التحليلات

لماذا تفشل إسرائيل في اليمن رغم نجاحها في إيران ولبنان؟

مقاتلون حوثيون جدد يرددون شعارات من على متن مركبة عسكرية خلال تجمع أقيم في 3 يناير 2017 بصنعاء. [محمد حويس / وكالة فرانس برس]

آخر تحديث في: 20-07-2025 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن

"البنية الأمنية التي تعتمدها جماعة الحوثيين، تتسم باللامركزية، والسرية الشديدة، وتعتمد على خلايا مستقلة، لا تتواصل فيما بينها إلا بوسائل بدائية يصعب التجسس عليها.."


مركز سوث24 | إبراهيم علي


خلال عامي 2024 و2025، بدا أن إسرائيل وصلت إلى ذروة قدراتها الاستخباراتية والعملياتية؛ فقد نجحت في تنفيذ سلسلة اغتيالات دقيقة ومركّزة ضد قادة حزب الله اللبناني، بمن فيهم الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، في واحدة من أكثر العمليات الاستخباراتية جرأة منذ عقود. لم تتوقف عند لبنان، بل امتدت عملياتها لتطال قيادات بارزة في الحرس الثوري الإيراني، سواء في طهران أو في مناطق نفوذهم الإقليمي.


لكن هذا النجاح لم يمتد إلى اليمن. ورغم العمليات المتكررة التي شنها الحوثيون ضد المصالح الإسرائيلية، سواء عبر استهداف السفن في البحر الأحمر أو إطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة نحو الجنوب الإسرائيلي، فإنّ إسرائيل لم تستطع حتى الآن اغتيال أيّ من كبار قادة جماعة (الحوثيين). حتى الضربة التي أعلنتها ضد اجتماع عسكري في صنعاء، والتي كانت تستهدف اغتيال رئيس هيئة الأركان محمد الغماري، اتضح لاحقا أنها لم تصب هدفها. فلماذا تفشل إسرائيل في اليمن بينما تنجح في لبنان وإيران؟


التضاريس الجبلية


عند تأمل التباين بين مسار العمليات الإسرائيلية في لبنان وإيران من جهة، واليمن من جهة أخرى، تظهر الجغرافيا كعنصر حاسم يفصل بين النجاح والفشل. فالعمل الاستخباراتي والعسكري لا ينمو في الفراغ، بل يستند إلى الأرض التي يتحرك فوقها. وبهذا المعنى، تمثل الطوبوغرافيا الجغرافية عاملا فارقا، بل قد تكون أحيانا الحصن الأول والأخير.


في لبنان وسوريا، تجد إسرائيل أرضا مألوفةً، مارست فيها نشاطها الاستخباراتي لعقود. فجنوب لبنان، على سبيل المثال، يرتبط مع إسرائيل بحدود مباشرة، ما يسهّل إدخال عناصر استخباراتية أو شن غارات جوية دقيقة. كما أن البنية التحتية هناك، سواء كانت رقمية أو ميدانية، حديثة ومترابطة، مما ييسّر مراقبة التحركات والتنصّت على الاتصالات، أو حتى تتبّع الأهداف عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة. هذا فضلا عن اختراق اجتماعي حاصل منذ زمن طويل، يجعل من بعض المجتمعات بيئات رخوة نسبيا أمام عمليات التسلل المعلوماتي أو البشري.


في اليمن، وتحديدا في شمال البلاد حيث تتركز جماعة الحوثيين، تشكّل الطبيعة الجغرافية الوعرة تحديا أمنيا واستخباراتيا بالغ التعقيد. فالمناطق الجبلية الحصينة هناك لا توفر غطاء طبيعيا فقط، بل تعيق أيضا عمليات المراقبة والرصد، حتى باستخدام أكثر التقنيات تطورا.


كما أن الحوثيين لا يقيمون في قصور مكشوفة أو مقار قيادية ثابتة، بل يتنقلون باستمرار، ويتخذون من الكهوف أو البيوت المتفرقة ملاجئ مؤقتة


عقود من التسلل في لبنان


يتجلّى تفوق إسرائيل في المجال الاستخباراتي بوضوح في قدرتها على بناء شبكات تجسس متشعبة وفعالة داخل عدد من الدول المعادية، وعلى رأسها لبنان وإيران. فقد استطاعت تل أبيب، بعمل تراكمي امتد لعقود، أن تنفذ إلى عمق البيئات الأمنية والسياسية لهذه الدول، وتنفّذ عمليات نوعية حاسمة. في المقابل، تبدو البيئة اليمنية أكثر استعصاء على الاختراق، لأسباب تتصل بطبيعة النظام الأمني السائد في مناطق سيطرة الحوثيين، وغياب أي بنى محلية يمكن استغلالها للاختراق أو التجنيد.


