التحليلات

من «الجرعة» إلى «فلسطين»: كيف غطّى الحوثيون مشروعهم في المناهج التعليمية؟

تصميم: مركز سوث24

آخر تحديث في: 07-07-2025 الساعة 8 مساءً بتوقيت عدن

"مثّلت حرب غزة الأخيرة نقطة تحول إضافية في مسار الحوثيين نحو حوثنة التعليم، حيث تعاملت الجماعة مع الحدث كفرصة ذهبية لتعزيز خطابها العقائدي.."


مركز سوث24 | إبراهيم علي


منذ أن سيطرت جماعة الحوثيين على العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات اليمنية في عام 2014، برز التعليم، وبالأخص تغيير المناهج الدراسية، كواحد من أبرز الأدوات التي سعت الجماعة من خلالها إلى ترسيخ أفكارها وبسط نفوذها العقائدي على المجتمع. لكنَّ إدراك الجماعة لحساسية هذا الملف دفعها إلى التعامل معه بحذر شديد في البداية، على الرغم من إدراكها المبكر لأهميته كوسيلة لإعادة تشكيل وعي الأجيال القادمة.


لم يكن سهلًا على جماعة دينية ذات طابع طائفي أن تفرض رؤيتها على مجتمع متنوع، لا يتقاطع في معظم قيمه الدينية والاجتماعية مع أفكار الجماعة القادمة من سردية تاريخية مختلفة ومغلقة. حتى حين فرضت الجماعة حصارًا على صنعاء تمهيدًا للسيطرة عليها، لجأت إلى تغليف مشروعها بمبررات أخلاقية وشعبوية، فرفعت في البداية شعارات مناهضة لقرارات حكومة محمد سالم باسندوة الاقتصادية، وخصوصا ما يتعلق بـ "الجرعة السعرية"، في محاولة لخلق صورة المخلّص من معاناة المواطن اليومية.


لكن التعليم، والمناهج بشكل خاص، كان ملفا أكثر تعقيدًا. تغيير محتوى الكتب المدرسية لا يمر على المجتمع مرور الكرام، وخاصة في بلد سبق أن اختبر تحولات أيديولوجية قاسية خلال عقود سابقة. من هنا، جاء تعامل الحوثيين مع هذا الملف على مراحل، وبطريقة متدرجة تتخفى أحيانًا تحت لافتات وطنية ودينية عامة. فالتغيير لم يبدأ بإلغاء شامل أو استبدال مباشر، بل عن طريق إدخال تعديلات متفرقة، تبدو في ظاهرها بريئة، لكنها محمّلة برسائل سياسية وعقائدية تخدم مشروع الجماعة على المدى الطويل.


المرحلة الأولى: التمهيد الخفي (2014–2017)


في عام 2015، ومع بدء تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية ضد الحوثيين، وجدت الجماعة المبرر القوي للمضي قدمًا في مشروعها التربوي. أصبحت الحرب منصة دعائية مثالية، دفعت الجماعة لتصوير نفسها كـ "المناهض الوحيد للعدوان الخارجي"، وسوّقت لفكرة أن المناهج السابقة كانت "مخترقة" بفكر يهدد الهوية اليمنية على حد زعمها. هذا التأطير الدعائي مهد الطريق أمام الجماعة لتقديم التعديلات التعليمية بوصفها "حربًا فكرية مضادة"، لا مجرد تغييرات تعليمية.


واستخدم الحوثيون هذا المبرر لإعادة تشكيل كتب التاريخ والتربية الإسلامية والوطنية بشكل خاص، حيث حذفت بعض المفاهيم المتعلقة بالدولة الحديثة، وقُلّصت مساحة التعددية، مقابل التركيز على رموز الجماعة وشعاراتها. كما أُدرجت سرديات دينية وسياسية تُظهر الجماعة كامتداد "للإمامة الحقّة"، وتصوّر الحرب الجارية كـ "جهاد مقدس" ضد العدوان.


تبدو هذه التغييرات جزءًا من مشروع أيديولوجي أوسع، يهدف إلى خلق جيل مشبع بفكر الجماعة، وموالي لها سياسيًا ودينيًا. ومع ذلك، فإن استمرار الحرب، وفشل الحوثيين في السيطرة الكاملة على شمال اليمن، أو السيطرة على أي منطقة داخل جنوب اليمن، أعاق فرض هذه المناهج بشكل كامل في عموم البلاد.


وفي حين تواصل الجماعة الترويج لتلك التعديلات باعتبارها "إصلاحًا وطنيًا"، يرى مراقبون أن ما يجري هو محاولة لقولبة الوعي الجمعي لأطفال اليمن وفق رؤية طائفية ضيقة، قد تخلّف آثارا عميقة ومقلقة على المدى البعيد، وتزيد من تعقيد أي مسار وطني جامع في المستقبل.


