الصورة:(AFP via Getty Images)
آخر تحديث في: 04-07-2025 الساعة 2 مساءً بتوقيت عدن
|
في خضم التحولات الإقليمية المتسارعة بعد حرب غزة، تروج إسرائيل لمبادرة "درع إبراهيم" كتصور أمني جديد لتعزيز تحالفاتها في الشرق الأوسط. التحليل التالي يستعرض دوافع المبادرة، وأبرز محاورها، والتحديات التي قد تعرقل ترجمتها على أرض الواقع.
عاد الحديث مجددًا في بعض الدوائر السياسية والأمنية الإسرائيلية حول فكرة تأسيس تحالف أمني جديد في منطقة الشرق الأوسط، وهو التحالف الذي أطلقت عليه مبادرة إسرائيلية تُعرف باسم "الائتلاف من أجل الأمن الإقليمي" مسمى "درع إبراهيم". وقد غلب الطابع الأمني والعسكري على هذا المقترح، إلى جانب السعي لربطه بـ "الاتفاقات الإبراهيمية" التي وقعتها إسرائيل مع بعض الدول العربية في عام 2020. ويبدو أن هذا المقترح جاء مدفوعًا بجملة من الاعتبارات والسياقات الرئيسية، خصوصًا ما يتعلق بالتداعيات الناجمة عن الحرب في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم، بالإضافة إلى تداعيات الحرب الإسرائيلية الإيرانية الأخيرة، وتزايد الحديث عن احتمالية توسّع الاتفاقات الإبراهيمية.
أولًا – ماهية وحيثيات المقترح الإسرائيلي
ظهرت المبادرة الإسرائيلية المعروفة بـ "الائتلاف من أجل الأمن الإقليمي" بعد نحو عام من عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها الفصائل الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023. وتضم هذه المبادرة مجموعة واسعة من الشخصيات العامة والخبراء وقادة الرأي في مجالات الأمن والدبلوماسية والأعمال والتكنولوجيا، الذين توحّدوا «بهدف ضمان أمن دولة إسرائيل في الشرق الأوسط من خلال خطة درع إبراهيم»، وفق ما أُعلن عنه في ذلك الوقت.
وعند تحليل محتوى هذه المبادرة، يتضح أن المقترح الإسرائيلي المسمى "درع إبراهيم" يرتكز على مجموعة من المحاور الرئيسية، وذلك على النحو التالي:
• حسم ملف الحرب في غزة على قاعدة إعادة جميع الأسرى الإسرائيليين، وإنهاء حكم حماس، من خلال تشكيل حكومة انتقالية تكنوقراطية في غزة، تحت إشراف إقليمي.
• إنهاء ملف الجبهة اللبنانية، أو ما يُعرف بالجنوب اللبناني، على قاعدة "صفر انتهاكات"، مع تعزيز انتشار الجيش اللبناني في تلك المنطقة.
• إنهاء تموضع سوريا كخاصرة رخوة للمحور الإيراني في المنطقة، من خلال تحفيز القوى الإقليمية على دعم الاستقرار في سوريا، وتحويلها إلى منطقة عازلة.
• تحفيز ودعم مسار توسيع الاتفاقات الإبراهيمية مع ما تُطلق عليه إسرائيل "الدول المعتدلة" في المنطقة.
• الاعتماد على سياسة "الضغوط القصوى" والعزلة ضد إيران، ومنعها من إنتاج الأسلحة النووية.
• إعلان إسرائيل عن مسار انفصال تدريجي، مسؤول وآمن عن الفلسطينيين خلال عقد من الزمن، كجزء من تسوية إقليمية شاملة.
ويُلاحظ، من خلال تحليل المعطيات السابقة، أن هذه المبادرة الإسرائيلية شبه الرسمية، على الرغم من طابعها الأمني الظاهر، قد ركزت بشكل كبير على البعد السياسي الإقليمي الشامل. ويمكن ربط ذلك بتصريحات نتنياهو المتكررة حول "تغيير وجه الشرق الأوسط"، والتي تتجلى بوضوح في الربط بين إنهاء حرب غزة ومتغيرات إقليمية أوسع، تتركز على توسيع الاتفاقات الإبراهيمية، وزيادة عزل إيران وأذرعها في المنطقة.
ثانيًا – العوامل المحفزة لطرح "درع إبراهيم"
لا يمكن فصل هذا الطرح، ممثلًا في المبادرة الإسرائيلية، عن مجموعة من المتغيرات والسياقات المهمة التي شهدتها المنطقة عقب عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، ولاحقًا الحرب الإسرائيلية متعددة الجبهات. ويمكن تناول أبرز هذه المعطيات على النحو التالي:
1- توافق أمريكي إسرائيلي بشأن التغيير الإقليمي:
أحد العوامل الرئيسية المحفّزة للمبادرات الإسرائيلية المتعلقة بإنشاء تكتلات أمنية وسياسية جديدة في المنطقة يتمثل في رؤية دونالد ترمب لمنطقة الشرق الأوسط، وهي رؤية تقوم على ضرورة توسيع مظلة "الاتفاقات الإبراهيمية"، باعتبارها مشروعًا شخصيًا لترمب، فضلًا عن مساهمتها المحتملة في تعزيز فرص حصوله على جائزة نوبل للسلام. وتتوافق هذه الرؤية مع المقاربة الإسرائيلية التي تسعى إلى تعزيز انخراط تل أبيب في شراكات إقليمية تقوم على أسس جديدة. كما أن هذا التوجّه يدعم استراتيجية "تقاسم الأعباء" في المنطقة، ويعزز من المكاسب الاقتصادية لإسرائيل، إلى جانب مساهمته في زيادة عزلة إيران إقليميًا.
2- تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة:
ترى إسرائيل والعديد من الدوائر النخبوية فيها أن السياقات والمتغيرات التي أعقبت الحرب الممتدة منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم تدفع باتجاه خلق تحالفات أمنية وسياسية جديدة في الشرق الأوسط، لا سيما في ظل تراجع النفوذ الإيراني. وقد ساهمت في ذلك الضربات المباشرة التي تلقتها إيران من كل من إسرائيل والولايات المتحدة، إلى جانب الإطاحة بنظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وإضعاف الأذرع الإيرانية في المنطقة، خصوصًا "حزب الله" في لبنان و"الحوثيين" في اليمن.
3- المتغيرات الأخيرة في سوريا ولبنان:
تمثّل أحد أبرز هذه المتغيرات في الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد، وإضعاف حزب الله اللبناني نتيجة الحرب التي خاضتها إسرائيل في لبنان. أما في الحالة السورية، فقد ترتب على الإطاحة بـ "الأسد" تشكيل سلطة جديدة بقيادة أحمد الشرع، الذي يتمتع بخلفية إسلاموية وطبيعة براغماتية. وقد تبنت هذه السلطة مواقف تصعيدية تجاه إيران، ومواقف مهادنة ومنفتحة تجاه إسرائيل، على خلفية عدة اعتبارات، من بينها إرث الصدام التاريخي مع إيران والخلفية الأيديولوجية، إضافة إلى الضغوط الأمريكية على الإدارة الجديدة لتحسين العلاقات مع إسرائيل. وقد تجلّى هذا التوجه في وجود مباحثات مباشرة بين إسرائيل والإدارة السورية الجديدة، وتنسيق يومي بين الجانبين، وفق تقارير عبرية، إلى جانب مؤشرات على احتمالية قرب تطبيع العلاقات بين سوريا وإسرائيل.
وفيما يتعلق بالحالة اللبنانية، يمكن القول إنه، وبعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل، انكسرت شوكة حزب الله نسبيًا على المستويين السياسي والعسكري، بفعل الخسائر الفادحة التي مُني بها، وعلى رأسها اغتيال جميع قيادات الصف الأول في الحزب، بما في ذلك الأمين العام السابق حسن نصر الله وخليفته هاشم صفي الدين. وقد انعكست مظاهر تراجع الحزب في عدة مؤشرات، أبرزها انتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، مقابل انسحاب المرشح المفضل للحزب، سليمان فرنجية. كما أسقطت الحكومة اللبنانية الجديدة، برئاسة نواف سلام، بند "المقاومة" من بيانها الوزاري، خلافًا لما كان سائدًا منذ عام 2000، وسعت إلى تكريس سيطرة الجيش اللبناني على الجنوب، واحتكار السلاح بيد الدولة. كذلك أُعلن عن مباحثات إسرائيلية لبنانية محتملة بشأن ترسيم الحدود البرية، وهي كلها سياقات مثلت فرصة كبيرة لإسرائيل للبناء عليها في إطار متغيرات إقليمية أشمل.
وبشكل عام، يمكن القول إن هناك مجموعة من المتغيرات الإضافية التي عززت سعي إسرائيل لتشكيل تحالف أمني وسياسي جديد في المنطقة، خاصة في ظل تطبيع علاقاتها فعليًا مع عدد من الدول العربية، ووجود ترتيبات محتملة مع دول أخرى. وهذا يعني أن هناك إمكانية لترجمة ذلك إلى تحالفات أمنية جديدة. كما أن الاستهداف الإيراني لقاعدة العديد في قطر شكّل عاملًا إضافيًا على خطورة التهديد الإيراني، الذي بات أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، فضلًا عن تزايد احتمالات إعلان إيران عن إنتاج أسلحة نووية على المديين المتوسط والبعيد.
ثالثًا – أبرز التحديات
رغم كل المعطيات والسياقات السابقة التي تبدو كعوامل محفزة لتشكيل تحالف أمني وسياسي جديد في الشرق الأوسط، في مرحلة "اليوم التالي" للحرب في غزة والتصعيد الإقليمي، إلا أن هناك مجموعة من التحديات الماثلة أمام هذا المسار:
- يشمل الطرح الإسرائيلي–الأمريكي المتعلق بإنشاء تحالف أمني شرق أوسطي بعض دول الخليج، بالإضافة إلى دول وازنة في المنطقة مثل مصر والأردن والعراق، إلا أن ذلك يتعارض مع واقع العلاقات المتوترة بين العديد من الأطراف العربية وإسرائيل، ولا سيما مصر والأردن، في ظل التصعيد الإسرائيلي المستمر، وخطط التهجير المتعلقة بالشعب الفلسطيني.
- يبدو أن مسار التحالفات في منطقة الشرق الأوسط، على المديين المتوسط والبعيد، سيكون مرتبطًا إلى حد كبير بالمآلات التي ستنتهي إليها الحرب في قطاع غزة، ووجود مسار جاد لتحقيق سلام عادل. وذلك انطلاقًا من قناعة تشكّلت لدى العديد من الأطراف الإقليمية والدولية، بأن نقطة الانطلاق لتحقيق الأمن الإقليمي تبدأ من حل جذري للقضية الفلسطينية. وبالتالي، فإن استمرار إسرائيل في سياساتها المتعنتة بهذا الملف قد يؤدي إلى موجات جديدة من التصعيد في المنطقة، إلى جانب زيادة حشد الرأي العام العربي ضد إسرائيل، مما يفرض ضغوطًا كبيرة على الأنظمة العربية تجاه أي مسارات للتقارب أو التنسيق معها.
- يرتبط أحد التحديات التي تواجه مقترح تشكيل تحالف أمني في المنطقة بطبيعة المقاربة الأمريكية، وهي مقاربة تتّسم بالتغيّر المستمر. إذ تتركّز أولويات واشنطن حاليًا في تأمين مصالحها التقليدية، خصوصًا ما يتعلق بإسرائيل، وحضورها في المنطقة، ومصادر الطاقة في الخليج، ومنع إيران من امتلاك سلاح نووي قد يهدد هذه المصالح، بالإضافة إلى استمرار دور الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب بمناطق مختلفة من الإقليم. وتُؤمَّن هذه المصالح من خلال التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، والاعتماد على الحلفاء. كما تجدر الإشارة إلى أنّ مهام حلف "الناتو" قد توسّعت لتشمل بعض مناطق الشرق الأوسط، وبالتالي، وضمن هذا السياق، ومع توازنات القوة الحالية وحالة الضعف التي أصابت إيران مؤخرًا، قد ترى واشنطن أنها ليست بحاجة واقعية إلى تحالف جديد.
- على الرغم من قناعة دول الخليج بخطورة التهديدات الإيرانية، واتفاقها على ضرورة تبنّي مقاربات متعددة للضغط على إيران واحتواء سياساتها في الإقليم، إلا أن الملاحظ هو أن كل دولة خليجية تتعامل مع إيران وفق مقاربة مستقلة، تنسجم مع طبيعة علاقاتها بطهران، ودرجة التهديد التي تمثلها لها.
- كذلك تشير التجربة التاريخية إلى أن فكرة التحالفات في منطقة الشرق الأوسط لم تُحقق نجاحًا يُذكر، بل إن العديد منها لم يُكتب له التشكّل أصلًا. ويتجلى ذلك بوضوح في نماذج مثل "حلف بغداد" عام 1955، ومقترح "درع الخليج" بعد عام 2011، و"الناتو الشرق أوسطي" في الحقبة الأولى لدونالد ترمب. ويُعزى فشل هذه المبادرات إلى مجموعة من العوامل البنيوية، أبرزها اختلاف المقاربات الخارجية للدول العربية، وتراجع فاعلية الجامعة العربية، والسياقات الداخلية الخاصة بكل دولة، إضافة إلى التكلفة العالية للانخراط في مثل هذه التحالفات.
إجمالًا، يمكن القول إن مقترح "درع إبراهيم" هو تصور أمني إسرائيلي جديد ذو طابع شبه رسمي، يندرج في إطار المساعي الإسرائيلية لتوسيع مظلة الاتفاقات الإبراهيمية، ويعكس محاولة لتوظيف تداعيات الحرب الممتدة منذ 7 أكتوبر 2023 في تشكيل واقع سياسي وأمني جديد في المنطقة. غير أن التجربة التاريخية، والعوامل البنيوية، وطبيعة مقاربات دول المنطقة تجاه التطورات الأخيرة، تمثل جميعها تحديات جوهرية قد تعيق تحقق هذا المقترح على أرض الواقع.
قبل 3 أشهر