مركز سوث24 بواسطة الذكاء الاصطناعي
آخر تحديث في: 05-07-2025 الساعة 8 مساءً بتوقيت عدن
|
"ما بين جلسات صلح تُعقد في منازل متواضعة، ومرافقة قانونية لامرأة تطالب بحضانة أطفالها، تقف المحاميات الشعبيات على خط التماس مع أكثر القضايا حساسية داخل المجتمع الجنوبي.."
مركز سوث24 | ريم الفضلي
في أحياء مديرية الشحر بمحافظة حضرموت، تمضي فاطمة قبول وقتها متنقلة من منزل إلى آخر، حاملة على كتفيها قضايا لا يستهين بها القانون ولا تحتملها المحاكم. منذ سنوات طويلة، لم تتوقف عن أداء دورها كمساعدة قانونية ووسيطة مجتمعية، تتدخل لحل النزاعات الأسرية، وتواسي نساءً أنهكتهن العزلة، وتبحث عن العدالة في زوايا صعبة.
تُعد فاطمة واحدة من أقدم المحاميات الشعبيات في جنوب اليمن، حيث انخرطت منذ مطلع الألفينات في تقديم الدعم القانوني والنفسي لنساء وأسر تفتقر إلى الحد الأدنى من الحماية المؤسسية. ومع توالي السنوات، لم يتحوّل عملها إلى وظيفة، بل ظل التزامًا طوعيًا يوميًا، كما تصفه، قائمًا على الشعور بالواجب تجاه مجتمعها.
تقول فاطمة لمركز سوث24: "نسعى دومًا إلى الحل الودي قبل أن تتفاقم المشكلة. نشرح للناس أهمية التسوية المبكرة لتفادي تعقيدات أكبر."
هذه الفلسفة، التي تعكس عمق الفهم المحلي لطبيعة النزاعات، تُمثل أحد أسرار نجاح هذه المبادرة، التي بدأت ببساطة، لكنها نمت لتصبح شبكة مجتمعية نسوية تخوض معركة صامتة من أجل العدالة.
مبادرة مجتمعية مستمرة
نشأت فكرة "المحاميات الشعبيات" بين عامي 2000 و2002، كجزء من مشروع الحماية القانونية للنساء الذي نفذه اتحاد نساء اليمن بدعم من أوكسفام في مدينتي المكلا والشحر. الفكرة كانت بسيطة لكنها ثورية في مضمونها: تدريب نساء قياديات من المجتمع المحلي على قانون الأحوال الشخصية وآليات حل النزاعات، ومن ثم تمكينهن من لعب أدوار دفاعية ومجتمعية لحماية النساء من العنف والانتهاكات.
تلعب المحاميات الشعبيات دورًا مهمًا في الدفاع عن حقوق المرأة في قضايا الطلاق والنفقة والحضانة، والمساعدة في حلها وديًا
ما إن انتهى المشروع، حتى كان من الواضح أن التجربة لا يمكن أن تتوقف. وهكذا، تحولت المبادرة من نشاط مدعوم مؤسسيًا إلى جهد مجتمعي طوعي مستدام. لاحقًا، نفذ اتحاد نساء اليمن برامج مماثلة على مدى السنوات التالية. كما نفذت برامج أخرى في محافظة لحج كامتداد للفكرة.
بحسب علياء الحامدي، رئيسة الدائرة القانونية في اتحاد نساء اليمن بحضرموت: "تم اختيار النساء في هذه البرامج بناءً على معايير محددة، أهمها القبول الاجتماعي، النزاهة، الأمانة، مستوى تعليمي يسمح بالتدريب، والقدرة على الحفاظ على سرية قضايا الناس. لم يُشترط أن يكنّ عضوات في الاتحاد، بل فُتح المجال لأي امرأة فاعلة في المجتمع".
أحد عوامل النجاح المبكرة للمبادرة كان الطابع الاجتماعي المتماسك في المناطق المستهدفة، حيث ساعد تقارب النسيج المجتمعي على تقبّل فكرة أن تتدخل امرأة من الحي ذاته لحل النزاعات، بل واحتضان هذه التجربة كمصدر للثقة والتوازن داخل الحي.
