الرئيس التركي رجب أردوغان - إنترنت
آخر تحديث في: 17-08-2025 الساعة 8 مساءً بتوقيت عدن
|
"غلب على الموقف التركي على مستوى التعامل مع هجمات ميليشيا الحوثي في اليمن، حالة من التماهي أو التزام الصمت في أوقات كثيرة من عمر التصعيد الممتد منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم.."
مركز سوث24 | محمد فوزي
خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الثاني عشر من يناير 2024 بتصريحات ندد فيها بالهجمات الأمريكية البريطانية التي كانت تستهدف في ذلك الوقت ميليشيا الحوثي في اليمن، معتبراً أن "هذه الهجمات تساهم في خلق حمام دم في البحر الأحمر". وبالنظر إلى هذه التصريحات وطبيعة التعاطي التركي مع التصعيد الذي تشهده منطقة البحر الأحمر منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم، يتضح أنّ هذه المواقف التركية لا تأتي فقط انسجاماً مع قطاعات من الرأي العام في تركيا متعاطفة مع الفلسطينيين وترى أنّ الهجمات الحوثية تأتي كمحاولة للانتصار للشعب الفلسطيني، بل إنّ هذا الموقف التركي جاء في إطار مقاربة تسعى إلى تحويل أزمة البحر الأحمر إلى فرصة ومكسب استراتيجي.
في هذا السياق، نقلت صحيفة يسرائيل هيوم العبرية مقالًا، قال إن "الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يسعى إلى توظيف الأزمة الراهنة في منطقة البحر الأحمر من أجل الدفع بمشروع الممر الأوسط، وهو طريق النقل الدولي العابر لبحر قزوين". ولفت التقرير إلى أنّ "أنقرة أنشأت قنوات اتصال مع الحوثيين عبر شبكة إقليمية تضم إيران وقطر وفصائل يمنية حليفة، استُخدمت لتأمين قنوات تمويل وتسليح سرية عبر شركات وموانئ تركية، شملت تهريب آلاف البنادق وأجهزة استشعار". وهي كلها مؤشرات تطرح تساؤلات بخصوص طبيعة الموقف التركي من التطورات في منطقة البحر الأحمر، وحدود توظيف تركيا لهذه التطورات على مستوى التخديم على أهدافها الاستراتيجية ومشروعها الإقليمي في المنطقة.
أولاً- أنماط التعاطي التركي مع تطورات البحر الأحمر
تبنّت أنقرة منذ بداية التصعيد في منطقة البحر الأحمر مقاربة حذرة نسبياً على مستوى التعامل مع الوضع المعقد في الممر الاستراتيجي المهم، وهي المقاربة التي لم تنفصل عن موقفها إجمالاً من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. فضلاً عن سعي تركيا لتوظيف هذه التطورات بما يخدم أجندتها في منطقة الشرق الأوسط، وفي هذا الإطار يمكن رصد أبرز ملامح الموقف التركي من تطورات البحر الأحمر في ضوء الآتي:
1- ربط التصعيد في البحر الأحمر بحرب غزة: كان الساسة والمسؤولون الأتراك حريصين في تعاطيهم على المستوى الرسمي على الربط بين الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وكافة أنماط التصعيد الذي شهدته منطقة الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم، بما في ذلك الوضع الأمني المتدهور في منطقة البحر الأحمر، على وقع التصعيد الحوثي. وكان آخر مؤشرات هذا الموقف التركي ما ذكرته نائبة المندوبة التركية لدى الأمم المتحدة، أسلي جوفن خلال الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن الدولي، حيث أكدت أنّ "تركيا تولي أهمية كبيرة للأمن البحري وحرية الملاحة، وأن وقف إطلاق نار دائم في غزة أمر ضروري لضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر"، محذرةً من أنّ "إسرائيل تغذي حالة عدم الاستقرار في المنطقة بأسرها".
2- عدم الانخراط في تحالفات البحر الأحمر: كان لافتاً أنّ تركيا أحجمت عن الانخراط في التحالفات التي تم تشكيلها في منطقة البحر الأحمر، سواءً تحالف "حارس الازدهار" الذي شكلته الولايات المتحدة، أو "قوة أسبيدس" التي شكلها الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي حرص بعض المسؤولين الأتراك على التأكيد عليه وفق تقارير. ويبدو أنّ مرجع هذا التحفظ التركي على الانخراط في تحالفات البحر الأحمر، يرتبط من جانب بعدم رغبة أنقرة في الدخول في صدام مع الحوثيين، استناداً لمنطق وظيفي ربما تتعامل به أنقرة مع الميليشيا اليمنية، ومن جانب آخر لافتراض مهم مفاده أنّ تركيا نجحت طوال السنوات الماضية في استثمار غياب منظومة أمنية في البحر الأحمر لتطوير حضورها، وبالتالي تنظر أنقرة إلى مثل هذه التحالفات باعتبارها أحد مصادر تهديد نفوذها في البحر الأحمر.
3- التنديد بالهجمات الأمريكية البريطانية ضد الحوثي: ندد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 12 يناير 2024 بما وصفه بالرد غير المتناسب الذي نفذته واشنطن ولندن على مواقع الحوثيين في اليمن، كما اتهم الغرب بالرغبة في "صنع حمام دم في البحر الأحمر"، وأضاف: "اليمن يقول من خلال الحوثيين وباستخدام كل قوته إنه سيقوم بالرد اللازم في المنطقة على الولايات المتحدة وبريطانيا". وتابع: "كل هذه التصرفات تشكل استخداماً غير متناسب للقوة" وفق تعبيره.
4- تنديد محدود بهجمات الحوثيين: غلب على الموقف التركي على مستوى التعامل مع هجمات ميليشيا الحوثي في اليمن، حالة من التماهي أو التزام الصمت في أوقات كثيرة من عمر التصعيد الممتد منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم. وكانت الحالة الوحيدة التي نددت فيها أنقرة بهجمات الحوثيين، في نوفمبر 2024، عندما استهدفت الميليشيا اليمنية السفينة "أناضول إس" بعدد من الصواريخ الباليستية والبحرية، حيث ندد بيان للخارجية التركية بالهجوم، وأشار إلى اتخاذ التدابير اللازمة لتجنب تكرار مثل هذه الحوادث، من دون أن يحدد تلك التدابير.
وبشكل عام مثل هذا الموقف التركي اتساقاً مع سردية رسمية تركية تقوم بشكل رئيسي على الدعوة لوقف التصعيد والتهدئة الإقليمية، خصوصاً وأن "أردوغان" كان قد أشار ضمنياً إلى أنّ هذه الضربات سوف تساهم في تأجيج النزاع بالمنطقة. كما أنّ هذه التصريحات لا تخرج عن مقاربة أنقرة إجمالاً تجاه الدول الغربية والتي تحاول توظيف بعض السياقات من أجل انتزاع مكاسب سياسية واستراتيجية من هذه الدول.
ثانياً- سعي أنقرة لاستثمار أحداث البحر الأحمر
دائماً ما تتبنى أنقرة خلال العقدين الماضيين مقاربة تقوم على توظيف الأزمات والسعي لتدوير الخسائر وتحويلها إلى مكتسبات استراتيجية، ولعل ملامح هذه المقاربة تتجلى في عودة وتنامي الحديث عن مشروع "الممر الأوسط" في ثنايا التصعيد الجاري في منطقة البحر الأحمر، وبشكل عام يمكن إبراز ملامح هذا المشروع في ضوء النقاط التالية:
• منذ العام 2019 بدأت تركيا والصين في تكثيف المباحثات الثنائية بخصوص مشروع أُطلق عليه "الممر الأوسط" كأحد المشاريع التي انبثقت عن مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، وتروج الدوائر التركية للمشروع باعتباره أحد الممرات البرية البديلة ذات العائد الكبير، من حيث توفيره للتكلفة والوقت.
• تُركز السرديات الخاصة بالدوائر التركية والتي تحاول الترويج للمشروع على أطروحات من قبيل أنّ هذا المشروع سوف يكون أقصر في المسافة بين آسيا وأوروبا وهنا يُقصد الممر الشمالي الذي يمرّ من الصين عبر روسيا وبيلاروسيا للوصول إلى أوروبا، وكذلك عن طريق التجارة الجنوبي الذي يمرّ عبر قناة السويس.
• بشكل عام وبتحليل المعطيات والتصريحات الخاصة بالمسؤولين الأتراك بهذا الخصوص، فإن هذا الممر يستهدف الربط بين الشرق والغرب والوسط عبر بحر قزوين والبحر الأسود، في إطار الجهود المبذولة لإحياء طريق التجارة القديم لطريق الحرير الذي يربط بين شرق آسيا وأوروبا، ومن هنا أسماه البعض "مبادرة طريق الحرير الجديدة".
ومن ثم سعت تركيا إلى توظيف التوترات في منطقة البحر الأحمر، من أجل الترويج لهذا المشروع الاستراتيجي الخاص بها، مستغلةً في ذلك الأضرار التي لحقت بعمليات التجارة البحرية في منطقة البحر الأحمر على وقع هجمات الحوثيين، في إطار مقاربة "استثمار الأزمات"، لكن هذا المشروع يواجه مجموعة من التحديات المركبة، وذلك على النحو التالي:
- يغلب على البيئة الجيوسياسية في المنطقة التي يشتمل عليها "الممر الأوسط" حالة من التعقيد والتوتر، فمن جانب قد ترى روسيا أنّ هذا المشروع سوف يتعارض ومكاسبها وحساباتها التجارية والاقتصادية والجيوسياسية، وهذا التحفظ الروسي قد ينسحب على بعض الأطراف الأخرى مثل كازاخستان وقرغيزستان، ومن جانب آخر يوجد العديد من الإشكالات الأمنية التي لا تزال عالقة، وهي عوامل قد تقلل من تشجع العديد من الأطراف للانخراط في هذا المشروع.
- أشارت بعض التقديرات إلى أن أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الممر الأوسط ترتبط بانخفاض سعته، حيث إنّ سعته تمثل نسبة 5% فقط من سعة الممر الشمالي الذي يمر عبر روسيا وبيلاروسيا إلى أوروبا، فضلاً عن العديد من التحديات والإشكالات اللوجستية الأخرى.
- رغم أن المسؤولين والدوائر التركية وفي إطار حديثهم عن المشروع، أشاروا إلى مدة عملية النقل سوف تستغرق 12 يوماً، ما يعطي ميزة تنافسية للمشروع، إلا أنّ التحديات المرتبطة بالحدود بين دول الممر الأوسط، خصوصاً ما يتعلق بالإجراءات الروتينية والجمارك تقوض هذه الميزة، وتدفع باتجاه زيادتها بشكل كبير، ما يؤثر على ميزة اختصار الوقت.
- على عكس ما تروج له بعض الدوائر التركية فإن الممرات البحرية تظل تحتفظ بامتيازات كبيرة عن نظيرتها البرية كما في حالة "الممر الأوسط"، على اعتبار أنّ طرق النقل البحري لديها قدرات استيعابية كبيرة تتفوق على تلك البرية، ولعل ذلك ما يدفع الدول والشركات إلى تفضيل الممرات البحرية.
ثالثاً- استراتيجية تركيا في البحر الأحمر
يمكن القول إنّ اهتمام تركيا بالبحر الأحمر هو مسألة قديمة وتعود إلى فترة الدولة العثمانية حيث كانت ذروة الاهتمام بمنطقة البحر الأحمر، في إطار حروب الدولة العثمانية مع عدد من الأطراف الأوروبية، وإقامة العثمانيين العديد من القواعد العسكرية والاستخباراتية في البحر الأحمر. وفي هذا السياق كان ملاحظاً أنّ حكومة حزب العدالة والتنمية التركية قد زادت بشكل كبير من اهتمامها بتعزيز الحضور في البحر الأحمر خلال السنوات الأخيرة، مدفوعة في ذلك بمجموعة من الاعتبارات والعوامل الرئيسية، وذلك على النحو التالي:
1- التنافس الإقليمي والدولي في البحر الأحمر: شهدت العقود الأخيرة تغيرات لافتة في طبيعة البحر الأحمر، الذي كان يُنظر إليه قديماً باعتباره بحيرة عربية – إفريقية، إلا أنّ هذا الطابع بدأ يتغير تدريجياً مع ظهور إسرائيل وإنشائها ميناء إيلات، وانخراط إسرائيل في علاقات مع العديد من الأطراف الأفريقية المشاطئة للبحر الأحمر، وتباعاً دخول العديد من القوى الإقليمية والدولية الأخرى على خط التنافس في البحر الأحمر وخصوصاً الولايات المتحدة والصين وإيران وروسيا. وبالتالي يأتي هذا الاهتمام التركي بالبحر الأحمر في إطار حالة التنافس بين القوى الإقليمية والدولية، كما أنه يأتي في إطار الاستراتيجية التركية الرامية لتوسيع النفوذ في الشرق الأوسط وفي القارة الإفريقية.
2- تعزيز شبكة المصالح الاقتصادية والتجارية: لا يمكن الفصل بين هذا الاهتمام التركي بمنطقة البحر الأحمر، وبين شبكة المصالح الاقتصادية والتجارية لأنقرة، وكان ملاحظاً في هذا الإطار تركيز أنقرة على تطوير وبناء الموانئ أو الاستثمار فيها، بما يحقق مكاسب استثمارية وتجارية عديدة. كما أنّ هذا الحضور في البحر الأحمر يمثل فرصة لتحقيق أشكال من التكامل التجاري والاقتصادي أو تعزيز الشراكة مع بعض القوى الاقتصادية الدولية، بالإضافة للسعي لزيادة حجم المبادلات التجارية بين تركيا ودول البحر الأحمر، وهي كلها مكاسب مهمة خصوصاً في ظل الأوضاع الصعبة التي يعاني منها الاقتصاد التركي.
3- الضغط لتمرير اتفاقات مع الجانب الأوروبي: في إطار مقاربة "توظيف الأزمات" لا يُستبعد أن يكون هدف المقاربة التركية على مستوى التعاطي مع الأزمات الأمنية في البحر الأحمر، يتمثل في الضغط لتعزيز التقارب مع الاتحاد الأوروبي، والضغط لتمرير اتفاقية لتحديث اتفاقية "الاتحاد الجمركي" وزيادة التبادل التجاري خصوصاً وأن دول الاتحاد الأوروبي بدأت باستيراد السلع والمنتجات من تركيا عقب تفاقم أزمة النقل البحري في البحر الأحمر.
4- خدمة أجندة تركيا وسياستها الخارجية: تستهدف تركيا بشكل رئيسي عبر مقاربتها تجاه التطورات في منطقة البحر الأحمر، سواءً ما يتعلق بأنماط التعامل مع التصعيد الحوثي، أو ما يتعلق بالسعي لتعزيز الحضور في البحر الأحمر، تعزيز أجندتها الإقليمية وتموضعها في منطقة الشرق الأوسط، على اعتبار أن هذه المقاربة سوف تؤمن لأنقرة الحضور كمنافس للعديد من القوى الدولية والإقليمية، خصوصاً وأن منطقة البحر الأحمر تمثل منطلقاً لوجستياً مهماً للعديد من الملفات الأخرى، كما أن ذلك يضمن لأنقرة التحول تدريجياً إلى فاعل مهم في أي ترتيبات أمنية يتم بناؤها في منطقة البحر الأحمر.
ويُلاحظ في هذا السياق، أنّ أنقرة بدأت في التحرك من أجل تحقيق هذه الأهداف من خلال مجموعة من المسارات الرئيسية، سواءً من خلال القوة الناعمة والتي تشكل المساعدات الإنسانية والمشاركة في عمليات بناء السلام والمنظمات الدينية عمادها الرئيسي. فضلاً عن مسار القوة الخشنة عبر مسار القواعد العسكرية كما في حالة السودان، أو عبر مسار بناء علاقات ببعض المجموعات التي باتت فاعلة في إطار البحر الأحمر على غرار حالة الحوثيين، أو ما يتعلق بالاعتماد على الشراكات الاقتصادية والتحالفات التجارية.
إجمالاً يمكن القول، إنّ النهج التركي في التعاطي مع الأزمات الأمنية التي تشهدها منطقة البحر الأحمر منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم، حاول الموازنة بين التماهي مع ميليشيا الحوثي وعدم الصدام معها، فضلاً عن السعي لتوظيف هذه التطورات من أجل إحياء مشروعات استراتيجية تركية على غرار مشروع "الممر الأوسط"، بما يخدم المشروع الإقليمي لتركيا في المحصلة.