التحليلات

حل الدولتين: الطريق الوحيد نحو استقرار اليمن

الصورة: بي بي إس نيوز أور

آخر تحديث في: 17-07-2025 الساعة 8 مساءً بتوقيت عدن

"ليست الدعوة إلى حل الدولتين في اليمن دعوة إلى الانقسام، وإنما هي طرح واقعي يمكنه أن يعيد الأمل، ويحقق السلام في بلد ممزق، ويُرسي أسس الاستقرار في منطقة شديدة الاضطراب.."

مركز سوث24 | د. عبدالجليل شايف


 

إن إصدار عملة معدنية بقيمة خمسين ريالًا من قبل الحوثيين في شمال اليمن لم يكن مجرد إجراء اقتصادي، بل خطوة واضحة في مسار الانفصال المالي الكامل، وتكريس لحالة الدولة بحكم الأمر الواقع. إنه انتهاك جديد للمفهوم الهش للوحدة الوطنية، إذ يعزز الحوثيون سيطرتهم على المؤسسات الاقتصادية، ويوسّعون نطاق التشريعات المنفصلة الخاصة بهم، ويقوضون أي احتمال لتحقيق سلام موحد. فبدلًا من أن يكونوا شركاء في جهود المصالحة، يظهر الحوثيون كمعتدين يسعون لترسيخ كيان سياسي مستقل، بتداعيات إقليمية ودولية تتجاوز حدود اليمن.

 

لم يكتفِ الحوثيون برفض أي إمكانية لقيام دولة جنوبية مستقبلًا، بل أعلنوا صراحة عن طموحهم في حكم كامل اليمن، حيث يمثل رفضهم المطلق للفيدرالية أو أي صيغة لحل الدولتين تهديدًا مباشرًا لمسار السلام والاستقرار الإقليمي. إن طموحهم للهيمنة المطلقة، المرتبط بأيديولوجيا دينية متشددة تقارب ما تتبناه حركة طالبان في أفغانستان، لن يؤدي إلا إلى تغذية التطرف، ودفع اليمن أكثر نحو صراع طائفي.

 

كما تحذر الباحثة ندوى الدوسري، الزميلة المشاركة في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، قائلة: "الحوثيون ليسوا مجرد جماعة مسلحة أخرى، بل ميليشيا عقائدية ذات دوافع أيديولوجية ترى في التسوية هزيمة. هدفهم السيطرة المطلقة، لا السلام."

 

يترافق هذا الموقف المتشدد مع سلسلة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، أبرزها التجنيد االممنهج للأطفال في صفوف القتال. فقد عمد الحوثيون إلى تجنيد الآلاف من الأطفال، وغرس أفكار عقائدية متشددة فيهم، وإرسالهم إلى جبهات المعارك. 


وقد وثق تقرير صادر عن فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة عام 2022 تجنيد أكثر من 1,400 طفل خلال عام واحد فقط. كما أدانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" هذه الممارسات، مؤكدة أن الحوثيين حولوا المدارس إلى مراكز للتجنيد القسري، وسلبوا الأطفال طفولتهم وزجوا بهم في صراع لا يدركون أبعاده.

 

فضلا عن ذلك، استهدف الحوثيون العاملين في المجال الإغاثي من منظمات دولية وأممية. ففي عامي 2023 و2024، احتجزوا عددًا من موظفي الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية بتهم تجسس غير مثبتة، الأمر الذي أثار موجة من الاستنكار الدولي. وقد طالب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بالإفراج "الفوري وغير المشروط" عنهم، محذرًا من أن هذه الاعتقالات تهدد جهود الإغاثة الحيوية في بلد يعتمد نحو 70% من سكانه على المساعدات الإنسانية. كما وصف المبعوث الأممي السابق إلى اليمن، مارتن غريفيث، هذه الممارسات بأنها "انتهاك صارخ للقانون الدولي وتهديد مباشر للمبادئ الإنسانية."

 

كل هذه الانتهاكات ترسخ حقيقة أن الحوثيين لا يمكن اعتبارهم شركاء موثوقين في أي تسوية سلمية. فمشروعهم التوسّعي، ورفضهم للتعددية، وانتهاكاتهم المنهجية، تتعارض جميعًا مع فكرة دولة يمنية موحّدة، ديمقراطية، وشاملة.


إن هذا الواقع القاتم يفرض على المجتمع الدولي مواجهة حقيقة لطالما تم تجاهلها: أن فكرة اليمن الموحد تحت سلطة مركزية لم تعد هدفًا واقعيًا. ومع ذلك، لا تزال الحكومة البريطانية تتعامل مع الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا باعتبارها الجهة الوحيدة التي يمكن مخاطبتها سياسيًا.


