حريق يشتعل في مستودعات النفط في شهران، شمال غرب طهران، في 15 يونيو 2025. © عطا كناره، وكالة فرانس برس (AFP)
17-06-2025 الساعة 2 مساءً بتوقيت عدن
|
"يبدو أن إسرائيل لم تنظر إلى هجماتها الأخيرة كعمل عسكري منعزل، بل كفرصة سانحة لتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى. أول هذه الأهداف هو تفعيل خطط تغيير وجه الشرق الأوسط.."
مركز سوث24 | محمد فوزي
شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال الأيام الأربعة الماضية تصعيدًا غير مسبوق، يفوق في مستوياته ما أعقب عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023. ففي 13 يونيو الجاري، نفذت إسرائيل سلسلة هجمات نوعية ضد أهداف داخل الأراضي الإيرانية، أسفرت عن مقتل شخصيات قيادية بارزة في الحرس الثوري والجيش الإيراني، إلى جانب عدد من العلماء النوويين، فضلاً عن وقوع ضحايا في صفوف المدنيين.
وفي رد فعل مباشر، أطلقت إيران عملية عسكرية اعتبرت الأعنف من نوعها حتى الآن، تحت مسمى "الوعد الصادق 3"، أسفرت – بحسب الرواية الإسرائيلية – عن سقوط ضحايا مدنيين وتدمير بعض المنشآت الاقتصادية والسكنية. وهكذا دخل التصعيد المتبادل مرحلة الضربات والضربات المضادة، ما ينذر بتداعيات أمنية خطيرة على المنطقة، ويزيد من احتمالات الانزلاق نحو مزيد من التوتر والاضطراب.
أولاً- حيثيات ودلالات الهجوم الإٍسرائيلي
جاءت العملية العسكرية الإسرائيلية في 13 يونيو كضربة استراتيجية مركزة، أفضت إلى اغتيال ما يقارب عشرين من كبار ضباط الحرس الثوري والقوات المسلحة الإيرانية، من بينهم قائد الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس هيئة أركان الجيش محمد باقري، ورئيس استخبارات الحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد كاظمي. كما طالت الضربات تسعة من علماء البرنامج النووي.
وامتدت الهجمات لتشمل منشآت نووية حساسة في نطنز (أصفهان)، وفوردو (قم)، وبارشين (شرق طهران)، وآراك (غرب وسط إيران)، بالإضافة إلى مراكز إنتاج الصواريخ الباليستية وقواعد إطلاقها، ومنشآت تصنيع الطائرات المسيّرة.
وتحمل هذه العملية جملة من الدلالات:
1- الانتقال إلى نمط المواجهات المستمرة: أحد الملاحظات الرئيسية في مسار التصعيد الحالي هو الانتقال من نموذج الضربات المحدودة أو الحرب بالوكالة إلى نمط المواجهة المباشرة والمفتوحة. فقد تجاوز الطرفان فكرة الضربات الخاطفة التي اتبعت في أبريل 2024 عقب قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، وفي أكتوبر 2024 عقب اغتيال إسماعيل هنية وحسن نصر الله. وتُظهر طبيعة الهجمات الحالية، والتصريحات الرسمية المتبادلة، أن المنطقة أمام حرب قد يطول أمدها، وفق ما أشار إليه عدد من التقارير المستندة إلى مصادر من داخل إسرائيل وإيران، والتي رجّحت استمرار القتال لأسابيع مع تفاوت في مستوى حدته.
2- اعتماد إسرائيلي على تكتيكات أمنية متنوعة: برز في الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران استخدامٌ واسع لتكتيكات أمنية متعددة، ساهمت في رفع مستوى فاعلية الضربات وتحقيق أهدافها العسكرية والاستراتيجية. وكان أبرز هذه التكتيكات الاعتماد على سلاح الجو الإسرائيلي في استهداف البنى التحتية الحيوية داخل إيران، بما في ذلك منشآت نووية ومنصات صاروخية ومراكز تصنيع للطائرات المسيّرة. وتشير المعطيات إلى أن إسرائيل نجحت، على الأرجح، في تدمير جزء كبير من منظومة الدفاع الجوي الإيرانية خلال المواجهات السابقة، ما سهّل تنفيذ الضربات الأخيرة بدقة عالية. كما يُلاحظ أن العملية استندت إلى جهد استخباراتي طويل الأمد، قد يكون امتد لسنوات، بفضل التنسيق بين جهاز الاستخبارات الخارجية "الموساد"، والاستخبارات العسكرية "أمان"، وبدعم لوجستي واستشاري من جانب الولايات المتحدة. وقد تجلى هذا التنسيق بوضوح في الضربة التي استهدفت اجتماعاً لقادة الحرس الثوري الإيراني، والتي مثلت ضربة نوعية على مستوى التوقيت والدقة والأثر العملياتي.
3- ربط إسرائيل الهجوم بالبرنامج النووي: حرصت إسرائيل على ربط هجماتها الأخيرة بشكل مباشر بالبرنامج النووي الإيراني، حيث أوضح بيان صادر عن الجيش الإسرائيلي أن قرار شن العملية جاء بعد توافر معلومات استخباراتية خلال الأشهر الماضية تُفيد بأن برنامج الأسلحة النووية الإيراني "كان يقترب من نقطة اللاعودة". ومنذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، مثّل تدمير هذا البرنامج هدفًا ثابتًا لحكوماته المتعاقبة، سواء عبر تنفيذ عمليات أمنية تخريبية أو اغتيال علماء نوويين إيرانيين. وتسعى إسرائيل من خلال هذا النهج إلى ضمان احتكار السلاح النووي في المنطقة، وهو هدف سعت لتحقيقه سابقاً عبر ضرب البرنامج النووي العراقي في 1981، والليبي في 2003، والسوري في 2007.
4- حضور العامل الأمريكي في التصعيد الإسرائيلي: شكّلت الولايات المتحدة عاملاً حاسماً في التصعيد الراهن، حيث اعتبر العديد من التقديرات أن الدعم الأمريكي مثّل دافعًا قويًا لإسرائيل في المضي قدمًا بعملياتها ضد إيران. ويتجلى الحضور الأمريكي من خلال ثلاثة مؤشرات رئيسية: أولاً، الدور الاستخباراتي والتنسيقي الرفيع المستوى الذي أقر به مسؤولون إسرائيليون؛ وثانياً، الموقف المتشدد من قبل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه إيران، والذي منح تل أبيب ما يشبه "الضوء الأخضر"؛ وثالثاً، تزامن الضربات مع تعثر المباحثات النووية بين واشنطن وطهران. وفي هذا السياق، تبرز فرضيتان؛ الأولى، أن إسرائيل سعت لإفشال التفاوض النووي وهو ما انعكس في إعلان طهران تعليق مشاركتها بالمفاوضات، والثانية أن تل أبيب وواشنطن تمارسان "ضغطاً أقصى" على طهران لانتزاع تنازلات جوهرية في أي صيغة تفاوضية مرتقبة.
5- سعي إسرائيل لتحقيق مجموعة من المكاسب الاستراتيجية: يبدو أن إسرائيل لم تنظر إلى هجماتها الأخيرة كعمل عسكري منعزل، بل كفرصة سانحة لتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى. أول هذه الأهداف هو تفعيل خطط "تغيير وجه الشرق الأوسط" التي يروج لها نتنياهو منذ سنوات، والتي بدأت من غزة وامتدت إلى سوريا ولبنان واليمن والعراق، وصولًا إلى إيران، بهدف تفكيك ما يُعرف بمحور المقاومة. ثانيًا، استغلت إسرائيل الهجوم لضرب رأس القيادة في إيران، بغرض إحداث اهتزاز داخلي قد يؤدي إلى إسقاط النظام، أو على الأقل تقويض شرعيته. وثالثًا، سعت تل أبيب لتحييد القدرات العسكرية الإيرانية، مستفيدة من نقاط الضعف البنيوية في الدفاعات الجوية الإيرانية، والتي كشفت عنها المواجهات الأخيرة.
6- رفع إسرائيل لسقف الأهداف الخاصة بها: يعكس تواتر الضربات الإسرائيلية منذ 13 يونيو الجاري، إلى جانب التصريحات الرسمية، تصاعدًا ملحوظًا في سقف الأهداف التي تضعها تل أبيب. فبينما بدأت الحملة باستهداف البرنامج النووي الإيراني، تشير المعطيات إلى تحوّل متسارع نحو هدف أشمل يتمثل في إسقاط النظام الإيراني نفسه. وقد عبّر عن هذا التوجه تصريح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في 16 يونيو، خلال مقابلة مع شبكة "ABC News" الأميركية، حين قال إن "اغتيال المرشد الإيراني علي خامنئي سينهي الصراع مع إيران"، في دلالة صريحة على أن الأهداف لم تعد محصورة بالبنية التحتية النووية فقط، بل امتدت إلى رأس الهرم السياسي في طهران.
ثانياً- تقييم الرد الإيراني على إسرائيل
وضعت الهجمات الإسرائيلية الأخيرة إيران في حرج شديد حيث باتت أمام أخطار وتهديدات وجودية تمس بوجود نظام الملالي نفسه، الأمر الذي دفع طهران إلى إطلاق مجموعة من العمليات العسكرية الواسعة التي أطلقت عليها "الوعد الصادق 3". ويُمكن تقييم المقاربة الإيرانية للتعامل مع التصعيد الإسرائيلي في ضوء السمات التالية:
1- الرد العملياتي السريع: جاء الرد الإيراني سريعاً على إسرائيل حيث بدأت إيران عملياتها التي أسمتها "الوعد الصادق 3" بعد نحو 20 ساعة على الهجوم الإسرائيلي، عبر إطلاق 100 طائرة مسيرة نحو إسرائيل في منتصف يوم الجمعة 13 يونيو، والتي تم اعتراضها. ثم أطلقت موجة من الصواريخ البالستية بلغت 100 صاروخ، في مساء يوم الجمعة، كان من بينها صواريخ فرط صوتية؛ قالت طهران أنها استهدفت مقار عسكرية وقواعد جوية ومراكز للصناعة العسكرية في إسرائيل بحسب بيان للحرس الثوري الإيراني. ووفقاً للبيانات الإسرائيلية، فقد وصل عدد القتلى الإسرائيليين نتيجة الهجمات إلى 22 شخصاً بالإضافة لمئات الإصابات، فضلاً عن تدمير مئات المنازل والبنى التحتية في العديد من المدن الإسرائيلية.
ونفذت إيران حتى مساء الإثنين 16 يونيو 12 هجوماً على إسرائيل، اعتمدت فيها بشكل رئيسي على موجات من الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية والفرط صوتية. ولكنّ عدد الصواريخ بدأ يقل مقارنة بالأيام الأولى، وعلى الرغم من تهديدات النظام الإيراني برد "مؤلم" و "قاسي" وغيرها من التهديدات التي أطلقها مسؤولون إيرانيون بينهم المرشد الإيراني علي خامنئي.
2- ضبابية حول حجم الخسائر الاستراتيجية الإيرانية: رغم الإعلانات الإسرائيلية المتكررة حول تدمير العديد من البنى التحتية والقدرات العسكرية الإيرانية، إلا أنّ هناك مؤشرات تشير إلى استمرار قدرات إيران في الرد على إسرائيل. لا تزال إيران تقصف إسرائيل رغم انخفاض عدد الصواريخ. وثانيها أنّ كافة المصادر والدوائر الدولية والإقليمية لم تشر حتى اللحظة إلى تلقي المنشآت النووية ضربة قوية، تخرجها من الخدمة. على الرغم من تقارير بتسرب إشعاعي داخلي وأضرار سطحية في منشأة نطنز.
3- تدرج إيراني في التصعيد ضد إسرائيل: أحدثت الحرب الجارية تحولات لافتة في العقيدة العسكرية الخاصة بإيران، حيث بدأت طهران في الانتقال من مستوى "الحروب غير المتكافئة" عبر الاعتماد على الوكلاء والعمليات الاستخباراتية، إلى مرحلة المواجهة المباشرة والحرب الأقرب إلى النمط التقليدي، والذي يتمحور حول المواجهات المباشرة مع إسرائيل اعتماداً على الأسلحة الثقيلة. وهنا يجب الإشارة إلى استثناء إيران قدراتها الجوية على اعتبار أنّ عماد سلاح الجو الإيراني من طائرات حربية من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتعد طائرتا F-14 الأمريكية، وMiG-29 الروسية أكثرها تطوراً، بما يحول دون قدرة سلاح الجو الإيراني على خوض معارك فاعلة، خصوصاً وأنّ هذه الأنواع من الطائرات لا يمكنها حتى الوصول إلى إسرائيل. لذلك لجأت إيران في الاعتماد على الطائرات المسيرة والصواريخ التي تملكها.
4- التلويح بورقة الأذرع الإقليمية: لم تلجأ إيران حتى اللحظة إلى ورقة استخدام أذرعها الإقليمية في ثنايا التصعيد الراهن، ما يتجسد في حالة ميليشيا الحوثي في اليمن، والتنظيمات الموالية لإيران في العراق، فضلاً عن حزب الله اللبناني، ويبدو أنّ مرجع ذلك حتى اللحظة هو مجموعة من العوامل، أولها السياق الداخلي الضاغط على العديد من هذه الفصائل، كما في حالة حزب الله اللبناني، وثالثها أن إيران تُرجئ هذه الخطوة كأحد أدوات التعامل مع الدول التي يُحتمل انخراطها في التصعيد إلى جانب إسرائيل وخصوصاً الولايات المتحدة. ويؤكد على ذلك تلويح إيران أكثر من مرة خلال الأيام الفائتة، أنها ترغب في فتح جبهة ضد حلفاء إسرائيل الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
ثالثاً- السيناريوهات المحتملة لمسار التصعيد
في ظل مسار الحرب المتصاعدة بين إسرائيل وإيران، تبرز مجموعة من السيناريوهات المحتملة التي قد تحدد مآلات المشهد خلال الأسابيع المقبلة، وذلك استناداً إلى توازنات القوى، والتحركات الدبلوماسية، وحجم الانخراط الإقليمي والدولي:
وقف الحرب: يقوم هذا السيناريو على افتراض إمكانية توصل الولايات المتحدة، بالتنسيق مع أطراف غربية وعربية، إلى اتفاق يضع حدًا لحالة التصعيد بين الجانبين، بما يمنع اتساع رقعة المواجهة ويحول دون تحولها إلى حرب إقليمية مفتوحة. وتدعم هذا الاحتمال مؤشرات على رغبة إيرانية بالعودة إلى طاولة المفاوضات عبر وسطاء عرب وأوروبيين، وفق ما أوردته تقارير غربية مؤخرًا. غير أن هذا السيناريو يظل مرهوناً بعدة محددات، أبرزها: مدى قدرة واشنطن على الضغط على حكومة نتنياهو لاحتواء التصعيد، مدى اقتناع طهران بعدم جدوى الاستمرار في الحرب في ظل استنزاف مخزونها العسكري ووضعها الاقتصادي المتأزم، وطبيعة التفاهمات الممكنة حول ملفها النووي والصاروخي ودورها الإقليمي.
استمرار الحرب: يفترض هذا السيناريو بقاء حالة الاشتباك العسكري بين إسرائيل وإيران لعدة أسابيع، مع محاولة كل طرف تحقيق أكبر قدر من المكاسب الاستراتيجية والميدانية، قبل الانخراط في أي مسار تفاوضي. ويرجح هذا الاحتمال اتساع بنك الأهداف الإسرائيلي إلى حد الحديث عن إسقاط النظام الإيراني، وهو ما يفرض على طهران ضرورة الرد. كما أن المؤشرات المتعلقة بالدعم الأميركي للعمليات الإسرائيلية، وتعقيد مسار المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن، تدفع باتجاه ترجيح هذا السيناريو كمسار محتمل على المدى القريب.
توسع الحرب إقليميا: ينبني هذا السيناريو على فرضية خروج الحرب من إطارها الثنائي إلى صراع إقليمي واسع النطاق، عبر دخول أطراف إضافية إلى ساحة المواجهة، سواء من جانب إسرائيل عبر الدعم الأميركي المباشر، أو من جانب إيران عبر تفعيل شبكتها من الفصائل والمليشيات المسلحة في عدد من دول المنطقة. وتخضع احتمالات تحقق هذا السيناريو لجملة من العوامل، أبرزها: استهداف محتمل لمصالح أو عناصر أميركية في إسرائيل أو في دول أخرى، مدى صمود إيران تحت وطأة الضربات الجوية الإسرائيلية، وإمكانية لجوء طهران إلى خطوات تصعيدية تمس المصالح الغربية، مثل تهديد الملاحة في مضيق هرمز أو استهداف منشآت طاقة في الخليج، إضافة إلى احتمال تدخل واشنطن عسكريًا بشكل مباشر في حال تفاقم الوضع الأمني.
إجمالاً، تمثل هذه الحرب المستعرة بين إيران وإسرائيل واحدة من أخطر التطورات الأمنية في الشرق الأوسط منذ عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023. ويبقى المسار المستقبلي لهذا التصعيد مرتبطًا بمدى قدرة الطرفين على تحمّل كلفة الحرب، وفعالية أدوات الردع المستخدمة، واستعداد كل منهما للانخراط في تسوية سياسية أو الدفع نحو حسم عسكري طويل الأمد، سواء بالأدوات التقليدية أو عبر وسائل تصعيد جديدة قد تفرضها ضرورات المعركة.
قبل 3 أشهر