المرحلة الثانية: التمكين والهيمنة (2018–2022)


في الفترة التي أعقبت انقلاب 2014، واجهت جماعة الحوثي تحديات متعددة في سعيها لإحداث تغييرات جذرية في المناهج الدراسية، أبرزها وجود حزب المؤتمر الشعبي العام شريكا في السلطة، بقيادة الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح. هذا التوازن النسبي في المشهد السياسي، إضافة إلى حساسية المجتمع تجاه أي مساس بالتعليم، فرض على الجماعة نوعا من التريث والحذر، خشية إثارة ردود فعل قد تعيق مشروعها في "حوثنة" التعليم.


وفي هذا السياق، عبر حزب المؤتمر الشعبي، حينما كان لا يزال حليفًا للجماعة، عن رفضه القاطع لأي تغييرات في المناهج دون توافق وطني شامل. ونقلت صحيفة "الميثاق" الأسبوعية، الناطقة باسم الحزب، عن مصدر في الدائرة التربوية لحزب المؤتمر حينها أن الحزب يرفض مطلقا أي محاولة لتعديل المناهج إلا بموافقة كافة القوى السياسية في الساحة الوطنية. وحذّر المصدر من أن اتخاذ وزارة التربية خطوات أحادية بهذا الخصوص قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة، من شأنها دفع حزب المؤتمر إلى اتخاذ موقف صارم ونهائي فيما يتعلق بمشاركته في حكومة الحوثيين. كما استغرب الحزب بشدة إجراء هذه التعديلات "في جنح الظلام" ومن دون الرجوع حتى إلى لجنة المناهج، التي تم تعليق عملها في ذلك الوقت، معتبرًا هذا الإجراء تجاوزًا للممارسات التوافقية المعهودة.


غير أن تحالف الضرورة بين الطرفين لم يدم طويلًا، إذ انفجرت الخلافات إلى صراع دموي في ديسمبر 2017، انتهى بمقتل صالح، وتفرد الحوثيين بالحكم في مناطق سيطرتهم. هذا الحدث المفصلي أتاح للجماعة مساحة أوسع للتحرك، دون رقيب سياسي داخلي، وهو ما تُرجم سريعًا إلى خطوات عملية لإعادة صياغة المناهج الدراسية بما يخدم أيديولوجيتها العقائدية.


في السنوات التالية، تسارعت وتيرة التعديلات على المناهج، وشهدت إدخال مضامين طائفية وتاريخية تعكس رواية الجماعة للصراع، وترسّخ مفاهيم الولاء المطلق لقيادتها. كما تم استبعاد رموز وطنية من الكتب المدرسية، وتقديم شخصيات دينية مرتبطة بالمذهب الزيدي كقدوات رئيسية للطلاب.


فبحلول العام الدراسي 2021/2022، كشفت وزارة التربية والتعليم في صنعاء عن مناهج دراسية جديدة ومعدلة شملت مواد التربية الإسلامية والقرآن الكريم والعلوم الاجتماعية للمرحلة الابتدائية. كما تم إدخال دروس تعزز الرواية العقائدية الخاصة بالجماعة، فيما تم حذف أو تعديل دروس تتعلق بـ الحقوق المدنية، دور المرأة، وتاريخ الشخصيات الوطنية المؤثرة. هذه التعديلات أثارت جدلاً واسعًا حول ما إذا كانت تهدف إلى إعادة تشكيل وعي الأجيال بما يخدم مشروع الجماعة العقائدي والسياسي.


ولم تقف التغييرات عند المدارس الابتدائية، بل امتدت لتشمل الكليات التقنية والمهنية والمجتمعية، حيث فرضت الجماعة رقابة صارمة على محتوى المحاضرات وآراء الأساتذة. وتُبرّر هذه التدخلات بأنها تهدف إلى "حماية الهوية"، إلا أن ممارسات الجماعة تعكس توجها ممنهجا لخلق جيل مؤدلج يحمل فكرا أحاديا، ما يُنذر بعواقب طويلة المدى على النسيج الثقافي والاجتماعي في اليمن.


- شملت التغييرات مناهج اللغة العربية، التربية الإسلامية، التربية المدنية، والتاريخ في المرحلة الابتدائية.

- تم استبدال الشخصيات الوطنية مثل محمد محمود الزبيري وعلي عبدالمغني بشخصيات من الأئمة الزيديين، مثل الإمام القاسم والمنصور ويحيى حميد الدين.

- تمجيد سيطرة الحوثيين على صنعاء عام 2014 واعتبارها "ثورة"، مع شيطنة التحالف العربي بوصفه "التحالف الأمريكي الصهيوني".

- حذف كل ما يتعلق بـثورة 26 سبتمبر 1962 وتأسيس الجمهورية، خصوصا في منهج الصف الثامن.

- إلغاء دروس حول الدولة، السلطات التنفيذية، الحكم الاستبدادي، والمجتمع المدني، واستبدالها بمواد عن "الهوية الوطنية" وفق تصوّر الجماعة.

- في الصف التاسع، أزيلت الدروس عن مشاركة المرأة والحياة المدنية.