في لبنان، شكّل العمل الاستخباراتي الإسرائيلي نموذجا فاضحا للاختراق العميق، ليس فقط للمجتمع اللبناني، بل حتى لبعض الدوائر الضيقة داخل حزب الله. فخلال عام 2009، أعلنت السلطات اللبنانية عن تفكيك أكثر من 11 شبكة تجسس إسرائيلية نشطة، ضمن حملة شملت ما يزيد عن 70 عميلا، أُلقي القبض على أكثر من 40 منهم، في حين فرّ الآخرون إلى إسرائيل أو إلى الخارج. هذا الاختراق لم يكن محدودا، بل طاول ضباطا كبارا، من أبرزهم العميد أديب العلم، الذي خدم في الأمن العام، والعقيد شهيد تومية، الذي زوّد مشغّليه بإحداثيات لمواقع عسكرية لبنانية استُهدفت لاحقًا خلال عدوان تموز 2006. 


كذلك، نفّذت شبكات أخرى مهاما تتعلق بتحضير بيئة اغتيالات، كعملية تصفية القيادي في الحزب غالب عوالي عام 2004. وقد اعترف عدد من المتورطين، كزياد الحمصي، بعقد لقاءات مع مشغّليهم في دول مثل تايلاند، واستخدام "بنك أهداف" يتضمن مواقع للحزب، ومنشآت مدنية وعسكرية في لبنان وسوريا.


وقد بلغ هذا الاختراق ذروته خلال عامي 2024 و2025، حين تمكّنت إسرائيل – عبر عمليات معقّدة ومركّبة – من تصفية معظم قادة حزب الله البارزين، بما فيهم الأمين العام حسن نصر الله نفسه، في ضربة استثنائية هزّت بنية الحزب وأثارت تساؤلات عميقة حول حجم الاختراق الاستخباراتي داخل قياداته العليا، وسرّ فشل المنظومة الأمنية في حماية هرم القيادة، رغم أن العمليات الإسرائيلية لم تكن مباغتة.


ومن أبرز تجليات هذا الاختراق المتقدّم في عام 2024، كانت سلسلة عمليات "البيجر"، وهي حملة منسقة استخدمت فيها إسرائيل أجهزة تنبيه إلكترونية صغيرة – تشبه أجهزة النداء أو الصفارات – كانت قد زرعت أو وصلت بطرق خفية إلى عدد من قيادات وأعضاء حزب الله. وقد انفجرت مئات من هذه الأجهزة بشكل متزامن خلال لحظة محددة، في ما بدا وكأنه عملية تطهير استخباراتي دقيقة، استهدفت الصف الثاني والثالث في هيكل الحزب، إضافة إلى بعض القيادات الميدانية البارزة.


أما في إيران، فقد بلغت العمليات الإسرائيلية مستوى أعلى من الجرأة والتعقيد، تجاوز الاختراق المعلوماتي إلى تنفيذ عمليات في قلب مؤسسات الدولة. وأبرز مثال على ذلك اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة في نوفمبر 2020، في عملية نوعية جرت بواسطة رشاش متحكم به عن بُعد عبر الأقمار الصناعية دون أي تواجد بشري مباشر في الموقع، وهو ما كشف عن نقلة نوعية في العمل الاستخباراتي والتقني الإسرائيلي. 


كما سبق ذلك اغتيالات متتالية طالت علماء في البرنامج النووي، وهجمات سيبرانية مدمرة أبرزها Stuxnet عام 2010، الهجوم الذي عطّل آلاف أجهزة الطرد المركزي في منشأة نطنز


وتشير تقارير إلى أن الموساد نجح في تجنيد أكثر من 20 عميلا داخل إيران، بعضهم من داخل المؤسسات الأمنية أو النووية، شاركوا في التخريب، وتهريب وثائق حساسة، أو تقديم معلومات لإسرائيل ساعدت في استهداف منشآت ومراكز حيوية. وقد تم الكشف عن عمليات سرقة أرشيفات نووية كاملة، وعرضها لاحقًا على العالم، في مشهد يعكس حجم الاختراق والتفوق.


