مسرحية هاملت لفرقة خليج عدن في مبنى (المجلس التشريعي) التاريخي في عدن بين 7 - 16 يناير 2023 (قناة خليج عدن على يوتيوب)
Last updated on: 26-04-2025 at 6 PM Aden Time
|
مركز سوث24 | ريم الفضلي
تشهد الروايات أن جنوب اليمن عرف المسرح عن طريق فرقة هندية كانت في طريقها عام 1904 إلى عدن إبان الاستعمار البريطاني، حيث استقبلت الجالية الهندية الفرقة وأقامت لها مسرحًا خاصًا لعرض عروضها في بناية (مستر حمود) الشهيرة في حافة القطيع بكريتر. إلا أن المؤرخ الجنوبي سعيد العولقي رجّح في كتابه "سبعون عامًا من المسرح اليمني" أن الجنوب قد يكون عرف المسرح والكتابة المسرحية على وجه الخصوص منذ القرن السادس عشر الميلادي، واستدل في كتابه على دراسة عمر عوض بامطرف التي احتوت على نص مسرحي قديم للفقيه عبد الله بن عمر بامخرمة بعنوان "حضرموت والابن".
وبرغم اختلاف الروايات حول تاريخ بزوغ ضوء المسرح في جنوب اليمن، إلا أنه في العام 1910، عُرضت في عدن أول مسرحية مؤرخة باللغة العربية عن طريق "فرقة طلبة مدرسة الحكمة"، بعد ترجمة مسرحية "يوليوس قيصر" من قبل محمد حمود بن حسين الهاشمي، وهو (مستر حمود) نفسه الذي كان له ولأولاده باع طويل في العمل المسرحي والفني والثقافي بعدن.
المسرح العدني
قال الفنان المسرحي ومدير دائرة المسرح في مكتب الثقافة في العاصمة عدن، فؤاد هويدي، في حديثه لمركز سوث24 إن التفكير الجاد في تأسيس حركة مسرحية محلية كانت البداية مع تقديم أعمال مسرحية باللغة العربية، غالبًا ما كانت تتميز بالطابع الشعري، إلى جانب العمل على نصوص محلية بسيطة لكنها كانت بداية موفقة.
وأكد هويدي أن "المحاولات استمرت لسنوات عديدة حتى ظهرت أولى الفرق المسرحية التي قدمت أعمالًا عالمية مثل (يوليوس قيصر) و(الملك هو الملك). وكان من بين رواد هذه الحركة المسرحية شخصيات عدنية بارزة، من بينهم اللامبو، الضوراني، عبدربه، والمنصب، وغيرهم ممن ساهموا في تطوير المسرح المحلي"، مشيرًا إلى أن ذلك شكّل حافزًا للكثير من عشاق المسرح لتكوين فرق مسرحية في مختلف مديريات عدن.
وأشارت المخرجة والفنانة إنصاف علوي إلى أن "العروض التي كانت تقدمها الفرق الأجنبية كانت تُخفي في طياتها رسائل أيديولوجية تهدف إلى خلق تقبل مجتمعي للوجود الأجنبي، في وقت كان فيه المشروع الاستعماري البريطاني يسعى لتثبيت أقدامه في عدن".
وأضافت لمركز سوث24: "كانت العروض تضم مزيجًا من فلكلور شرق آسيا، من الهند والصين وإندونيسيا، لكنها كانت تحمل أهدافًا سياسية واضحة، استشعرها بعض المثقفين حينها".
بلغ العمل المسرحي في جنوب اليمن ذروته في أواخر خمسينيات القرن الماضي، قبيل اندلاع ثورة 14 أكتوبر، حيث ساهم تأسيس ثلاث فرق مسرحية بارزة في عدن – وهي "فرقة الهيئة العربية للتمثيل"، و"فرقة هيئة الفنون والتمثيل"، و"فرقة المصافي الكوميدية" – في إحياء الفن المسرحي بعد سنوات من الجمود، ليعود بقوة إلى واجهة المشهد الثقافي في المدينة.
وأشارت إنصاف علوي إلى أن التحول الحقيقي للمسرح بدأ بعد ثورة أكتوبر عام 1963 ضد الاستعمار البريطاني، حيث أصبح وسيلة لتوعية المجتمع وتطويره، مدفوعًا بعلاقات قوية مع دول مثل الصين الشعبية والاتحاد السوفيتي وألمانيا الديمقراطية.
فرقة المصافي المسرحية الكوميدية في عدن في السبعينات - إرشيفية
مضيفة: "في تلك الفترة، شهدت عدن نهضة ثقافية حقيقية، وكان لكل وزارة مسرحها، مثل وزارة الزراعة والدفاع والاقتصاد. كنا نقدم عروضًا تتناول قضايا الزراعة، الاكتفاء الذاتي، حقوق المرأة، وتعدد الثقافات، وكلها كانت محملة برسائل اجتماعية وسياسية هادفة".
وتضيف: "المسرح القومي في عدن انسجم مع التوجه الثقافي والسياسي في تلك المرحلة. كما أن معهد الفنون الجميلة، الذي أسسه الأستاذ جميل غانم عام 1973، كان من أهم المحطات التي ساهمت في صناعة جيل مسرحي جديد. وكنت محظوظة بأن أكون من بين الذين تتلمذوا فيه على أيدي مدربين عراقيين، وشاركت مع زملاء وزميلات مثل نرجس عباد، إيمان طاهر، وسعاد الجنيدي في تقديم عدة أعمال مسرحية".
وأشار الفنان فؤاد هويدي إلى أن المسرح حظي في فترة السبعينات بدعم حكومي واسع، حيث تم تأسيس فرقة المسرح الوطني في السبعينات بقرار وزاري، ما أدى إلى نشوء عصر ذهبي تميز بتنافس بين الفرق وتنظيم مهرجانات سنوية امتدت إلى محافظات الجنوب، ومشاركات خارجية عززت مكانة عدن المسرحية عربيًا ودوليًا.
المسرح في حضرموت
لم يقتصر المسرح على عدن، فقد شهد النشاط المسرحي بمحافظة حضرموت في الأربعينات وحتى نهاية الخمسينات، نشاطًا كبيرًا عبر المسرح المدرسي. ويرجع هذا الفضل إلى البعثات التعليمية من المدرسين السودانيين والخريجين من أبناء المحافظة، بحسب ما ذكر كتاب "سبعون عامًا من المسرح في اليمن".
ويُعد المسرح في حضرموت من أقدم الفنون التي عرفت نشاطًا واسعًا منذ خمسينيات القرن الماضي، بحسب ما أكده مدير دائرة المسرح في مكتب ثقافة حضرموت، يحيى القطوي.
وأشار القطوي في حديثه لمركز سوث24 إلى أن المسرح الحضرمي شهد نشاطًا واسعًا خصوصًا خلال فترة السلطنة القعيطية، حيث شهدت تلك المرحلة أعمالًا مسرحية متميزة.
وأضاف: "في العقود اللاحقة، وخاصة خلال السبعينيات والثمانينيات، تألقت أسماء فنية بارزة مثل يحيى عمر، سالم صقر، محمد بن سالم، عبد الهادي التميمي، وأحمد بارجه، الذين ساهموا في تأسيس قاعدة قوية للمسرح. كما نُفذت مسرحيات مهمة مثل 'الصحوة'، 'الزلزال'، و'مسمار جحا'."
وبحسب المخرج المسرحي وليد باثقيلي، فإن الفترة الممتدة من السبعينيات إلى التسعينيات شكّلت العصر الذهبي للمسرح في جنوب اليمن، نتيجة الدعم الحكومي الذي وظّف الفنون للتوعية الاجتماعية والسياسية. وقال باثقيلي لمركز سوث24 إن المسرحيات حينها تناولت قضايا الاستعمار، والعدالة، والوحدة، مشيرًا إلى حادثة حرق العلم البريطاني في مسرحية قُدمت بالمدرسة الوسطى في غيل باوزير بحضور وفد بريطاني، والتي كانت شرارة انطلاق الثورة ضد الاستعمار.
نكسة في عهد الوحدة اليمنية
شهد المسرح في جنوب اليمن تدهورًا ممنهجًا بعد الوحدة اليمنية عام 1990، بحسب مدير دائرة المسرح في عدن، فؤاد هويدي، الذي أشار إلى تراجع الدعم الثقافي والمسرحي، وخصوصًا بعد حرب صيف 1994 التي انتهت باكتساح القوات الشمالية لعدن وحضرموت. وأشار هويدي إلى أنه "تمت تصفية معظم الفرق المسرحية وإيقاف الدعم المالي، في ظل سياسة حكومية أهملت الفنون، ما أدى إلى تدهور المشهد المسرحي في عدن والجنوب".
صورة تظهر الخراب والإهمال في المسرح الوطني بالتواهي (المملوك لعائلة مستر حمود) بعدن - مارس 2014
أما القطوي فأكد أن الأرشيف المسرحي في حضرموت تعرض لأضرار جسيمة، خاصة بعد حرب صيف 1994، كما أدى ضعف الدعم الحكومي ونقل المكاتب والمقرات أكثر من مرة إلى فقدان الكثير من الوثائق والأعمال النادرة.
وتابع: "بعد عام 1994، انقطعت الميزانيات والدعم المؤسسي، وتقلّص الاهتمام الرسمي بالمسرح، رغم محاولات فردية من مخرجين ومؤلفين محليين أبرزهم عبد الله الحبشي، عمر حسون، ومحمد عوض. وكان أغلب الإنتاج المسرحي يتم بجهود ذاتية دون تمويل، في ظل غياب البنية التحتية كمسرح رسمي للعرض، واضطرار الفرق للاستعانة بقاعات صغيرة أو قاعات أفراح".
وبينما كان المسرح في جنوب اليمن، ولا سيما مسرح الأطفال المدرسي، يُعد أحد أبرز أدوات النضال ضد الاستعمار، إذ شكّل وسيلة فعّالة لتوعية وتثقيف المجتمع، كما توضح المخرجة إنصاف علوي، غير أن هذا الدور الحيوي للمسرح شهد تراجعًا ملحوظًا بعد حرب عام 1994، حين عمد نظام علي عبد الله صالح إلى طمس الهوية الجنوبية بكل أشكالها.
ضعف الإنتاج
استمر ضعف الإنتاج المسرحي في الجنوب لعقود، ورغم محاولات الإحياء عبر بعض الفرق المسرحية التي أعادت النشاط إلى الواجهة بين 1990 - 2015، إلا أن هذه الجهود بقيت محدودة، حتى جاءت الحرب الأخيرة على الجنوب في عام 2015 لتعمق حالة الركود وتضعف المشهد أكثر.
لكن اليأس لم يكن سيد المشهد تمامًا، ففي يناير 2023، أحيت فرقة "خليج عدن" الآمال بعودة المسرح إلى اليمن عبر تقديم عرض محلي لمسرحية "هاملت" لويليام شكسبير في مدينة عدن، بدعم من المجلس الثقافي البريطاني. المسرحية التي قُدمت باللهجة العدنية وبأسلوب مميز، استضافها مبنى المجلس التشريعي التاريخي، وشهدت إقبالًا واسعًا.
أدار العمل المخرج السينمائي اليمني عمرو جمال، المعروف بفيلم "عشرة أيام قبل الزفّة"، مما أضفى على العرض بعدًا فنيًا احترافيًا.
عبر استحضار المعضلات الأخلاقية وصراع السلطة الذي يتناولها نص شكسبير الكلاسيكي، استطاعت المسرحية أن تلامس وجدان الجنوبيين الذين يعيشون في ظل حرب مستمرة منذ سنوات. شكل العرض رمزًا ثقافيًا مهمًا، عكس تعطش المجتمع للحياة الفنية وأعاد تسليط الضوء على قدرة المسرح في جنوب اليمن على البقاء والتجدد رغم الأزمات والصعوبات.
ولكن هذه المسرحية لم تكن لتتم بدون دعم بريطاني، وهو ما يشير إلى إخفاق ذريع لوزارة الثقافة اليمنية.
آمال ودعوة للتغيير
يعاني العاملون في القطاع المسرحي جنوب اليمن من قلة الإنتاج وضعف الدعم، إضافة إلى غياب الإقبال على المسرحيات التجارية. ويؤكد الممثل هديل عبد الحكيم لمركز سوث24 أن المسرح في الجنوب يشهد تراجعًا واضحًا، حيث تحوّل معظمه إلى "اسكتشات" قصيرة في حفلات التخرج أو الحملات التوعوية، بعد أن كان يشهد نشاطًا ملحوظًا، خصوصًا في عدن قبل الحرب.
وأشار إلى أن المحاولات الفردية لإحياء المسرح، خصوصًا في الأعياد، غالبًا ما تفتقر للاستمرارية والدعم.
وأبدى عبد الحكيم أسفه لتهميش المسرح من قبل الجهات الرسمية، رغم وجود فعاليات ثقافية وفنية متفرقة، مشددًا على أن وزارة الثقافة قادرة، رغم مشكلاتها، على تخصيص جزء بسيط من اهتمامها لهذا القطاع. وختم قائلًا: "نتمنى من الجهات المعنية أن تلتفت للمسرح، فهو يستحق فرصة ليعود كرافعة للوعي والهوية الثقافية".
من جانبه، أوضح المخرج والمؤلف مروان مفرق أن نجاح الإنتاج المسرحي يتطلب وجود خشبة مسرح وبنية تحتية مؤهلة، مؤكدًا أن الدولة سابقًا كانت تدعم المسرح بشكل فعّال من خلال إنشاء المعاهد ودور العرض وابتعاث الفنانين. أما اليوم، فكل ذلك غائب بسبب الظروف السياسية.
وطالب مفرق وزارة الثقافة بالقيام بدورها الحقيقي، مشيرًا إلى أن المطالب بسيطة وتتمثل في الحد الأدنى من الالتزام تجاه المسرح. وأعرب عن أمله في حدوث تغيير يعيد للفن والمسرح مكانتهما، عبر دعم البنية التحتية، وتوفير الخبراء، وتنظيم فعاليات فنية، وابتعاث المواهب للخارج.
رغم العقبات الكثيرة التي واجهت المسرح في جنوب اليمن، من الإهمال المؤسسي إلى تداعيات الحروب، لا تزال جذوة الإبداع المسرحي متقدة في قلوب الفنانين والمثقفين. لقد أثبتت التجارب الأخيرة، مثل عرض "هاملت" باللهجة العدنية، أن المسرح الجنوبي قادر على النهوض من جديد متى توفرت له البيئة الحاضنة والدعم الحقيقي.
واليوم، يقف المسرح في جنوب اليمن على مفترق طرق حاسم، بين الإصرار على البقاء كرافعة ثقافية ووسيلة للتنوير المجتمعي، وبين خطر الاندثار تحت وطأة الإهمال المتواصل. إن استعادة الدور التاريخي للمسرح الجنوبي تتطلب إرادة سياسية وثقافية جادة، ورؤية استراتيجية تستثمر في الإنسان والمكان، حتى يعود المسرح منبرًا نابضًا يعكس أحلام وتطلعات هذا الشعب العريق.
Previous article