- إلزام الطلاب بالمشاركة في الأنشطة الدينية والمناسبات الحوثية التي تمجّد الجماعة وتهاجم الحكومة المعترف بها دوليا.


المرحلة الثالثة: حرب غزة.. القفزة النوعية (2023–2024)


مثّلت حرب غزة الأخيرة نقطة تحول إضافية في مسار الحوثيين نحو "حوثنة" التعليم، حيث تعاملت الجماعة مع الحدث كفرصة ذهبية لتعزيز خطابها العقائدي وتبرير مزيد من التعديلات على المناهج الدراسية.


وعلى رغم أنَّ اندلاع الحرب جاء في منتصف العام الدراسي، سارعت الجماعة إلى إدراج مادة دراسية جديدة في الأسابيع الأخيرة، تحت عنوان "الإرشاد التربوي"، أُدرجت رسميًا ضمن المقررات التعليمية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، مستغلةً المشاعر الجياشة تجاه القضية الفلسطينية لتمرير مضامينها.


المادة الجديدة لا تقتصر على التعاطف مع القضية الفلسطينية كما قد يُفترض، بل تتضمن محتوى مشبعا بأفكار طائفية وأيديولوجية ترتبط بمشروع الجماعة وهويتها الدينية. فقد تم تصميمها لتُدرّس أسبوعيًا من الصف الرابع حتى نهاية المرحلة الثانوية، مستندة إلى ملازم مؤسس الجماعة حسين الحوثي وخطابات زعيمها عبد الملك الحوثي، وتُقدَّم بإشراف مباشر من ناشطين دينيين موالين للحوثيين، بما يجعلها أقرب إلى دروس تعبئة فكرية منها إلى مادة تعليمية تقليدية.


ورغم أن العنوان الظاهري للمادة هو "نصرة فلسطين"، إلا أن مضمونها العملي يركّز على تمجيد القيادة الحوثية، وتكريس صورة دينية مقدسة لمؤسس الجماعة وزعيمها الحالي، حيث يُصوَّران كجزء من "محور المقاومة" و"حماة الأمة"، في تمازج خطير بين القضايا القومية الكبرى والمشاريع الطائفية الضيقة. هذا التوظيف السياسي للقضية الفلسطينية لم يقتصر على خطاب الإعلام والمهرجانات، بل تسلّل فعليًا إلى الصفوف الدراسية في شكل دروس منظمة.


وإذا كانت الجماعة قد حرصت على أن لا يمر العام الماضي دون تعديلات، فمن المرجّح أن يشهد العام الدراسي الحالي مزيدًا من التعديلات الجوهرية على المناهج، في ظل تصاعد الخطاب التعبوي للجماعة، ومحاولتها رسم ارتباط دائم بين قيادتها والصراعات الإقليمية، وعلى رأسها الصراع مع إسرائيل، خصوصا في ظل تصاعد دورها في هذه الحرب.


هذا التوجه التعليمي يثير مخاوف واسعة بين خبراء التربية، إذ يُخشى أن يتحول التعليم من وسيلة لبناء وعي مدني ووطني جامع إلى أداة لصناعة جيل جديد مؤدلج، يرى في الولاء للزعيم الديني معيارا للهوية والانتماء، وفي الحرب وسيلة للتعبير عن الذات.


توصيات ختامية


1ـ التوعية المجتمعية: ضرورة تعزيز الوعي بين الأسر اليمنية بمخاطر المناهج المعدلة، وتشجيع المبادرات المحلية لرصد التغييرات الأيديولوجية فيها. ودعم منصات إعلامية ومجتمعية تكشف تدرج "الحوثنة" في التعليم وتنشر بدائل معرفية متوازنة.

2ـ الضغط المحلي والدولي: مطالبة المجتمع الدولي والأمم المتحدة بالضغط على جماعة الحوثي لوقف التغييرات الطائفية في المناهج، وربط أي دعم مالي أو سياسي بضمان حيادية التعليم.

3. تفعيل دور المنظمات الحقوقية المحلية والدولية لتوثيق انتهاكات الجماعة في مجال التعليم وإبرازها في المحافل الدولية.

4. دعم المدارس والمراكز التعليمية في مناطق سيطرة الحكومة اليمنية، للحفاظ على مناهج بعيدة عن التوجهات الطائفية.

5. إشراك النخب التربوية: تشجيع التربويين والمثقفين اليمنيين على إنتاج محتوى تعليمي بديل غير مسيس، ويقاوم محاولات الأدلجة المذهبية.

6.إنشاء لجان وطنية مستقلة للإشراف على المناهج في مرحلة ما بعد الصراع، لضمان توافقها مع مبادئ العدالة والسلام.

7ـ حماية التعليم من التوظيف السياسي: الدعوة إلى فصل التعليم عن الصراعات الأيديولوجية، واعتباره حقًا أساسياً للأطفال بعيدًا عن الاستغلال السياسي.


إبراهيم علي
اسم مستعار لباحث غير مقيم في مركز سوث24. متخصص في شؤون الجماعات المسلّحة. أخفى هويته لأسباب شخصية.


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا