التقارير الخاصة

السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي «روسيا» .. دور الرئيس سالمين (4)

28-08-2020 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol

سوث24| د. حسن بن عقيل


أعلنت القيادة العامة للجبهة القومية بعد الخطوة التصحيحية سنة 1969، عن تطوير العلاقات مع السوفييت ودعم حركات التحرر الوطني. لكنّ تلك القرارات لم تحصل على تغطية في الصحافة السوفيتية بالقدر المطلوب يمنياً. وهذا يُشير إلى أنّ موسكو كانت تشكُّ في القيادة الجديدة التي جاءت بعد الخطوة التصحيحية.

هذا الموقف السوفييتي أثّر على قيادة الجبهة القومية. وعلى أثره ظهرت خلافات في قيادة الجبهة حول أيّ المسارين صحيح، المسار السوفياتي أو الصيني. وقد تعمقت هذه الخلافات والانقسامات حول هذه القضية، لكنّ هذين المسارين ترفضهما الأنظمة المجاورة. 

كان الرئيس سالمين متحمّسًا للاتجاه الصيني، وارتبط بالتجربة الصينية في أول عهده. واتخذ قرارات متطرفة رفضها السوفييت، منها: في 27 نوفمبر 1969 تم إقرار قانون "التنظيم الاقتصادي للقطاع العام والتخطيط القومي". وفقًا لهذا القانون، تم تأميم العديد من البنوك والمؤسسات المملوكة بشكل رئيسي لرأس المال الأجنبي. وأعلن احتكار الدولة لاستيراد الدقيق والقمح والزبدة والسكر والشاي والسجائر والسيارات وآلات البناء والأدوية، وغيرها. في 30 أكتوبر 1970 تمّ إقرار قانون إعادة تنظيم وزارة الدفاع والقوات المسلّحة. في 30 نوفمبر 1970 تم اعتماد دستور جديد وتم تغيير اسم البلاد إلى "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية". في عام 1970، قطع اليمن الجنوبي العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، وأصبحت العلاقة في المقام الأول مع الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية.



الرئيس سالم ربيع علي أثناء افتتاح أحد المشاريع في السبعينات (نشوان نيوز)

خلال هذه الفترة اتخذ اليمن الديمقراطي مواقف عدائية ضد دول الخليج النفطية المجاورة. وبالفعل فقد قدّم الدعم للمقاومة في سلطنة عمان ولكن هذه المرة دون اعتراض من السوفييت. أوضح السوفييت للقيادة في عدن أسباب معارضتهم السابقة لحكومة عدن عندما دعمت المقاومة في ظفار وتأييدها ودعمها الآن. السبب هو أنّ التأثير الصيني المتطرّف كان قوياً في عدن وظفار بين عامي 1968 وأوائل 1971. السوفييت لا يريدون الصدام مع الولايات المتحدة أو الغرب، في تلك الفترة كان خوفهم في الأساس من التطرف اليساري الصيني المؤثّر حينها في ظفار وعدن من أن يورّطهم النظام في عدن في صدام مسلح، قد يخرج عن السيطرة هنا، وسوف تستثمره الصين لصالحها، حيث كانت علاقتها مع موسكو فاترة في ذلك الحين.


"كان الرئيس سالمين متحمّسًا للاتجاه الصيني، وارتبط بالتجربة الصينية في أول عهده. واتخذ قرارات متطرفة رفضها السوفييت"


بشكلٍ عام، يختلف موقف السوفييت تجاه دول الخليج عن موقف عدن. بادئ ذي بدء، في الأدبيات الرسمية وغير الرسمية السوفيتية، يكتبون "الخليج الفارسي" في عدن، يكتبون "الخليج العربي". ثانياً، عندما قررت بريطانيا نقل السلطة إلى حكّام دول الخليج الصغيرة الثلاث، والتي رفض حكّام عدن الاعتراف بها، اعترف السوفييت بها. إضافة إلى ذلك، لا تأثير لسياسة عدن في منطقة الخليج. والأمر الجيد أنّ التناقض في الموقفين لم يؤثر على العلاقة اليمنية السوفيتية.

