الصورة: مركز سوث24 - أحمد البنا
18-05-2025 الساعة 3 مساءً بتوقيت عدن
|
"تحلل هذه الورقة النوعية الكيفية التي تستخدم بها جماعة الحوثي وسائل الإعلام الرقمية في تنفيذ حملات دعائية منظمة، واستكشاف مدى تأثير هذه العمليات على الزخم الشعبي المرتبط بالصراع اليمني، سواء داخل البلاد أو في أوساط المتابعين الدوليين. كما تسلط الضوء على أساليب التضليل التي توظفها الجماعة، وتأثيراتها المحتملة.."
ورقة تحليلية | إبراهيم علي
في ظل تطور الصراعات الحديثة، لم تعد المواجهات مقتصرة على ساحات القتال التقليدية، بل امتدت إلى الفضاء الإلكتروني الذي تحوّل إلى ساحة مركزية للحروب غير المتماثلة، حيث تمثل "الحرب الرقمية" وسيلة فعّالة لإعادة تشكيل الرأي العام المحلي والدولي. وتُستخدم فيها أدوات الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي لتوجيه الرسائل الدعائية وتوسيع نطاق التأثير السياسي والنفسي.
وفي هذا الإطار، تسعى جماعة الحوثي في اليمن إلى استثمار الإمكانيات التي توفرها وسائل الإعلام الإلكترونية، من خلال توظيف المنصات الرقمية كأدوات استراتيجية لبث خطابها السياسي والدعائي. ويتجلى ذلك في الحملات التي تنفذها الجماعة عبر شبكات التواصل الاجتماعي لنشر رسائل تجنيدية وتعبوية، تعزز من سرديتها حول الصمود والمقاومة، وتستهدف التأثير على مواقف الجمهور في الداخل والخارج.
تشير الشواهد إلى أن هذا الاستخدام الممنهج للإعلام الرقمي لا يقتصر على نقل الأخبار أو تبادل المعلومات، بل يشكل جزءًا من استراتيجية أوسع للتعبئة الذهنية والنفسية، من خلال التضليل الإعلامي وتوجيه الرأي العام. وتُعد هذه الحملات جزءًا من أدوات الجماعة لتقويض الخطاب المناهض لها، وتشتيت الانتباه عن الانتهاكات أو الإخفاقات العسكرية، عبر تقديم صورة مغايرة تعزز من حضورها كفاعل قوي ومتماسك.
وتهدف هذه الورقة إلى تحليل الكيفية التي تستخدم بها جماعة الحوثي وسائل الإعلام الرقمية في تنفيذ حملات دعائية منظمة، واستكشاف مدى تأثير هذه العمليات على الزخم الشعبي المرتبط بالصراع اليمني، سواء داخل البلاد أو في أوساط المتابعين الدوليين. كما تسلط الضوء على أساليب التضليل التي توظفها الجماعة، وتأثيراتها المحتملة على صلابة الجبهة الداخلية، في ظل التحديات العسكرية والسياسية المتصاعدة.
كيف يعزز الحوثيون الجبهة الداخلية من خلال الإعلام؟
منذ اندلاع الصراع في اليمن، أولت جماعة الحوثي اهتماماً بالغاً بالإعلام بوصفه ركيزة أساسية في معركتها السياسية والعسكرية، وأداة فعالة لحشد التأييد الشعبي تحت شعار "مقاومة التدخلات الخارجية". وتتمحور هذه الاستراتيجية حول تقديم الجماعة لنفسها كحركة تحرر وطني تواجه الهيمنة الإقليمية والدولية، مع تركيز خاص على تصوير الدور الأميركي كجوهر للهيمنة المفروضة على الإرادة اليمنية.[1]
ولم تقتصر الحملات الإعلامية على التغطيات العسكرية، بل توسعت لتشمل ما تسميه الجماعة بـ"تعزيز الهوية الوطنية"، بما يخدم رؤيتها السياسية والأيديولوجية. وتُستخدم القنوات الإعلامية التابعة للحوثيين، كقناة "المسيرة" ومنصات الإذاعة والتواصل الاجتماعي، لنقل رسائل دعائية تتضمن تحفيزًا معنويًا للسكان في مناطق سيطرتها[2]، وإبرازاً دائماً لثبات موقفها في دعم "القضية الفلسطينية" كجزء من خطاب أوسع يتقاطع مع مشاعر التضامن الشعبي العربي والإسلامي. [3]
من خلال هذه الوسائل، تبني الجماعة سردية متماسكة تُظهر عناصرها كرموز للمقاومة والصمود، وتُعيد إنتاج صور الانتصارات الميدانية والبطولات العسكرية في سياق تعبوي يهدف إلى رفع المعنويات وبناء اصطفاف داخلي حول مشروعها السياسي والعسكري. وتُسهم هذه المقاطع المرئية والتقارير المتلفزة في ترسيخ حضور الجماعة داخل وعي الشارع، خصوصاً في ظل غياب بدائل إعلامية فاعلة في تلك المناطق.
من خلال هذه الوسائل، تبني الجماعة سردية متماسكة تُظهر عناصرها كرموز للمقاومة والصمود، وتُعيد إنتاج صور الانتصارات الميدانية والبطولات العسكرية في سياق تعبوي يهدف إلى رفع المعنويات وبناء اصطفاف داخلي حول مشروعها السياسي والعسكري. وتُسهم هذه المقاطع المرئية والتقارير المتلفزة في ترسيخ حضور الجماعة داخل وعي الشارع، خصوصًا في ظل غياب بدائل إعلامية فاعلة في تلك المناطق.[4]
كما يوظف الخطاب الإعلامي التهديدات المستمرة من التحالف بقيادة الولايات المتحدة، لتبرير الأوضاع القائمة، وحشد الدعم الشعبي في مواجهة ما يُصوَّر على أنه خطر وجودي. ويُستخدم هذا النوع من الرسائل لبناء خطاب تعبوي طويل الأمد، يربط بين الصبر الجماهيري، والانتصار القادم ليس فقط لليمن، بل لما يتم تصويره كـ"مشروع مقاوم" يشمل الأمة العربية والإسلامية.[5]
وعليه، يمثل الإعلام بالنسبة للحوثيين أحد أقوى أدواتهم في إدارة الصراع، ليس فقط في ما يتعلق بالتأثير على الخصوم أو كسب التعاطف الدولي، بل في ترسيخ الولاء الداخلي، وإعادة إنتاج الشرعية على أسس دينية ووطنية وأيديولوجية متداخلة.
توظيف المساجد كمنصات دعائية في الخطاب الحوثي
تُعد مكبرات الصوت في المساجد، خصوصًا في العاصمة صنعاء والمناطق الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي، من أبرز الأدوات التي تُستخدم في بث الرسائل العسكرية والجهادية بشكل مباشر. وتستثمر الجماعة هذا الفضاء الديني الحيوي كمنبر جماهيري ذي تأثير واسع، لاسيما خلال أوقات الصلاة، حينما تشهد المساجد توافداً كثيفاً من المواطنين، مما يضمن انتشار الرسائل على نطاق واسع.
تمثل هذه الممارسة جزءًا من استراتيجية دعائية متكاملة تهدف إلى تطويع الخطاب الديني لخدمة الأجندة السياسية والعسكرية للجماعة. فبدلًا من الاكتفاء بالقنوات الإعلامية التقليدية، تعتمد الجماعة على المساجد كأدوات تعبئة وتحشيد، من خلال توظيف الخطاب الديني لتبرير عملياتها العسكرية وتعزيز مشروعها الأيديولوجي. [6]
وتسعى الجماعة من خلال هذه الوسيلة إلى تحقيق هدفين متوازيين: من جهة، التأثير على الرأي العام المحلي وتحفيز السكان على تأييد عملياتها، ومن جهة أخرى، رفع معنويات المجندين والمؤيدين عبر تصوير المواجهات العسكرية، خصوصًا في البحر الأحمر، على أنها معركة مشروعة ضد "العدوان الأميركي والإسرائيلي". وبهذا، تدمج الجماعة بين الرمزية الدينية وأدوات الدعاية التعبوية، في محاولة لبناء شرعية مستندة إلى خطاب المقاومة والتصدي للقوى الغربية.
توظيف الإعلام الغربي في تضخيم سردية الصمود الحوثية
في سياق الصراع المستمر في اليمن، تعمد جماعة الحوثي إلى استثمار ما يُنشر في وسائل الإعلام الغربية لتعزيز خطابها الدعائي المتعلق بالصمود والصلابة في وجه خصومها المحليين والإقليميين. وتقوم وسائل الإعلام التابعة للجماعة برصد دقيق لما تنشره الصحف الغربية، وانتقاء مقاطع بعينها من مقالات وتقارير تُظهر الجماعة في موقف قوة، أو تلمّح إلى ضعف خصومها، ليُعاد نشرها وتضخيمها ضمن قنواتهم الإعلامية. [7]،[8]
تعكس هذه الممارسة استراتيجية إعلامية ممنهجة تقوم على إعادة إنتاج روايات منتقاة من الصحف الأجنبية، لا سيما تلك التي تتناول إخفاقات محتملة لقوات التحالف العربي، أو التي تُظهر فتوراً في الجهود الدولية لمواجهة الحوثيين، ما يسهم في ترسيخ صورة الجماعة كقوة صاعدة قادرة على تحدي القوى الإقليمية والدولية. وتمنح هذه الطريقة الجماعة أدوات إضافية لتعزيز مكانتها، عبر توظيف ما يُنظر إليه محلياً كمصادر موثوقة، خصوصًا إذا صدرت من صحف غربية معروفة.
وقد أظهر تحليل مركز سوث24 لمحتوى وسائل الإعلام الحوثية، ومنها موقع "المساء برس" والموقع الرسمي لـ"26 سبتمبر"، أن حجم المواد المترجمة أو المقتبسة من وسائل إعلام غربية، وروسية، وصينية، يوازي حجم التغطية المحلية تقريبًا. ما يدل على اعتماد ممنهج على هذه المصادر في بناء الرواية الإعلامية للجماعة.
صورة 1: من موقع "المساء برس" التابع للتوجيه المعنوي للحوثيين
صورة 2: من موقع 26 سبتمبر الرسمي التابع للتوجيه المعنوي لجماعة الحوثيين
ولا تقتصر هذه الاستراتيجية على النقل فقط، بل تشمل أيضًا تحريف السياقات وتضخيم العبارات التي تصب في مصلحة الجماعة، في محاولة لخلق انطباع بوجود اعتراف خارجي ضمني بقوتها وشرعيتها. وتُعد هذه الممارسات جزءاً من حملة دعائية تستهدف التأثير على الرأي العام المحلي والدولي، وتثير تساؤلات حول دور الإعلام الدولي في الصراعات، وحدود مسؤوليته الأخلاقية في تفادي استغلاله من قبل أطراف مسلحة.
عمليات التضليل: رسائل دعائية وأخبار مفبركة للتأثير
منذ اندلاع الحرب في اليمن، استخدمت جماعة الحوثي مواقع التواصل الاجتماعية كأداة رئيسية لنقل رسالتها إلى الجماهير المحلية والدولية. استخدم الحوثيون منصات مثل "X" (تويتر سابقا) و"فيسبوك" و"يوتيوب" و"تلغرام" لنشر رسائل دعائية وأخبار مفبركة. هذه الوسائل الاجتماعية أصبحت أداة فعالة للوصول إلى شريحة واسعة من الشباب، خاصة في العالم العربي.
أدوات التضليل الإعلامي في الخطاب الحوثي:
يُعد التضليل الإعلامي أحد أبرز الأسلحة التي استخدمتها جماعة الحوثي ضمن حرب المعلومات، بهدف إحداث تأثير واسع على الرأي العام المحلي والإقليمي. فمن خلال بث تقارير مضللة وأخبار مفبركة تتحدث عن انتصارات ميدانية أو انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الخصوم، تسعى الجماعة إلى تحقيق هدفين رئيسيين: أولاً، إثارة مشاعر الغضب تجاه الولايات المتحدة وحلفائها، وثانياً، التغطية على الانتهاكات التي تمارسها ضد معارضيها وامتصاص الاستياء الشعبي في مناطق سيطرتها.