ولم تتوقف هذه العمليات عند حدود البنية التحتية أو العلمية، بل تجاوزتها في عامي 2024 و2025 إلى تصفية القادة الكبار في الحرس الثوري الإيراني، وعلى رأسهم اللواء حسين سلامي القائد العام للحرس الثوري، واللواء محمد باقري رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، إلى جانب عدد من كبار علماء الذرة الإيرانيين، في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة.


وقد نُفّذت هذه العمليات على نحو مباغت، وفي قلب طهران ومناطق أخرى محصنة، مما تم تفسيره على نطاق واسع بأنه تتويج لاختراق عميق في عمق المؤسسة العسكرية والأمنية الإيرانية، بل وربما انهيار جزء من بنيتها الأمنية أمام آلة الموساد شديدة الاحترافية.


في المقابل، تبدو الساحة اليمنية، وخصوصا في مناطق سيطرة الحوثيين، بيئة معقدة يصعب اختراقها. فإسرائيل لا تملك في اليمن قواعد لوجستية، كما لا توجد كيانات ذات صلة بإسرائيل يمكن أن تستخدم كنقطة انطلاق أو توفر غطاء لأي نشاط استخباراتي، كما حدث في دول أخرى.


أما البنية الأمنية التي تعتمدها جماعة الحوثيين، فهي تتسم باللامركزية، والسرية الشديدة، وتعتمد على خلايا مستقلة، لا تتواصل فيما بينها إلا بوسائل بدائية يصعب التجسس عليها. فالقادة لا يتمركزون في مواقع ثابتة، ولا يستخدمون الهواتف الذكية، بل يتنقلون بين المناطق دون نمط يمكن تتبّعه، مما يجعل رصدهم أو اختراق شبكاتهم مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة


إضافة إلى ذلك، لم تُسجَّل حتى الآن أية عملية استخباراتية إسرائيلية ناجحة داخل العمق اليمني، لا من حيث الاختراق المعلوماتي ولا في استهداف القيادات، وهو ما يعزز من فرضية أن الساحة اليمنية تظل أكثر تحصينا واكتفاء ذاتيا أمنيا من غيرها، رغم تفاوت الإمكانات التقنية.


عدو تحت المجهر، ولكن بعيد عن الزناد


تضع إسرائيل حزب الله في مقدمة تهديداتها الاستراتيجية المباشرة، نظرا لقربه الجغرافي، وتنامي قدراته الصاروخية الدقيقة، وإمكانية فتحه لجبهة حقيقية في الشمال. في المقابل، يتم النظر إلى الحوثيين بوصفهم تهديدا غير مباشر، حيث تملك الجماعة قدرات بعيدة المدى، لكن بدقة محدودة، فضلا عن أن وجودهم في اليمن لا يشكل خطرا وجوديا على إسرائيل، مقارنة بحزب الله مثلا.


مع ذلك، فإن تصاعد العمليات الحوثية مؤخرا، واتساع نطاق استهدافهم للمصالح الإسرائيلية أو المتحالفة معها، أعاد تحريك الحسابات داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. فالحوثيين،، رغم تعقيدهم وبعدهم الجغرافي، باتوا يحجزون لنفسهم مكانا في الرادار الاستخباراتي الإسرائيلي. وهذا ما يفسّر التوجه نحو توسيع النشاط السري في الساحة اليمنية، وبناء "بنك أهداف" أكثر دقة واستنادا لمعلومات محلية.


ورغم ذلك، لا تزال إسرائيل تتعامل مع اليمن كساحة محفوفة بالتحديات، إذ تفتقر هناك إلى قواعد استخباراتية راسخة أو شركاء محليين موثوقين، وتحتاج أي عملية عسكرية أو أمنية إلى ترتيبات إقليمية معقّدة. وهذا ما يجعل من اليمن ميدانا غير مفضل للمغامرات المباشرة، على الأقل في المدى القريب، مع بقاء العمل الاستخباراتي كأداة رئيسية لرصد وتقييم التهديد.


هل تبدأ إسرائيل باختراق اليمن استخباراتيًا؟


حتى اليوم، لم يتم تسجيل أية عملية استخباراتية إسرائيلية ناجحة داخل العمق اليمني، كما لم يستهدف أي من كبار قادة جماعة الحوثي في هجمات نوعية، رغم تصاعد التوترات. هذا الإخفاق لا يرتبط بالضرورة بعجز استخباراتي، بل بعدم وجود قرار استراتيجي سابق بالتحرك في الساحة اليمنية، التي كانت – حتى وقت قريب – بعيدة عن نطاق التهديد المباشر للأمن القومي الإسرائيلي.


لكن المشهد تغيّر، ومع اتساع نطاق الهجمات الحوثية على الملاحة الدولية، وتعاظم دور الجماعة في ما يسمى "محور المقاومة" الإقليمي بقيادة إيران، بدأت إسرائيل تنظر إلى اليمن كجبهة استراتيجية ناشئة تستدعي بناء حضور استخباراتي طويل المدى. خيار كهذا – وإن كان مطروحا بقوة – إلا أن تنفيذه لا يخلو من التعقيدات البنيوية والبيئية.


فأولى العقبات تتجسد في الطبيعة القَبَلية المغلقة للمجتمع اليمني، حيث تقوم البُنى الاجتماعية على الولاءات العائلية والتاريخية، ما يجعل اختراقها من الخارج مهمة صعبة دون وسطاء محليين. كما أن الحوثيين يسيطرون على مناطقهم بنظام أمني صارم، يتّسم بـ اللامركزية والسرية الفائقة؛ إذ لا يتركز القادة في مواقع ثابتة، ولا يستخدمون وسائل اتصال ذكية يمكن تتبّعها ـ كما أسلفنا ـ بل يعتمدون على طرق تقليدية بدائية يصعب اختراقها.


العقوبات القاسية التي تطبّقها الجماعة بحق من يشتبه بتعاونه مع العدو – والتي قد تصل إلى الإعدام العلني – تُعدّ بدورها عنصر ردع إضافي لأي محاولة تجنيد محلية، وتجعل حتى الاختراقات المحدودة محفوفة بكلفة بشرية وأمنية باهظة.


ومع ذلك، فإن ثغرات عدة قد تُتيح لإسرائيل موطئ قدم استخباراتي في المستقبل. فالوضع الاقتصادي المتدهور، وانتشار الفقر والبطالة في مناطق سيطرة الحوثيين، قد يغري بعض الأفراد بالتعاون تحت ضغط الحاجة أو مقابل المال. كما أن وجود خصوم محليين للحوثيين – من قبائل، وقوى سياسية، أو جماعات مذهبية مناوئة – قد يشكل أرضية خصبة لبناء أذرع تجسسية عبر تحالفات تكتيكية غير مباشرة.


أضف إلى ذلك أن الحوثيين، رغم صرامتهم، لا يملكون بنية أمنية عابرة للحدود كتلك التي يمتلكها حزب الله أو الحرس الثوري، ما يعني أن مسرح عملياتهم الاستخباراتية يظل محدودا داخل اليمن، وقد لا يشكل تهديدا مضادا فعالا للأنشطة الإسرائيلية.


في المحصلة، فإن تحرك إسرائيل لبناء شبكة استخباراتية في اليمن بات مسألة وقت، مدفوعة بتغيّرات جيوسياسية متسارعة. غير أن نجاح هذا المشروع سيبقى مرهونا بمدى قدرة إسرائيل على تجاوز الحواجز القبلية، واختراق النظام الأمني الحوثي شديد الانغلاق، مع إدراك أن أي اختراق حقيقي قد يحتاج إلى سنوات من التموضع والعمل السري قبل أن يترجم ميدانيا إلى نتائج ملموسة.


قد تبدو صنعاء أبعد من أن تطالها عمليات الموساد بشكل فاعل اليوم، لكنها ليست بمنأى عن أعين إسرائيل غدا. فكما بدأ الاختراق الإسرائيلي في طهران بهامش ضيق، ثم تحوّل مع الوقت إلى زلزال هزّ قلب المؤسسات الأمنية والعسكرية، فإنّ الساحة اليمنية مرشّحة، ولو ببطء، لأن تسلك مسارا مشابها.


ففي عالم الاستخبارات، لا تبنى الإنجازات بضربات سريعة، بل تزرع على مدى سنوات من التخفي، والتجسس، والتجنيد الصامت. وما دامت جماعة الحوثيين تواصل تحوّلها من فاعل محلي إلى لاعب إقليمي يهدّد أمن البحر الأحمر، ويصطف صراحة ضمن محور معادٍ لإسرائيل، فإنّ بناء شبكة اختراق داخل عمقها لم يعد خيارا مؤجلا، بل أولوية تتصاعد.



إبراهيم علي
اسم مستعار لباحث غير مقيم في مركز سوث24. متخصص في شؤون الجماعات المسلّحة. أخفى هويته لأسباب شخصية.


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا