الصورة: مقتطعة من تقرير وثائقي نشرته منصة (بي بلس)
16-10-2022 الساعة 2 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | وضاح العوبلي
تبرز، في المرحلة الراهنة، ضرورة وأهمية فهم واقع المناطق الوسطى في اليمن وامتداداتها الجغرافية، وهي محافظات تتشكّل كتلتها السكانية من قبائل تتجانس في المذهب الديني [الشافعية] الخصائص الثقافية والاجتماعية إلى حد كبير. تاريخيا، لطالما اعتبرت مناطق الوسط مضطهدة من قبل قوى النفوذ القبلي والمذهبي في شمال اليمن، على الرغم من إنَّ هذه المناطق مثلت خزانا بشرياً لقوى النفوذ تلك في مراحل كثيرة.
لم تعامل مناطق الوسط، على مدار التاريخ، كجزء أو قطب مجتمعي وشعبي رئيسي من أقطاب اليمن سواءً قبل الوحدة أو بعد الوحدة اليمنية التي قامت عام 1990، على الرغم من وجود شخصيات من هذه المناطق في الصف الأول لقيادة النظام اليمني. وكانت هذه المناطق إلى جوار محافظات جنوب اليمن منطلقاً للمدنيّة والنضال الوطني والحداثة. نتيجة لهذا، تشابهت النتائج فقد وقع هؤلاء جميعاً ضحايا لإيمانهم القطعي ببناء وطن جامع ومستقل ومتطور مع تجاهل التحالف التاريخي بين الإمامة وقبائل الزيدية [حاشد وبكيل] في شمال الشمال.
لقد كان هذا التحالف بمثابة تحالف سلطوي وثيق بين الطبقة الزيدية الدينية وطبقة القبيلة الزيدية، للتناوب في الحكم بين الطبقتين. وهذا ما يمكن استنتاجه من مراجعة قراءة تاريخ اليمن، بما في ذلك خلال الستة العقود الماضية من تاريخ قيام الجمهورية التي أعقبت ثورة 26 سبتمبر 1962، وهو اليوم ذاته الذي تم فيه إسقاط الزيدية الدينية (الإمامة) من الحكم أملاً في بناء وطن جمهوري مُعاصر، إلا أنَّ الزيدية القبلية كانت حاضرة وتعمل بكل جهدها لتفكيك المفاهيم والأطر والمبادئ التي قامت عليها الجمهورية، حرصاً منها على أن تكون هي البديل الجمهوري.
وبالعودة إلى دور المناطق الوسطى، فقد كان مهندس ثورة 26 سبتمبر1962، هو أحد أبنائها "علي عبد المغني". لقد قضى عبد المغني في جبهات القتال ضد الإمامة ولحق به الكثيرون من أبناء المحافظات الوسطى، ليس آخرهم "عبد الرقيب عبد الوهاب"، قائد معركة كسر حصار السبعين يوماً مطلع العام 1968، الذي قضى هو الآخر مسحولاً في شوارع العاصمة صنعاء على أيدي زملائه من أبناء "الهضبة الزيدية".
واليمن اليوم يقف على أعتاب العام التاسع من الحرب والصراع، تفرض الأحداث والوقائع الحالية ضرورة قراءة التاريخ بعمق. لقد أفرزت سنوات الحرب السابقة المناطقية السياسية على المشهد السياسي الحالي في اليمن، كما برزت قوى نفوذ جديدة. يأتي هذا في وقت ما زالت فيه المناطق الوسطى عند نفس النقطة من التهميش والإلغاء الذي كانت عليه سابقاً، فيما تستمر قوى نفوذ الهضبة الزيدية في التمدد وإعادة التشكُل للاستحواذ على القرار والعودة إلى وضعها السابق، سواءً في صفوف السلطة "الشرعية" بالمناطق الشمالية المحررة أو في ضمن سيطرة الحوثيين على باقي جغرافيا الشمال.
وفي الاتجاهين تجري عملية تعطيل وتغييب ممنهج لأي دور قيادي في جغرافيا مجتمعية ووطنية وتاريخية هامة، والمناطق الوسطى التي تحتضن كتلة سكانية هي الأكثر كثافة وحيوية ونشاطاً في اليمن.
عمق حيوي مُغيّب
إن الحديث حول المناطق الوسطى لا يمكن اختصاره في الحديث عن جغرافيا تقع في قلب اليمن فحسب، وإن كان الوسط هو المرتكز الأساسي لأي دولة، وبالتالي ليس من المبالغة الحديث عن أن هذه المناطق تشكّل العمق الحيوي لليمن بحالته الراهنة؛ التي تتطلب أهمية تفعيل هذه المناطق ودور أبنائها. أما تاريخياً، فقد كانت هذه المناطق مرتكزاً لأقدم التجمّعات السكانية الحضرية التي أقامت دولاً وممالك عدة كمملكة حمير وغيرها من الدول التي تعاقبت إلى زمن غير بعيد، وشهدت معها هذه المناطق نوعاً من الاستقرار السياسي.
في الواقع، تمثل المناطق الوسطى على المستوى المجتمعي والجغرافي أهمية كبيرة في تشكيل الخارطة اليمنية، لوقوعها في المنطقة الجغرافية المحاذية لجنوب اليمن، وهو ما يشير إلى إمكانية الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المناطق سواءً في تشكيل خارطة اليمن، لا سيّما وأن هذه المناطق تشكّل كتلة سكانية كبيرة ممتدة في محافظات متعددة، وكان أبناؤها في صدارة الحركات التحررية للظلم عبر التاريخ.
لقد لعب الاختلاف المذهبي والاجتماعي للمناطق الوسطى مع سكان بعض مناطق الشمال دوراً محورياً في مقاومتهم المستمرة للإمامة، وبالتالي مثّلت عائقاً لحكم الإمامة وأُسقطت دولتها في ستينيات القرن الماضي.
المناطق الوسطى والجنوب
اجتماعياً، ترتبط المناطق الوسطى بعلاقات اجتماعية وثقافية وفكرية طويلة وعميقة مع مناطق جنوب اليمن. وإن كانت المناطق الوسطى في العادة تعد الأكثر اعتدالاً في رؤاها المناطقية والفكريّة والدينيّة من مناطق الشمال الأخرى، لكنَّها شكّلت حاضنة للحركات الثوريّة والتحرريّة التي كانت في الغالب مدعومة من قوى وسلطات الجنوب على مدى أكثر من خمسين عاماً من تاريخ اليمن الحديث، وهو أمر يرشّح هذه المناطق للعب دور هام في المستقبل.
بين أهمية وحتمية استيعابها جنوباً ومحاولات إعادة إلحاقها وتوظيفها (جغرافياً ومجتمعياً) من قبل قوى شمال الشمال في معركتها القادمة ضد الجنوب، تصارع المناطق الوسطى وأبنائها للخروج من حالة التجاهل الممنهج والتغييب القسري إلى آفاق تُتيح لها تقرير مصيرها وفرض قرارها بما يتناسب مع التوجّهات المعتدلة والمدنية لأبنائها، وتجعل منها عاملاً هاماً من عوامل التوازن السياسي والجغرافي، وهو ما سينعكس إيجاباً على الجميع، وتحديداً على القوى الجنوبية والشمالية التي تناضل بطرق شتى للخروج من حالة التبعية والإلحاق.
من المهم القول، أن هناك ظروف وإمكانيات متوفرة حالياً ويمكن أن تُحدث تحولاً إجبارياً جديداً يخالف المسار الذي ظل مفروضاً على أبناء هذه المناطق منذ صلح "دعّان" المنعقد في 9 أكتوبر 1911[1]، بين العثمانيين والإمام "يحيى حميد الدين". وما تلاه بعد خروج العثمانيين من اليمن من إلحاق لهذه المناطق وغيرها من مناطق السهل والساحل التهامي بالهضبة الزيدية التي كانت وحدها محور اهتمام الإمام "يحيى" في وثيقة الصلح المشار إليها. وهو المسار نفسه الذي ظل مفروضاً ولم يختلف بعد قيام الجمهورية التي انقلبت عليها قوى الدين والسياسة والقبيلة الزيدية في مؤتمر "خَمِر" المنعقد بين الإماميين وبقايا الجمهوريين بتاريخ 2 مايو 1965[2].
لقد تبيّن أن الجمهورية أفرغت من مضامينها وتحوّلت لنسخة إمامية أخرى بغطاء جمهوري. وقد اتضح ذلك من خلال عودة النسخة الأخرى من الإمامة بصبغتها الحوثية عام 2014، لتؤكد بذلك ما ذُكر في هذه الورقة من تداول الحكم بين الطبقتين الزيديتين (الدينية والقبلية) والعكس صحيح.
التبعية الحزبية واصطفافات المصالح
لابد من الإشارة إلى أن بعض القوى والقبائل في المناطق الوسطى ارتضت ببعض الامتيازات التي حققتها من علاقات المصالح التي ربطتها مع السلطات المتعاقبة على حكم اليمن، مقابل إخضاع بقية مواطني القبائل والطبقات الاجتماعية وتفريغها من أي مطالب حقوقية أو سياسية. كما لا يمكن إعفاء أبناء المناطق الوسطى من الأخطاء التي ارتكبوها بحق مناطقهم وسكانها، إذ لم يظهر تكتل نخبوي أو شعبوي ذو طابع سياسي أو جهوي يرفض هذا التغييب، أو يتبنى مشروع سياسي ينسجم مع المطالب الحقوقية والوطنية العادلة في إحقاق حصة هذه الجغرافيا السكانية الفاعلة، لاسيّما في هذه المرحلة التي تتمخض فيها الرؤى والمبادرات الخاصة بشكل الدولة ونوع السلطة خلال مرحلة ما بعد فترة الصراع الراهن. لكن هذا لا يعني القبول بالاستمرار في ذات الحالة، خاصة إذا ما وجدوا نواة لمشروع سياسي وطني جامع على أساس من الشراكة والحقوق والواجبات، التي يصبح لهم بموجبها مقعدهم الوازن مع بقية أبناء الجغرافيات المحيطة بهم.
إن كل التبعيات والاصطفافات المشهودة والملحوظة في المناطق الوسطى تعود لغياب مشروع جامع، لكن هذا لا ينفي التأكيد على أن هناك مطالب بارزة على السطح لأبناء هذه المناطق، وهي مطالب قد تتصاعد وتنضج مع مرور الوقت لتصبح مظلومية حقوقية وسياسية، تؤسس لحراك شعبي واسع ومُلزم للجميع بالاعتراف به والاستجابة له، وهذا يعتمد على فاعلية القوى التي ستتكفل بتبنّي هذا الحراك خلال المراحل القادمة.
مستقبل المناطق الوسطى في الصراع
ولأنّ قيادات مؤسسات الدولة المعترف بها دوليا اليوم، ينتمي معظمها لمناطق الوسط في اليمن، تمثّل المرحلة الحالية فرصة كبيرة لإجراء تقييمات ومراجعات مهنية وتاريخية عميقة تقوم بها القوى التي تجمعها إرادة التحرر والخروج من حالة الضم والإلحاق والتبعية، وأن هناك ما يستدعي إبراز القواسم المشتركة بين هذه القوى للأخذ بيد بعضها البعض. وتقع هذه المهمة بشكل رئيسي على القوى الشمالية الوطنية وعلى القوى الجنوبية ممثلة بالمجلس الانتقالي الجنوبي، باعتبار الأخيرة قوة وازنة ولها حجمها وتأثيرها خارج القوى التقليدية التي ظلت مهيمنة على المشهد خلال العقود الماضية.
وبما أنّ المجلس الانتقالي الجنوبي هو المعني الأول بتعزيز قواه وتحصين مناطق سيطرته، يحتم عليه أيضا تبنّي خطوات جريئة تذهب نحو ترتيب الوضع في المحافظات الوسطى بجناحيها من محافظات الوسط الشرقية والغربية، وتقديم الدعم اللازم لها وتعميق الروابط والأواصر مع أبنائها والدفع بهم للسيطرة على مناطقهم ومحافظاتهم، وتهيئة أنفسهم وتشكيل مكوّنهم بالمستوى الذي يجعل منهم كتلة وازنة ضمن الكُتل والمكونات التي تمخّضت خلال فترة الصراع. يعد هذا التوجّه مهماً وضرورياً لفرض التوازن بين القوى بطابعها الجهوي الذي يمكن أن تنطلق منه لفرض حضورها ومشاركتها الفاعلة في المستقبل، وضمن أي صيغة للدولة المستقبلية القادمة على أنقاض "يمن" ما بعد الحرب والصراع.
[1] ماذا تعرف عن صلح دعان ؟ Facebook
[2] في مثل هذا اليوم: مؤتمر خمر 2 مايو
1965 - نشوان نيوز (nashwannews.com)
قبل 3 أشهر