إن التعلّق بأمل الوحدة أشبه بما يُسمى في الأدبيات السياسية بـ "السراب الصحراوي" أو ظاهرة فاتا مورجانا. فطريق السلام الحقيقي يكمن في الاعتراف بالوقائع الميدانية، وعلى رأسها وجود حركة جنوبية منظمة يقودها المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يسيطر على مناطق واسعة ويحظى بتأييد شعبي ملموس. وقد أثبت هذا المجلس كفاءة واضحة في المجالات الإدارية والأمنية، كما أعرب باستمرار عن استعداده للتعاون الدولي من أجل بناء دولة جنوبية قابلة للحياة. ورغم هذه الجاهزية، يواجه المجلس تحديات جسيمة ناجمة عن تعذر تصدير النفط نتيجة لاستهداف الحوثيين لناقلات الخام المتجهة من الموانئ الجنوبية.


في مايو الماضي، أعلنت الحكومة اليمنية عن خسائر اقتصادية تقدر بـ7.5 مليار دولار نتيجة توقف صادرات النفط والغاز منذ أكتوبر 2022، عقب استهداف الحوثيين للمنشآت الحيوية، وهو ما أثّر على نحو 90% من الصادرات، وأدّى إلى تراجع إيرادات الميزانية العامة بنسبة بلغت 80%.


وقد حمّل مندوب اليمن الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير عبد الله السعدي، الحوثيين مسؤولية تفاقم الأزمة الإنسانية وانهيار العملة الوطنية، ما أدى إلى تعطّل دفع الرواتب، وتعطيل تمويل الخدمات الأساسية.

 

برز عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، كواحد من أبرز الأصوات المدافعة عن استقلال الجنوب على المستوى الدولي. ففي مقابلة له نُشرت بتاريخ 23 يونيو 2023 في صحيفة "الجارديان"، شدد الزبيدي على "الرغبة العميقة والمترسخة لدى شعب الجنوب في استعادة سيادته"، داعيًا المجتمع الدولي إلى الاعتراف بالحقائق الميدانية غير القابلة للعودة. وأعرب عن أن عقودًا من التهميش والإقصاء السياسي دفعت الجنوبيين إلى اعتبار الاستقلال الطريق الوحيد نحو تحقيق السلام والتنمية. وأكد الزبيدي أن الجنوب لا يسعى إلى الانفصال بحد ذاته، بل يتطلع إلى تأسيس دولة مستقرة وديمقراطية ومزدهرة اقتصاديًا، تكون شريكًا حقيقيًا في الأمن الإقليمي والدولي.


وفي دعم لهذا الطرح، قدّم ناصر الخبجي، القيادي البارز في المجلس الانتقالي، رؤية عملية وواضحة لحل الدولتين خلال مناقشات أجراها مع مؤسسة "فريدريش إيبرت" الألمانية المعنية بنشر قيم ومبادئ الديمقراطية الاجتماعية. وقد أكد الخبجي على أهمية التنمية الاقتصادية وتعزيز القدرات المؤسسية في الجنوب كركيزة أساسية لأي سلام مستدام. وأوضح أنه بدون تمكين المؤسسات الجنوبية وخلق فرص اقتصادية حقيقية، فإن أي حل سياسي سيظل معرضًا للفشل. وتوقّع الخبجي أن بوسع الدولة الجنوبية، من خلال استغلال مواردها الطبيعية، وموانئها الاستراتيجية، وطبيعة سكانها المبادِرة، أن تصبح مركزًا للتنمية والاستقرار في المنطقة، وتشكل توازنًا مقابل الفوضى التي يشهدها الشمال.


 ترتكز مبررات الحكم الذاتي في الجنوب ومن ثم استقلاله على أبحاث موثقة، من أبرزها ما قدمه عبد الجليل شايف، ممثل المجلس الانتقالي الجنوبي في جنيف، ومؤلف كتاب جنوب اليمن: بوابة إلى العالم. يبرز بحثه التفصيلي الجدوى السياسية والاقتصادية لدولة جنوبية مستقلة، حيث كتب: "بإمكان الدولة اليمنية الجنوبية أن تقدم بديلا حقيقيا عن البنى الفاسدة والفاشلة التي طبعت الماضي. يمكنها أن تؤسس حكومة كفؤة وشفافة تركز على الاستقرار الاقتصادي والتنمية." وأضاف شايف أن مدينة عدن، بدعم دولي، قادرة على أن تتحول إلى مركز تجاري إقليمي يضاهي الإمارات، من خلال تحديث بنيتها التحتية في الموانئ واستعادة شراكاتها الدولية.


وخلال إحاطة سياسية نظمت مؤخرا في البرلمان البريطاني برعاية النائبة ابتسام محمد، عضوة لجنة الشؤون الخارجية، أعربت الصحفية كارين دبروفسكا عن اندهاشها من أن المجلس الانتقالي الجنوبي لم يعلن الاستقلال بشكل مباشر لدفع المجتمع الدولي إلى الاعتراف بالواقع الجديد. وفي الندوة التي حملت عنوان فهم أزمة اليمن: التحديات ومسارات السلام، أكدت دبروفسكا أن الحل الوحيد للمشكلات اليمنية المستعصية يتمثل في إعلان أحادي الجانب للاستقلال.


يرى العديد من المحللين أن رفض المجتمع الدولي الاعتراف بتطلعات الجنوب يعد عقبة محورية أمام إنهاء الصراع المدمر الذي بدأ عام 2014، حين سقطت العاصمة صنعاء، التي كانت تعاني أصلا من آثار اضطرابات الربيع العربي التي اندلعت في عام 2011، في قبضة الحوثيين.


ويبرز مايكل روبن، الباحث البارز في معهد "أمريكان إنتربرايز"، الأهمية الاستراتيجية للاعتراف بطموحات الجنوب المشروعة، إذ يقول: "بالنظر إلى التاريخ الطويل الذي تقبلت فيه الولايات المتحدة تفكك الاتحادات غير المستقرة، فإن رفضها الحالي للاعتراف بجنوب اليمن يعد أمرا شاذا." ويضيف روبن أن دولة جنوبية مستقلة يمكنها أن تلعب دورا فعالا في ترسيخ الاستقرار، من خلال تأمين الممرات البحرية الحيوية مثل باب المندب، ومواجهة التوسع الحوثي والنفوذ الإيراني، والانخراط في تحالفات استراتيجية مع دول الخليج والغرب.


لا يتعين على المجتمع الدولي أن يمنح الاعتراف الدبلوماسي الكامل لدولة الجنوب كي تصبح فعالة. فهناك نماذج مماثلة تثبت أن الحكم الذاتي والتنمية المؤسسية يمكن أن يتحققا دون اعتراف دولي شامل. فمثلا، تحكم أرض الصومال (صوماليلاند) نفسها بشكل شبه كامل منذ عام 1991، ولديها حكومة مستقلة، وعملة خاصة، ونظام انتخابي، ومنظومة قانونية خاصة بها، رغم أنها رسميا ما تزال جزءا من جمهورية الصومال. وبالمثل، تدير حكومة إقليم كردستان قواتها الأمنية وعلاقاتها الخارجية ضمن إطار اتحادي داخل العراق.


تقدم هذه النماذج مسارًا عمليًا ومجربًا لليمن: السيادة المرحلية، حيث تبدأ بمرحلة الحكم الذاتي وبناء المؤسسات، يليها الاعتراف الدولي التدريجي. ويمكن للجنوب خلال هذه المرحلة جذب الاستثمارات وتطوير القطاعات الحيوية، مثل السياحة والصيد البحري، بما يمهد الطريق لدولة مستقرة وقادرة على الاندماج في النظام الدولي. كما يمنح هذا النهج المجتمع الدولي فرصة للتكيف مع واقع دولة جنوبية مستقلة جديدة.


وعلى النقيض من ذلك، فإن رؤية الحوثيين تنذر بإغراق اليمن والمنطقة في دوامة أعمق من النزاع والفوضى. رفضهم التام لقيام دولة جنوبية، وسعيهم التوسعي، وانتهاكاتهم الممنهجة، بما في ذلك تجنيد الأطفال واحتجاز العاملين الإنسانيين، بالإضافة إلى الهجمات على إسرائيل والملاحة في البحر الأحمر، تفاقم حالة عدم الاستقرار. وكما أشارت المحللة الإقليمية، سارة المجيد، فإن "النهج الصفري للحوثيين يُهدد بإشعال صراعات طائفية أوسع، ويزعزع الاستقرار في منطقة حيوية للتجارة والأمن العالمي."


لا يمكن المبالغة في أهمية المرحلة الراهنة. فمستقبل اليمن يتوقف على اعتراف دولي واضح بواقع الدولتين القائم على الأرض. إن الاستمرار في تجاهل هذا الواقع لن يؤدي إلا إلى تعميق المعاناة، وإطالة أمد الحرب، وخلق بيئة خصبة للتطرف، تُهدد اليمن والمنطقة والعالم.


إن السلام المستدام في اليمن لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال احترام تطلعات الجنوب، وتمكين مؤسساته، والتوصل إلى تسوية سياسية تقوم على الاعتراف المتبادل. ويتعيّن على المجتمع الدولي أن يتخلى عن السياسات البالية، ويتبنى رؤية جديدة تُفضي إلى قيام دولة جنوبية فعالة تكون شريكا حقيقيا في السلام والتنمية والأمن الإقليمي.


د. عبد الجليل شايف
كاتب ورئيس مجلس إدارة جمعية أصدقاء اليمن الجنوبي
 
هذا التحليل تم ترجمته عن المادة الإنجليزية الأصلية المنشورة على صفحة مركز سوث24 بالإنجليزية بتاريخ 15 يوليو 2025.

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا