورية[15].
ولا يُمكننا إغفال التصاعد الملحوظ في حجم الدعم الإماراتي لأهل غزة، فإلى جانب البيانات والجهود الدبلوماسية المبذولة في الإطارين العربي والشرق أوسطي المشترك، يبرز بشكل خاص أن الإمارات قد خصصت منفردة أكثر من 34 مليون دولار لإغاثة قطاع غزة. وأنشأت مستشفى ميدانيًا وبحريًا، ونفذت ما يُقدر بحوالي (77) إنزال جوي للمُساعدات على القطاع المُحاصر ومازالت في تزايد[16]. وعندما أوقف المانحون الغربيون تمويلهم لوكالة (الأونروا) -وهي المنظمة الرئيسية التي تقدم المساعدات للاجئين الفلسطينيين -بسبب مزاعم تورط اثني عشر موظفًا في هجوم حماس، ضاعفت أبوظبي مساهمتها للوكالة، وقد عكس ذلك فارقاً كبيراً في الخطاب الإماراتي إزاء إسرائيل، ولا سيما في ما يتعلق بتعنّتها في ملف غزة، مقابل ما يرد في الخطاب الرسمي الإسرائيلي عن مشروع "إسرائيل الكبرى" والمضي في تنفيذ خطة الاستيطان E1 في الضفة الغربية.[17]
وتوجت الجهود الإماراتية المتواصلة في مواجهة التصعيد الإسرائيلي بإطلاق المشروع المصري–الإماراتي "شريان الحياة"، الذي يتضمن إنشاء خط استراتيجي بطول 7 كيلومترات يمتد من محطات التحلية الإماراتية في رفح المصرية وصولاً إلى المواصي جنوب القطاع، ليستفيد منه نحو 600 ألف مواطن، في إطار المساعي الرامية إلى تأمين الاحتياجات الأساسية للسكان والتخفيف من معاناتهم الإنسانية[18].
ختاماً
في ضوء ما سبق، نرى أن الموقف الإماراتي الغاضب يُشكل مرحلة مُختلفة من نسج سياسات الدولة الخليجية تجاه التعامل مع إسرائيل، ويمتاز بكثير من الضغط الدبلوماسي الصريح. حيث أفادت مصادر مطلعة لوكالة بلومبرغ أن رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد، رفض استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخراً، ويبدو أن إسرائيل بدأت تستوعب أن خسارة الإمارات كدولة صديقة أمر حيوي له تأثير فارق على مسارات إسرائيل للاستقرار، وقد يكون للبقاء.
وفي هذا السياق، أوفد رئيس الوزراء الإسرائيلي أقرب حلفائه، وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، إلى أبوظبي في محاولة لـ "إصلاح العلاقات المتوترة بين البلدين عقب حرب غزة"، حيث تمحورت زيارته حول "إطلاع القيادة الإماراتية" على العملية الإسرائيلية المخطط لها للسيطرة على مدينة غزة. وكان الرد تحذير مسؤولو أبوظبي من أن أي عملية استيلاء شاملة قد "تؤدي إلى نتائج كارثية".[19] علماً بأن القناة 12، أفادت أن هناك احتمالاً بأن تُعقد الجولة القادمة من المحادثات غير المباشرة بين إسرائيل وحماس بشأن اتفاق إطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق النار في الإمارات[20]، في خطوة يُنظر إليها كمسعى لاسترضاء أبوظبي، خاصة بعد أن جنحت السياسات الإسرائيلية نحو خيار الاجتياح الكامل لقطاع غزة.
نانسي طلال زيدان
زميلة غير مقيمة في مركز سوث24، باحثة في العلوم السياسية والتحليل الإعلامي