تفدم المحاميات الشعبيات النصائح والاستشارات القانونية للنساء في البيوت والأحياء والأرياف
النموذج المعتمد داخل المبادرة اعتمد على اختيار امرأة واحدة من كل حي سكني، لتكون على تماس مباشر مع محيطها الاجتماعي. هذا الاختيار الاستراتيجي لم يكن مجرد توزيع جغرافي، بل كان آلية فعالة لتقوية الثقة وتسهيل الوصول، خاصة في حالات النزاع الأسري والعنف المنزلي، التي تتطلب تدخلاً حساسًا وسريعًا قبل أن تُرفع للقضاء.
وأوضحت الحامدي لمركز سوث24: "كل فريق نسوي يعمل بإشراف محامية معتمدة، تتولى تقديم الاستشارات القانونية، والتدخل عند الحاجة لتصعيد القضايا إلى المحكمة".
هذا النموذج الثنائي – الذي يجمع بين "المساعدة القانونية الشعبية" و"الإشراف القانوني الرسمي" – سمح للمبادرة بالحفاظ على توازن بين الشرعية المجتمعية والمرجعية القانونية، وأعطاها مرونة للتحرك داخل المجتمع، وفي نفس الوقت قدرة على حماية الحقوق أمام السلطات المختصة.
ماذا تفعل المحاميات الشعبيات؟
ما بين جلسات صلح تُعقد في منازل متواضعة، ومرافقة قانونية لامرأة تطالب بحضانة أطفالها، تقف المحاميات الشعبيات على خط التماس مع أكثر القضايا حساسية داخل المجتمع الجنوبي. أدوارهن لا تقتصر على التوعية العامة، بل تشمل التدخل المباشر لحل النزاعات الأسرية، تقديم العون القانوني، والتنسيق مع الجهات القضائية عند الضرورة.
تشير علياء الحامدي إلى أن المساعدات القانونيات "يتدخلن بشكل استباقي في قضايا حساسة قبل تصعيدها إلى الأجهزة القضائية أو الأمنية، خاصة تلك المرتبطة بالعنف الأسري. وقد نجحن في احتواء الكثير من القضايا داخل المجتمع، بما يحفظ خصوصية الأفراد ويمنع التشهير".
هذه الخصوصية تمثل قيمة مركزية في عمل المحاميات الشعبيات، حيث تفضّل العديد من الأسر حلّ النزاعات دون الدخول في متاهات المحاكم، خاصة في ظل بطء الإجراءات وغياب الثقة العامة بمؤسسات الدولة، وخصوصًا في المناطق الريفية أو تلك التي تفتقر إلى محاكم قريبة.
العدالة الموازية
في محافظة لحج حيث أرست هذه التجربة الملهمة وجودها، تؤكد المحامية الشعبية حنين محمد أن معظم القضايا التي تتابعها ترتبط بحقوق النساء، مثل النفقة، العنف من الزوج، قضايا الحضانة بعد الطلاق، والمطالبات بالوراثة.
ولفتت لمركز سوث24 إلى أن "المحاكم في أغلب الأحيان تميل لصالح من يمتلك النفوذ أو المال، مما يجعل النساء – خاصة في الحالات الضعيفة اقتصاديًا – يعانين كثيرًا في سبيل الحصول على أبسط حقوقهن".
ما تقوله حنين يعكس معاناة قانونية مضاعفة، حيث لا تملك النساء في هذه البيئات فقط المعرفة بالقانون، بل لا يمتلكن أيضًا الأدوات للمطالبة به.
وبشأن هذا، تحدث مركز سوث24 مع نصرة حامد، رئيس جمعية المرأة الاجتماعية التنموية الخيرية بلحج، التي لفتت إلى أن: "معظم النساء في لحج لا يمتلكن معرفة كافية بالقوانين، ولا يعلمن ما هي حقوقهن، سواء فيما يتعلق بالميراث أو التعليم أو اختيار شريك الحياة".
المحاميات الشعبيات لا ينتظرن وقوع الأزمات فحسب، بل يعملن أيضًا على تقليلها من خلال التوعية. تقمن بتنظيم جلسات توعية في المناسبات الاجتماعية، وتوزعن إرشادات حول أهمية الوثائق الثبوتية، كالهويات، عقود الزواج، وشهادات ميلاد الأطفال. هذه التفاصيل الصغيرة قد تُحدث فرقًا كبيرًا حين تتعرض المرأة لنزاع قانوني.
نساء يشاركن في دورة تدريبية حول الاستشارات القانونية وحقوق المرأة، ضمن مشروع مدعوم من الاتحاد الأوروبي ومنظمة البحث عن أرضية مشتركة. الحوطة، لحج، جنوب اليمن — 3 ديسمبر 2022. (القمندان نيوز)
تحدي تضارب الصلاحيات
رغم النجاحات الميدانية التي حققتها المحاميات الشعبيات، لم يكن طريقهن سهلاً. فقد ظل الاعتراف الرسمي بأدوارهن قضية مؤجلة، حتى بدأ دمج بعضهن تدريجيًا ضمن اللجان المجتمعية المرتبطة بالسلطات المحلية. هذا الدمج، وإن لم يكن مؤسسًا على قاعدة قانونية واضحة، إلا أنه مثل تحولًا مهمًا في توسيع مظلة الحماية المجتمعية لأدوارهن.
وتعد محافظة حضرموت الأكثر تقدمًا في هذا الجانب داخل جنوب اليمن.
وبشأن ذلك قالت مدينة عدلان، عضوة الهيئة العليا في مؤتمر حضرموت الجامع: "نحن في المؤتمر قدمنا الدعم لهؤلاء النسوة". مضيفة لمركز سوث24: " عدد من اللواتي تلقين تدريبًا قانونيًا قد تم دمجهن بالفعل ضمن هياكل اللجان المجتمعية التابعة لسلطات المديريات، ويقمن بأدوار فاعلة من خلال عضويتهن في هذه اللجان على مستوى الأحياء".
وقد منح هذا التطور المحاميات الشعبيات غطاءً رسميًا معنويًا، وساهم في تعزيز ثقة المجتمع بهن. ومع ذلك، لا يزال واقع العمل مليئًا بالتحديات، وعلى رأسها غياب التنسيق المؤسسي مع الجهات الرسمية، وافتقار النساء إلى بطاقات أو وثائق تخوّل لهن التدخل في النزاعات بصلاحية قانونية.
تقول فاطمة قبول، المحامية الشعبية من الشحر: "بات حصول المحاميات الشعبيات على تعريف رسمي من الجهات المختصة مثل بطاقة أو وثيقة تخوّلهن التدخل في القضايا المجتمعية ضرورة ملحة، وهو ما يسهل عملهن ويعزز من مصداقيتهن لدى المجتمع".
وتضيف: "أحيانًا نواجه صعوبات في كسب ثقة أطراف النزاع أو في التنسيق مع السلطات والمشايخ. وغياب هذا الدعم يؤثر على سرعة إنجاز القضايا وإيجاد حلول دائمة".
مصطلح اجتماعي أم صفة قانونية؟
رغم استخدام مصطلح "محاميات شعبيات" في المجتمع ووسائل الإعلام، إلا أن الواقع القانوني مختلف. تقول علياء الحامدي إن هذا المصطلح لا يعكس صفة قانونية رسمية.
وتوضح: "استخدام مصطلح 'محاميات شعبيات' لا يتوافق قانونيًا مع طبيعة الدور الذي تقوم به هؤلاء النساء، حيث لا يحملن صفة قانونية كمحاميات معتمدات. لذا، اعتمد الاتحاد مصطلح 'المساعدات القانونيات' للإشارة إليهن".
هذا التوضيح يعكس الازدواجية في التوصيف: من جهة، المجتمع يعترف بدورهن العملي بوصفهن محاميات يقدمن الدعم والاستشارة والتفاوض، ومن جهة أخرى، القانون لا يعترف لهن بأي صفة رسمية.
الدعم المطلوب
في عام 2023، أصدر صندوق الأمم المتحدة للسكان تقريرًا أشار فيه إلى أن 7.1 مليون امرأة في اليمن بحاجة إلى خدمات عاجلة لمنع العنف القائم على النوع الاجتماعي. هذا الرقم الصادم يُبرز حجم الفجوة بين ما هو قائم وما هو مطلوب لضمان الحماية والعدالة للنساء، ويفتح الباب أمام أهمية تطوير المبادرات النسوية المجتمعية، وعلى رأسها مبادرة المحاميات الشعبيات في جنوب اليمن.
ترى مدينة عدلان أن هذه الحاجة المتزايدة تتطلب استجابة عملية: "منظمات المجتمع المدني يمكنها دعم تدريب مزيد من النساء للقيام بدور المساعدات القانونيات، لسد الفجوات القانونية في المجتمعات المحلية".
وتؤكد أن الهيئة الحضرمية لإصلاح ذات البين تعمل حاليًا على تنفيذ برنامج تدريبي يستهدف عضوات اللجان المجتمعية في مجال حل النزاعات، في محاولة لتعزيز السلام المحلي وتمكين النساء من الوساطة القانونية والاجتماعية.
الحديث عن الدعم لا يقتصر على التدريب. هناك مطالب واضحة من المحاميات الشعبيات نفسهن، على رأسها:
• توفير مقرات رسمية معترف بها قانونيًا، كما تطالب بذلك فاطمة قبول، تكون تابعة للسلطة المحلية أو مؤسسات رسمية، وتُستخدم كمراكز للمصالحة القانونية.
• تقديم حوافز تشجيعية تضمن استمرارية العمل، إذ تعتمد المبادرة حاليًا على التطوع الفردي، مما يُهدد استمراريتها على المدى البعيد.
• إدماج المحاميات الشعبيات ضمن برامج عمل الجهات الرسمية والمنظمات، بحيث يتم تمكينهن من تمثيل النساء مجانًا في قضايا الأسرة، وتوفير تغطية قانونية تساعد على استدامة عملهن.
وفي توصياتها، تؤكد علياء الحامد أنه "من المهم تنظيم دورات تنشيطية وتبادل خبرات دوري للمساعدات القانونيات، بهدف رفع كفاءة الأداء وجودة الخدمة. كما نحتاج إلى دعم قانوني ومجتمعي مستدام، يضمن استمرارية التأثير".
وتؤكد حنين محمد على البعد المؤسسي، معتبرة أن المحاميات الشعبيات بحاجة إلى: "توفير الحماية والدعم المؤسسي، بالإضافة إلى تمكينهن من متابعة قضايا النساء بشكل رسمي وبمساندة قانونية واضحة".
أما نصرة حامد، فتشدد على أهمية تدخل الجهات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني: "يتطلب هذا التعاون تنظيم العمل وفقًا للأنظمة والقوانين، وتوفير أشكال الدعم المختلفة، سواء المادي أو المعنوي، بالإضافة إلى تنظيم برامج للتثقيف والتمكين القانوني".
وبالنظر لنجاح تجربة المحاميات الشعبيات في جنوب اليمن، يمكن القول إن هذه التجربة لا يُعد مجرد دعم لنشاط نسوي محلي، بل هو دعم لاستقرار مجتمعي أوسع، يحمي النساء من الانهيار، ويُبقي خيط الأمل مشدودًا نحو مستقبل أكثر عدلاً وشراكة.
كما أن تمكين المحاميات الشعبيات بالمعرفة القانونية والمهارات اللازمة يُعد ركيزة أساسية لرفع الوعي المجتمعي، ويسهم في تعزيز قدرتهن على إيصال الرسائل الحقوقية بفاعلية، وإقناع النساء وأصحاب القرار بأهمية التوصل إلى حلول عادلة للنزاعات، بما يتواءم مع الخصوصية الاجتماعية والثقافية للمجتمع في اليمن.
قبل 3 أشهر