وقد لعبت منصات التواصل الاجتماعي التابعة للحوثيين دوراً محورياً في هذا السياق، إذ تم توظيفها لتجنيد وتعبئة قطاعات واسعة من السكان، خصوصا في شمال اليمن وبعض الأوساط الإقليمية. وعبر حملات إعلامية منسقة، حاولت الجماعة تقديم نفسها بوصفها المدافع الشرعي عن السيادة الوطنية في مواجهة "العدوان الخارجي" والانتصار لـ "غزة"، مما أسهم في تعزيز سرديتها كطرف مقاوم للاستعمار الغربي. وفي هذا الإطار، ظهرت مقاطع مرئية متعددة على منصات مثل "تيك توك"، تتضمن إشادات ودعما رمزيا للجماعة من قبل بعض الحسابات الأجنبية التي تدعم القضية الفلسطينية.[9]
ورغم ما تحقق من نجاح في بعض المحطات، واجهت هذه الحملات الإعلامية تحديات مرتبطة بالمصداقية والاستدامة. فقد تم دحض العديد من الأخبار المبالغ فيها، وخصوصا تلك المتعلقة بعمليات عسكرية، من قبل مصادر مستقلة أو وسائل إعلام دولية، مما أضعف الثقة بمحتوى الخطاب الحوثي. كما أدت تداعيات الحرب المستمرة إلى تفاقم معاناة المواطنين، ما دفع شريحة من السكان إلى التشكيك في جدوى المشروع الحوثي وممارساته، وأدى ذلك إلى تآكل جزء من القاعدة الشعبية التي راهنت عليها الجماعة.
وفي المحصلة، يتضح أن الإعلام الحوثي، بالرغم من نجاحه في التعبئة والتحشيد ضد التدخلات الأجنبية، يواجه معضلة مستمرة في الحفاظ على ثقة الجمهور. فبينما تستمر أدوات التضليل في أداء دور وظيفي في النزاع، فإن تضارب المعلومات وتكرار المبالغات قد يُشكلان عاملا معاكسا، يقوّض قدرة الجماعة على الحفاظ على دعم شعبي مستقر وطويل الأمد.
أساليب التضليل الإعلامي التي يستخدمها الحوثيون:
اعتمدت جماعة الحوثي مجموعة من الأساليب المتنوعة في حربها الإعلامية، مع التركيز بشكل خاص على التضليل بوصفه أداة مركزية في معركتها ضد الولايات المتحدة وحلفائها. تهدف هذه الأساليب إلى تشويه الواقع الميداني وتقديم سردية منسجمة مع توجهاتها السياسية والعقائدية، مما يؤدي إلى التأثير على إدراك الرأي العام المحلي والدولي لطبيعة الصراع.
1 ـ التحريف المتعمد للوقائع: يُعد التحريف المتعمد لأحداث المعارك العسكرية من أبرز الأساليب التي تنتهجها الجماعة. غالبا ما تقوم وسائل الإعلام الحوثية بنشر تقارير غير دقيقة أو مفبركة، تتحدث عن انتصارات كبيرة تحققها قوات الجماعة، أو عن خسائر فادحة تتكبدها قوات التحالف. وغالبا ما تتعارض هذه المزاعم مع تقارير ميدانية مستقلة تشير إلى واقع مختلف تماما. على سبيل المثال البيانات المتكررة للمتحدث العسكري للجماعة، يحيى سريع، التي يزعم فيها كل مرة أنّ الصواريخ والطائرات المسيرة التي تطلقها الجماعة باتجاه السفن الأمريكية وإسرائيل، "قد أصابت أهدافها بنجاح" أو "حقق العملية هدفها بنجاح"[10]. غير أنّ هذا في الواقع ليس صحيحا وفقا التقارير الرسمية للأطراف الأخرى وتقارير وسائل الإعلام وشهود العيان.
ويتم تداول هذه المعلومات المضللة بشكل مكثف عبر منصات مثل "إكس" و"فيسبوك"، ما يؤدي إلى خلق تصورات مغلوطة حول مجريات المعارك، ويُسهم في تزييف وعي الجمهور بشأن موازين القوى الفعلية على الأرض.
2 ـ إضفاء طابع البطولة على الجماعة: في سياق سعيها لبناء شرعية شعبية، تعمل جماعة الحوثي على تقديم نفسها كرمز للمقاومة الوطنية في وجه "الهيمنة الخارجية". وتُبرز المواد الإعلامية الصادرة عن الجماعة عناصرها كمجاهدين يدافعون عن السيادة اليمنية، ويرتبطون عضويا بقضايا كبرى مثل القضية الفلسطينية. وفي المقابل، يجري تصوير خصوم الجماعة ـ سواء من التحالف أو القوى المحلية المدعومة منه ـ على أنهم "مرتزقة" يعملون لصالح قوى استعمارية تسعى لتقسيم اليمن ونهب موارده. تهدف هذه الاستراتيجية إلى كسب التعاطف الشعبي وبناء سردية أخلاقية تخدم مصالح الجماعة وتعزز حضورها السياسي.
3 ـ استثمار مشاعر العداء ضد إسرائيل وبعض القوى الغربية: تُتقن جماعة الحوثي استثمار المزاج الإقليمي الغاضب من السياسات الغربية، وخصوصا الأميركية، لجعل خطابها أكثر جاذبية وانتشارا. وتُغلف هذه الرسائل بخطاب ديني متشدد يركز على مفاهيم "الجهاد" و"التحرر من الاستكبار"، ويتم توجيهها بشكل خاص إلى الفئات الشبابية والناشطين على الإنترنت.
من خلال هذه الأساليب ـ التحريف المتعمد، صناعة البطولة، واستغلال العداء للغرب ـ تسعى جماعة الحوثي إلى إعادة تشكيل الإدراك الجمعي للصراع، وتغذية الانقسام الإعلامي بين أطراف النزاع. ويؤدي ذلك إلى تعقيد الوصول إلى سردية موضوعية حول ما يجري في اليمن، كما يعمّق من أزمة الثقة في مصادر المعلومات ويكرّس حالة الاستقطاب.
نماذج من التضليل الإعلامي:
1 ـ قصة استهداف إيزنهاورUSS Eisenhower الوهمية: في أغسطس 2024 نشرت حسابات تتبع الحوثيين، على منصة "إكس"، بينها (شبكة أنصار الحق الإعلامية، أنصار الله)، ادعاءات مثيرة حول تعرض حاملة الطائرات الأمريكية "إيزنهاور" لهجوم صاروخي من قبل الحوثيين في اليمن، وذلك للمرة الثانية خلال 24 ساعة، مما أثار تساؤلات حول حقيقة هذه الادعاءات.[11] ولكن، كما توضح الحقائق التي تم التثبت منها، كانت هذه الادعاءات زائفة، مما يعكس أسلوبا متزايدا لدى الحوثيين في نشر المعلومات المضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وتعود البداية الحقيقية لهذه القصة إلى 22 يونيو 2024، حين أعلن البنتاغون الأمريكي أن حاملة الطائرات "إيزنهاور" قد انتهت من مهمتها العسكرية في البحر الأحمر وغادرت المنطقة بعد أن قضت 7 أشهر في دعم العمليات العسكرية ضد الحوثيين.[12] وبناءً على هذا البيان الرسمي، فإن الحاملة لم تكن في المنطقة حينما جرى تداول تلك الادعاءات في أغسطس. وعليه، فإن أي حديث عن استهداف الحاملة في وقت لاحق يعد أمرًا غير واقعيا، ويثبت أن التصريحات التي تم نشرها على "إكس" لم تكن سوى زيف إعلامي.
بعد التحقق، تبين أن الصورة المتداولة ليست حديثة، ولا علاقة لها بأي هجوم على حاملة طائرات أمريكية. في الواقع، تعود الصورة إلى فبراير 2022، حيث التقطت خلال اندلاع حريق على متن السفينة الإيطالية Euroferry Olympia التابعة لشركة Grimaldi Lines. كانت السفينة تقوم برحلة بين اليونان وإيطاليا، حينما اشتعل الحريق على متنها، وهو ما تم توثيقه في ذلك الوقت. لذا، تكون الصورة بعيدة كل البعد عن الادعاء المتداول.[13]
إن حالة "إيزنهاور" هي مثال حي على كيفية استخدام الحوثيين لهذه الأدوات لنشر الأكاذيب وتوجيه الأنظار نحو رواياتهم السياسية الخاصة. كما أنَّ اعتماد الحوثيين على منصات التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي لنشر الدعاية المضللة يسلط الضوء على دور هذه المنصات في تشكيل الوعي العام وتوجيهه.
وعلى الرغم من أن الادعاءات حول الهجوم على "إيزنهاور" قد تم دحضها، فإن تأثيرها على المستوى الإعلامي والسياسي كان كبيرا. إن تكرار هذه الأساليب الدعائية يعكس تحديات كبيرة في مجال الإعلام والسياسة، ويؤكد على الحاجة الملحة إلى تشديد الرقابة على المعلومات في وقت تتسارع فيه الحروب الإعلامية والنفسية في ساحات الصراع.
2 ـ الصورة المضللة حول الهجوم على "هاري ترومانUSS Harry Truman": بعد حادثة "إيزنهاور" بأشهر، انتشرت على الإنترنت صورة تُظهر حاملة طائرات أمريكية تتعرض لهجوم صاروخي، مع وصف مضلل يدعي أنها صورة التقطها القمر الصناعي لحظة استهداف الحوثيين لحاملة الطائرات الأمريكية "يو.اس.اس هاري ترومان" في البحر الأحمر.
هذا الادعاء كان قد ورد على لسان المتحدث العسكري باسم الحوثيين، يحيى سريع، في 23 مارس 2025، دون أن يقدم أي دليل موثق يدعم صحة الخبر. الصورة التي رافقت هذه الادعاءات انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي، مما أثار الكثير من التساؤلات حول صحتها.[14] وعند التحقق من الصورة، تبين أنْ لا علاقة لها بالهجوم المزعوم في البحر الأحمر، إذ تَبيّن أن الصورة المتداولة هي في الحقيقة عمل فني رقمي نشره الفنان جيف هولي، المقيم في الصين، على منصة "آرت ستيشنArtStation " قبل ثلاث سنوات.
صورة 3: الصورة تعرض عملا فنيا رقميا نشره فنان مقره الصين (آرت ستيشن)
وقد أوضح "هولي" في تصريحاته أن هذه الصورة تم تصميمها كغلاف فني لكتاب، وأنه استخدم برنامجًا على جهاز لوحي لإنشائها. كما أضاف أن الصورة ليست مستوحاة من الأحداث الجارية في البحر الأحمر، بل هي مجرد عمل فني يصور حادثة قد تحدث في أي بحر.[15]
3 ـ الذكاء الاصطناعي في خدمة الحوثي: في سياق التضليل الإعلامي، كشفت مجلة "فوربس" الأمريكية عن استخدام جماعة الحوثي لتقنيات متطورة في نشر دعايات مضللة ضد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استعانوا بالذكاء الاصطناعي وتقنيات صناعة الأفلام الهوليوودية لتزوير صور تُظهر أضرارًا في حاملات الطائرات الأمريكية. ووفقًا للمصادر، فإن الحوثيين يتخذون من وسائل التواصل الاجتماعي ساحةً رئيسية لنشر هذه الصور المزيفة، بهدف تحقيق نصر دعائي ضد القوات البحرية الأمريكية في البحر الأحمر.[16]
من بين الصور التي تم تداولها بشكل واسع عبر الإنترنت، واحدة تظهر حريقًا على متن حاملة طائرات أمريكية، لكن بعد التحقيق تبين أن الصورة مأخوذة من فيلم هوليوودي تم إنتاجه قبل أكثر من 20 عامًا. إضافة إلى ذلك، تم نشر صورة أخرى عبر حساب المتحدث باسم جماعة الحوثي - تم حذفها لاحقا - تبين لاحقًا أنها تم تصميمها باستخدام الذكاء الاصطناعي. الصورة كانت تزعم أنها لحاملة طائرات أمريكية حقيقية، لكن التحقيق كشف أنها تعود إلى حادث وقع في الستينيات. انتشرت هذه الصور بسرعة على وسائل الإعلام الإيرانية وأذرعها الإعلامية في المنطقة، مما يسلط الضوء على قدرة هذه التكتيكات الدعائية على التأثير في الرأي العام.
على رغم أن الحوثيين قاموا لاحقًا بإزالة بعض الصور بعد اكتشاف التزوير، فإن الحادث يبرز كيفية استغلال الجماعة للتقنيات الحديثة في تشويه صورة خصومها وتوجيه ضربة إعلامية.
استهداف الشرعية السياسية لخصوم الجماعة
إنَّ من أبرز أساليب جماعة الحوثي الإعلامية، تصوير خصومها في الداخل على أنهم مؤيدون للعمليات الأمريكية والإسرائيلية ضد بلادهم، مما يعزز من صورتهم كقوة مقاومة تسعى للدفاع عن سيادتها ضد التدخلات الخارجية. من خلال هذه التكتيكات، تهدف الجماعة إلى كسب تأييد الجمهور المحلي والدولي باعتبارها مدافعة عن استقلالها.[17]
وعبر استغلالها للقضية الفلسطينية، تحاول الجماعة أن تبرز كطرف نضالي يسعى لتحقيق العدالة في منطقة الشرق الأوسط، مستفيدة من تعاطف شعوب المنطقة مع فلسطين. هذه الاستراتيجية تهدف لخلق تعاطف إقليمي مع الحوثيين ضد ما تعتبره هيمنة أمريكية واسرائيلية على المنطقة.
ولتعزيز سرديتها وبالتزامن مع حالة القمع التي تمارسها الجماعة ضد وسائل الإعلام والصحفيين في مناطق سيطرتها، تسعى الجماعة إلى تقليل الشرعية السياسية لخصومها، سواء كانوا من الحكومة اليمنية أو الجماعات السياسية الأخرى، عن طريق تصويرهم كعملاء للمصالح الأمريكية والإسرائيلية.[18]
وعلى الرغم من أن هذه الأساليب قد تثير الكثير من الجدل، فإنها تمثل جزءا من الاستراتيجية الإعلامية التي تعتمد عليها الجماعة لإيصال رسائلها إلى جمهورها المحلي والدولي، بهدف تعزيز موقفها في الصراع ضد القوى الغربية.
دور إيران المركزي في بناء قوة الإعلام الحوثي
على الرغم من التكتّم الذي يحيط بعلاقة طهران والحوثيين، تشير الدلائل بوضوح إلى دور إيراني محوري في دعم وتنمية إعلام الحوثيين. يتجسد هذا الدعم بشكل خاص في "اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية"، الذي أُنشئ عام 2007 كمنصة لتوجيه النشاط الإعلامي بما يخدم الأهداف الإيرانية، ويخضع لإدارة ناصر أخضر، القيادي البارز في حزب الله.[19]
وفي مرحلة لاحقة، تحديدا منذ عام 2012، قام ناصر أخضر بدور فعال في تطوير منظومة إعلام الحوثيين عبر توفير دعم مالي وتقني كبير. وقد أفضى هذا الدعم إلى تأسيس كيانات إعلامية رئيسية مثل قناة "المسيرة" الفضائية وصحيفته اليومية، بالإضافة إلى "الهيئة الإعلامية لأنصار الله". والجدير بالذكر أن قناة "المسيرة"، التي انطلقت من بيروت في ذلك العام، ما زالت تعمل تحت النفوذ الإيراني المباشر، رغم مساعي الحكومة اليمنية لإغلاق مكتبها.
علاوة على ذلك، يضطلع حزب الله وإيران بدور في دعم ما يُعرف بـ "الجيش الإلكتروني" الحوثي[20]، وهو وحدة متخصصة في تنسيق حملات إعلامية مكثفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بهدف تلميع صورة إيران والحوثيين على الصعيد الإقليمي. ويسهم هذا الدعم الإعلامي بشكل فعال في الترويج لإيران كمركز ثقل للعالم الإسلامي وتعزيز نفوذ الحوثيين على الساحتين الإقليمية والدولية.
وبفضل هذا التدخل الإيراني، أمكن خلق شريحة من النخب السياسية والإعلامية اليمنية التي تتبنى الأجندة الإيرانية وتدافع عن تحركات الحوثيين في المحافل الدولية.
الإعلام الإذاعي: تأثير أوسع
إلى جانب الإعلام المرئي المرتبط بإيران، كثف الحوثيون من استخدام الموجات الإذاعية كأداة رئيسية لنشر رسالتهم محليا. وتعتبر الإذاعات إحدى الوسائل الفعالة التي تمكنهم من الوصول إلى أكبر عدد ممكن من المستمعين في مختلف المناطق، خاصة في ظل الظروف الحالية التي تفرض تحديات كبيرة على الإعلام التقليدي مثل الصحف والمواقع الإلكترونية.
تتمتع الإذاعة بميزة الانتشار الواسع مقارنة بوسائل الإعلام الأخرى، حيث تستطيع بث رسائلها عبر مساحات جغرافية شاسعة بتكلفة منخفضة نسبياً. هذا ما دفع الحوثيين إلى السيطرة على عدد من الإذاعات الحكومية والخاصة وإنشاء إذاعات جديدة في العاصمة صنعاء ومناطق أخرى، حيث يوجهون من خلالها محتوى إعلامي يتماشى مع سياساتهم وأجنداتهم.
من خلال تكثيف تواجدهم الإعلامي عبر الإذاعة، يسعى الحوثيون إلى تحقيق تأثير أكبر على الجمهور المحلي، لاسيما في المناطق التي يصعب الوصول إليها عبر الإنترنت أو الصحافة الورقية. هذه الاستراتيجية تعكس الوعي المتزايد لأهمية الإعلام في تشكيل الرأي العام وتعزيز السيطرة على المجتمع في ظل التحديات الراهنة.
وتنقسم الإذاعات التي تبث في صنعاء إلى 3 فئات رئيسية:
1 ـ إذاعات كانت حكومية: تمولها الدولة تحت سيطرة الحوثيين، وتشمل: إذاعة "صنعاء"، "الشباب"، "العاصمة"، "وطن"، و"الإعلام" التابعة لجامعة صنعاء.
2 ـ إذاعات حوثية مباشرة: تابعة للحركة الحوثية، مثل: إذاعة "سام إف إم"، "صوت الشعب"، "الهوية"، و"21 سبتمبر".
3 ـ إذاعات مملوكة لرجال أعمال حوثيين: مثل "إيرام إف إم" و"يمن ميوزك".
خلف ستار القضية الفلسطينية: ثمن الموقف المساند
من خلال إعلامها المرئي والمسموع والمقروء، تحرص جماعة الحوثي على إظهار تمسكها بقضية فلسطين كجزء من استراتيجيتها السياسية في القضايا الإقليمية ضمن حدود نفوذ وكلاء إيران في المنطقة. ورغم تشكيك خصوم الجماعة في أهدافها الحقيقية وراء هذا الموقف، فإن الحوثيين يسعون إلى استخدام هذا الدعم لتمرير رسائل سياسية ومصالح عسكرية، وتوطيد روابطهم مع حركات جهادية مثل حركة حماس.[21]
ولإثبات صدقية موقفها، تسعى جماعة الحوثي بشكل مستمر إلى تصوير العمليات العسكرية الأمريكية ضدها في اليمن على أنها رد فعل مباشر على موقفها "المساند لغزة". الجماعة تعبر دوما عن اعتقادها بأن دعمها لغزة هو جزء من التزامها الثابت بقضايا العالم العربي والإسلامي، ولا يمكن لأية ضغوط أن تجبرها على التراجع عن هذا الموقف.[22]
إحدى أبرز الأدوات التي تعتمدها الجماعة في هذا السياق هي الترويج المستمر لتصريحات قيادات في حركة حماس، تُشيد بدور اليمن، وتحديدا بجبهة الحوثيين، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وتقوم وسائل الإعلام الحوثية بإبراز هذه الإشادات بشكل مكثف، في محاولة لتعزيز شرعيتها السياسية والعسكرية في الإقليم، وتقديم نفسها كفاعل ملتزم بقضايا الأمة وعلى رأسها فلسطين.[23]
تأتي هذه الاستراتيجية في وقت تواجه فيه الجماعة ضغوطا وانتقادات متصاعدة من أطراف محلية ودولية، تشكك في دوافعها الحقيقية وراء رفع شعار دعم فلسطين. ويرى هؤلاء أن الجماعة تستخدم القضية الفلسطينية كغطاء لتبرير تحركاتها العسكرية وفرض سيطرتها على مناطق داخل اليمن، إضافة إلى توظيفها لبناء تحالفات سياسية مع حركات إسلامية مؤثرة.[24]
تعزيز مصداقية شعار "الصرخة"
على مدى أكثر من عقدين، تبنت جماعة الحوثي شعارا مركزيا عُرف بـ"الصرخة"، والذي ينص على: "الله أكبر.. الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. النصر للإسلام". وقد ارتبط هذا الشعار بهوية الجماعة السياسية والدينية، وشكل مكونا ثابتا في خطابها الإعلامي. ورغم تعرضه للسخرية والتشكيك من قبل خصومها الذين اعتبروا أن الجماعة تستخدمه كشعار تعبوي لا يمت للواقع بصلة، فإن الحوثيين يرون في التطورات الأخيرة في البحر الأحمر دليلا على ترجمة هذا الشعار إلى فعل ميداني.
مع إعلان الجماعة انخراطها في الصراع الإقليمي ضد إسرائيل، وتصعيدها للعمليات العسكرية التي تضمنت إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة باتجاه الأراضي الإسرائيلية واستهداف سفن أميركية، عملت وسائل الإعلام الحوثية على تضخيم هذه العمليات بوصفها تجسيدا واقعيا لشعار "الصرخة". وقد ربطت الجماعة بين هذه التحركات العسكرية والخطاب الأيديولوجي الذي تتبناه، لتؤكد أنها انتقلت من مرحلة الشعارات إلى تنفيذ عمليات تتحدى ما تصفه بـ"قوى الاستكبار العالمي".
وقد وفرت هذه التطورات فرصة للجماعة لتعزيز سرديتها أمام جمهورها، وإضفاء طابع من المصداقية على خطابها الذي طالما اعتُبر شعبويا أو دعائيا. كما أنها أضعفت موقف خصومها المحليين الذين استندوا سابقا إلى الطعن في جدية الشعار، واتهام الجماعة بالاكتفاء بمواجهات داخلية دون أي فعل ملموس تجاه الخصوم الخارجيين.
في هذا السياق، لا يمكن فصل التوظيف الإعلامي لشعار "الصرخة" عن استراتيجية أوسع تهدف إلى بناء صورة الجماعة كقوة محلية قادرة على فرض معادلات جديدة، رغم ما تسببه هذه السياسات من تداعيات اقتصادية وإنسانية على الداخل اليمني، ورغم الخسائر الباهظة التي تتعرض لها البنية التحتية لليمن جراء الغارات العكسية للولايات المتحدة وإسرائيل[25]، إلا أن الحوثيين يواصلون استثمار هذا الشعار كأداة تعبئة، ووسيلة لإعادة تشكيل تموضعهم السياسي والعسكري على المستويين المحلي والإقليمي.
استغلال الخوارزميات لتوجيه الرأي العام
مع تزايد أهمية الشبكات الاجتماعية في التأثير على الرأي العام،بادر الحوثيون لنشر رؤاهم السياسية والدعائية من خلال منصات عدة، حيث باتت الحسابات التي تديرها الحركة الحوثية تصدّر الروايات التي تتوافق مع مصالحهم. وتأكيدا لتوسع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الحرب النفسية، كثف الحوثيون استخدامهم لمنصة "إكس" (تويتر سابقاً) بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة.
على سبيل المثال، كشف تقرير حديث صادر عن منصة مختصة في تتبع النشاطات الرقمية أن أحد القيادات الحوثية (عبد السلام جحاف) يقف وراء إدارة العديد من الحسابات على "إكس".[26] ويعتبر جحاف من الأسماء البارزة في القيادة الحوثية، وقد استطاع استغلال منصات التواصل الاجتماعي لترويج مفاهيم الحركة وآرائها حول قضايا محورية مثل العمليات العسكرية في البحر الأحمر وحملاتهم ضد إسرائيل. وتتميز حساباته بجاذبيتها الإعلامية حيث تستقطب الآلاف من المتابعين، مما يساهم في زيادة تأثير هذه الروايات.
ما يثير الانتباه في هذه الحملة الرقمية هو الطريقة التي يتم بها إدارة الحسابات، حيث تشير الأدلة إلى أن جحاف ليس الشخص الوحيد الذي يدير هذه الحسابات. فهنالك مجموعات منظمة متعددة الأسماء والهويات والمناطق الجغرافية، وراء الكثير من الحسابات المزيفة التي يتم استخدامها لإيصال رسائل محددة بشكل منظم.
يوضح هذا التكتيك كيف يمكن لمجموعة صغيرة أن تحدث تأثيرا واسعا عبر استغلال الخوارزميات ووسائل التواصل الاجتماعي، مما يثير تساؤلات حول فاعلية الرقابة على مثل هذه الأنشطة.
صورة 4: يُعتقد أن حساب "مجتهد نجران" واحد من الحسابات التي يديرها القيادي عبد السلام جحاف (وفقت لمنصة صدق) .. منصة "صدق" هي منصة يمنية مستقلة معنية بتدقيق المعلومات التي تتداولها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
وتساهم مثل هذه الحملات المنظمة هذا في تعزيز سردية الحوثيين. وبذلك، يصبح "إكس" منصة أساسية لخلق مناخ من الرأي العام الموالي لهم، على الرغم من بعض الإجراءات المحدودة[27] التي اتخذتها المنصة ضد بعض وسائل الإعلام الحوثية وبعض مسؤولي وقيادات الجماعة.
وتظهر هذه التطورات الحاجة الماسة لإعادة النظر في سياسات الرقابة والشفافية على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة في المناطق التي تشهد صراعات مسلحة. فالنشاط الحوثي على منصة "إكس" يمثل نموذجا لكيفية استغلال وسائل التواصل لتوجيه الرأي العام وخلق بيئة مؤيدة للأجندات السياسية المتطرفة.
نجاح إعلام الحوثيين أم فشل الإعلام المضاد
لقد عمل الحوثيون على إدارة حربهم الإعلامية في شمال اليمن بشكل خاص، حيث استطاعوا استغلال منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام بشكل استراتيجي لنقل رسائلهم وتعزيز صورتهم كقوة مقاومة. ومن خلال نشر مقاطع الفيديو والصور التي توثق العمليات العسكرية، استطاعوا تشكيل رواية إعلامية تعزز سرديتهم. إلا أنّ هذه الرواية تواجه أيضا في المقابل بحملة أخرى سواء من خصوم الجماعة المحليين أو بعض الأطراف الإقليمية والغربية، التي تسعى لإبقاء الجماعة في حقيقة أنها رغم كل هذه الشعارات التي ترفعها، إلا أنها مجرد "عميل" محلي للنظام الإيراني في المنطقة، تجلب الدمار لليمنيين بفعل سياساتها المختلفة.[28]
ومع ذلك ساهمت ظروف أخرى في إبراز سردية الحوثيين خصوصا بين السكان في شمال اليمن وتحقيق استراتيجيتهم لتقدم إعلامي ملحوظ، بينها التركيز المحدود للإعلام الغربي والدولي على الصراع في اليمن وأطرافه المختلفة، فضلا عن انعدام التنسيق والتخطيط الاستراتيجي الإعلامي لخصوم الجماعة، وضعف البنية التحتية الإعلامية.[29] كما ساهم غياب التنسيق بين المؤسسات الإعلامية الحكومية في تعميق الفجوة بين أطراف الخطاب المناهض للجماعة.
خاتمة
تبرز منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة كأداة استراتيجية قوية في الحروب الحديثة، حيث تلعب دورا أساسيا في تشكيل الرأي العام والتأثير على سير الصراعات. وفي حالة الحوثيين في اليمن، سعت الجماعة لاستغلال هذه الوسائل بشكل فعّال لنقل رسائل دعاية وتجنيد المقاتلين، وبث المحتوى التضليلي.
شكل استخدام مقاطع الفيديو والصور من خلال الإعلام الحديث لعرض العمليات العسكرية وتوثيقها دورا محوريا في بناء رواية إعلامية تسعى إلى الحفاظ على الجماهير المتنوعة وتوجيهه وتحشيده. علاوة على ذلك، يوضح هذا النموذج كيف أن الإعلام الرقمي أصبح جزءا لا يتجزأ من المعركة السياسية والعسكرية، إذ لا تقتصر المواجهات على الميدان فحسب، بل تنتقل إلى الفضاء الإلكتروني.
في ظل هذه الديناميكية الجديدة، يصبح من الضروري فهم تأثير منصات التواصل الاجتماعي على مجريات الحروب والتفاعل مع أبعادها الإعلامية في بناء صورة الحرب وتوجيه مساراتها والتأثير على وعي الناس.
توصيات
انطلاقًا مما سبق، توصي الورقة بالنقاط التالية بهدف مواجهة التحديات الإعلامية في اليمن:
1 ـ تعزيز الوعي الرقمي ومكافحة التضليل الإعلامي بين اليمنيين: يجب على الأطراف اليمنية الفاعلة، بما في ذلك المنظمات المحلية والدولية العاملة في اليمن، تكثيف جهودها لرفع مستوى الوعي الرقمي لدى المواطنين اليمنيين حول أساليب الدعاية الإلكترونية والتضليل وخطاب التطرف الذي ينتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي. كما ينبغي أن تركز البرامج التعليمية على تطوير قدرة اليمنيين على تحليل المحتوى الإعلامي وتقييم مصداقية الأخبار، خاصة في ظل النزاع السياسي والعسكري المستمر.
2 ـ تطوير استراتيجيات إعلامية لمواجهة الحرب الإعلامية: تطوير استراتيجيات إعلامية مضادة تستهدف مواجهة الحملات الإعلامية التي تستخدم منصات التواصل الاجتماعي لتأجيج الصراع ونشر خطاب الكراهية وإشعال الحروب. ويجب أن تتضمن هذه الاستراتيجيات تعزيز الرسائل التي تدعم السلام والتعايش وحقوق الإنسان في السياق المحلي، وتقديم روايات بديلة تسهم في تشجيع الحوار حول الحلول السلمية المستدامة للنزاع.
3 ـ تعزيز الشفافية والمساءلة في استخدام وسائل الإعلام الاجتماعية في اليمن: يجب على منصات التواصل الاجتماعي الكبرى التعاون بشكل فعال مع الجهات اليمنية الرسمية والمجتمع المدني اليمني لضمان مزيد من الشفافية حول كيفية استخدام هذه المنصات في سياق النزاع اليمني. كما ينبغي تطوير آليات محلية ودولية فعالة للكشف عن الحملات المضللة والمعلومات الموجهة ذات الأهداف السياسية التي تؤثر على الوضع في اليمن، كما هو الحال مع جماعة الحوثيين المتحالفة مع إيران.
4 ـ تحقيق التوازن بين حرية التعبير وحماية الأمن المجتمعي في اليمن: من الضروري إيجاد توازن دقيق بين ضمان حرية التعبير لليمنيين وحماية الأمن المجتمعي والسلم الأهلي من الاستغلال السيئ للمنصات الرقمية. يجب على الأطراف اليمنية الفاعلة تبني سياسات واضحة تمنع استخدام منصات التواصل الاجتماعي كأدوات للتحريض على العنف والكراهية والتجييش في سياق النزاع اليمني.
5 ـ تفعيل دور الإعلام التنموي كبديل إيجابي: دعم الإعلام التنموي الذي يسلّط الضوء على مبادرات السلام، وقصص النجاح المجتمعي، وجهود الإغاثة وإعادة البناء، لتوفير محتوى إيجابي ومؤثر يمكن أن يسحب البساط من الخطاب التعبوي المتشدد.
6 ـ دعم منصات إعلامية محلية مستقلة في مناطق النزاع : تشجيع وتطوير وسائل إعلام يمنية مستقلة تعمل خارج دائرة الاستقطاب السياسي، وتتبنى معايير مهنية عالية في التحقق من المعلومات، وذلك من أجل تقديم روايات متوازنة وموثوقة تعزز من تنوع مصادر المعلومات داخل البلاد.
7 ـ بناء شراكات مع مؤثرين يمنيين وعرب في الفضاء الرقمي: يمكن لمبادرات التوعية أن تستفيد من الشراكات مع صناع محتوى رقميين لديهم تأثير واسع داخل اليمن وخارجه، لتعزيز خطاب عقلاني ومسؤول، ومواجهة الحملات المضللة بأسلوب جذاب ومقنع للجمهور العام، لا سيما الشباب.
8 ـ توثيق الأثر الإنساني للإعلام التعبوي المسلح: تشجيع المراكز البحثية والحقوقية على إنتاج تقارير دورية تسلّط الضوء على التأثيرات الإنسانية والاجتماعية للحملات الإعلامية التي تمجّد العنف وتبرّر استمرار الحرب، مع التركيز على الضحايا المدنيين والمجتمعات المحلية المتضررة.
9 ـ الاستثمار في التربية الإعلامية والنقدية في المناهج التعليمية: إدراج مفاهيم التربية الإعلامية في المناهج الدراسية والأنشطة الشبابية، لتعزيز قدرة الجيل الجديد على التمييز بين الحقيقة والدعاية، واكتساب مهارات التحقق من المعلومات وتجنب الوقوع في فخ الرسائل المتطرفة.
[1] قناة المسيرة، "قبائل المحويت تحتشد إعلانًا للنفير العام والجهوزية لمواجهة العدو الصهيوني"، 14 مارس 2024.
[2] سبتمبر نت، "وقفات في الامانة والمحافظات تأييدا لقرارات السيد القائد تجاه غزة"، 14 مارس 2025.
[3] سبتمبر نت، "عمران .. 41 مسيرة جماهيرية تأييدا لخيارات الرد على جرائم الكيان"، 2 أغسطس 2024.
[4] الجزيرة نت، "أنصار الله: مشاهد لإسقاط طائرة مسيرة أمريكية بصاروخ محلي"، 2 أبريل 2025.
[5] منصة إكس، الحساب الرسمي للقيادي محمد علي الحوثي، 23 مارس 2025.
[6] مصادر خاصة من العاصمة صنعاء.
[7] المساء برس، فوكس نيوز: "اليمنيون يوقعون خسارة كبيرة لسلاح الجو الأمريكي"، 5 أبريل 2025.
[8] الخبر اليمني، منصة أمريكية: "الحوثيون قادرون على إبقاء القوات الأمريكية خارج نطاقها في البحر الأحمر"، 2 أبريل 2025.
[9] مركز سوث24 للأخبار والدراسات، التضامن المسلح باسم فلسطين: طريق الحوثيين إلى الشهرة، 31 أكتوبر 2024.
[10] منصة إكس، مثال واحد من بين عشرات البيانات المنشورة على صحفة المتحدث العسكري للجماعة، يحيى سريع.
[11] منصة حقيقة، "هل استهدف الحوثيون حاملة الطائرات الأمريكية أيزنهاور؟"، 31 أغسطس 2024.
[12] دي دبليو الألمانية، "البنتاغون يسحب حاملة الطائرات آيزنهاور من البحر الأحمر". 23 يونيو 2024.
[13] منصة مسبار، "الصورة من عام 2022 وليست لاستهداف حاملة طائرات أميركية في البحر الأحمر". 20 ديسمبر 2024.
[14] رويترز، تقصي الحقيقة: "مشاركة عمل فني رقمي على أنه صورة بالقمر الصناعي لهجوم الحوثيين على حاملة طائرات أمريكية في البحر الأحمر"، 25 مارس 2025.
[15] المصدر السابق.
[16] فرانس 24 الإنجليزية: "Watch out for the fake images said to show a Houthi strike on a US aircraft carrier"، 14 يونيو 2024.
[17] المساء برس، الأهنومي: "واشنطن وتل أبيب تدفعان بالمرتزقة لحرب مباشرة ضد اليمن دعماً لإسرائيل". 4 أبريل 2025.
[18] سبتمبر نت، "المرتزقة في عدن يعرضون خدماتهم على إسرائيل". 2، يناير، 2025.
[19] يمن مونيتور، "اعلام الحوثي ترس في منظومة اتحاد الإذاعات الإيراني.. لماذا يصرون على انكار التبعية؟"، 3 أكتوبر 2024.
[20] المصدر السابق.
[21] الخبر اليمني، " الجهاد الإسلامي تبارك إسقاط قوات صنعاء للطائرة الأمريكية وتشيد بدور اليمن في نصرة غزة"، 1 أبريل 2025.
[22] المسيرة نت، "تقرير غربي: اليمنيون يتحدّون عقوبات ترامب ويعطون الأولوية لدعم غزة"، 7 مارس 2025.
[23] المسيرة نت، "حماس تشيد بأداء محور المقاومة خصوصا اليمن وحزب الله". 18 نوفمبر 2023.
[24] وكالة الأنباء الكويتية، "الرئيس اليمني يحذر من استغلال الحوثيين للقضية الفلسطينية لتحقيق مصالحهم"،24 نوفمبر 2024.
[25] مركز سوث24، "مغامرات الحوثيين العسكرية تعمّق جراح اليمن الاقتصادية"، 17 مايو 2025.
[26] شبكة أخبار اليمن، "الكشف عن شبكة حسابات وهمية يديرها قيادي حوثي على منصة إكس من هو؟"، 27 يوليو 2024.
[27] يمن ديلي، منصة إكس تغلق حساب الموقع الرسمي لجماعة الحوثي، 18. فبراير 2024.
[28] العربية، "إيران والحوثيين: استنساخ حزب الله في اليمن ومشهد أمنى متغير"، 21 ماري 2025.
[29] اندبندنت عربية، "الجبهة الإعلامية في الصراع اليمني... شراسة حوثية وتشتت في جانب الشرعية". 18 نوفمبر 2018.