بحلول عام 1971، كانت الظروف مناسبة لتوقيع الاتفاقية السوفيتية اليمنية، والتي كان لها دور رئيسي في تعزيز القدرات العسكرية لجنوب اليمن. في عهد سالمين، حدث مزيد من التطور في علاقات عدن مع موسكو من خلال الزيارات المتبادلة بين الحزبين في 1971-1972. ذهب وفد رفيع المستوى عام 1971 برئاسة الأمين العام عبد الفتاح إسماعيل إلى موسكو للمشاركة في المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي. وأعقب تلك الزيارة، زيارة «علي ناصر محمد وزير الدفاع في ذلك الوقت"، ومرة أخرى زار علي ناصر محمد موسكو، عندما أصبح رئيسًا للوزراء ووزيرًا للدفاع في سبتمبر 1971. التقى علي ناصر بالمارشال جريتشكو وزير الدفاع السوفيتي، والتقى مع المارشال زاخاروف رئيس الأركان، ومع الأدميرال جورشكوف القائد العام للقوات البحرية، ومع المارشال إيبيشيف، رئيس المديرية السياسية الرئيسية للجيش والبحرية السوفيتية.

خلال زيارته في سبتمبر 1971، التقى علي ناصر محمد برئيس وزراء الاتحاد السوفيتي أليكسي كوسيجين وكذلك مع وزراء سوفيات آخرين مشاركين في العلاقات الثنائية، ولكن لم يتم الإعلان عن أي اتفاقيات بعد الزيارة الأولى، ولكن بعد الزيارة الثانية تم الاتفاق على اتفاقيات عدة منها، تم التوقيع على تطوير العلاقات الاقتصادية وتأهيل الكادر الفني في عدة مجالات منها للري والصيد وتدريب الكوادر الفنية، وكان علي ناصر محمد رجل دولة وتكنوقراط، ووجد لغة مشتركة مع القادة السوفييت. وكان له الدور الأكبر في تقوية العلاقات مع السوفييت.



زيارة خارجية للرئيس سالم ربيع علي (صفحة سالمين على فيسبوك)

زار الرئيس سالم ربيع علي موسكو في نوفمبر 1972 لتوقيع اتفاقية تعاون اقتصادي وفني، وحينها وافق السوفييت على بناء محطة طاقة حرارية في عدن، وبناء مستشفى، وتقديم المساعدة في الأعمال الجيولوجية والمسوحات الأخرى. كما جاء في البيان الصادر في ختام زيارة سالم ربيع علي: تم الاتفاق على استمرار الاتحاد السوفيتي في تقديم المساعدة لليمن الديمقراطي لتعزيز قدراته الدفاعية.


"بحلول عام 1971، كانت الظروف مناسبة لتوقيع الاتفاقية السوفيتية اليمنية، والتي كان لها دور رئيسي في تعزيز القدرات العسكرية لجنوب اليمن"


لكنّ حكومة جنوب اليمن في عهد سالم ربيع علي كانت تعاني من أزمة اقتصادية والعديد من المشاكل المالية. وهي موروثة. قبل الاستقلال، كان جنوب اليمن يعيش على مدفوعات من المملكة المتحدة مقابل وجود القاعدة العسكرية البريطانية في عدن، وتجارة الترانزيت عبر ميناء عدن، وعلى المساعدات البريطانية ونفقات القوات العسكرية البريطانية المتمركزة في عدن. إلا أنّ هذه الموارد توقفت عام 1967، بالإضافة إلى إغلاق قناة السويس، وانخفاض إمدادات الوقود، وانخفاض تجارة الترانزيت في عدن إلى نحو ربع مستواها عام 1966. رغم التقشف الصارم في رواتب المدنيين والعسكريين، والتي تقل عن نصف مستوى ما قبل الاستقلال. ومما زاد الطين بلة، أنّ السنوات العشر الأولى من حكم سالمين كانت هي الأكثر اضطراباً.

أمام الوضع الاقتصادي الصعب الذي عاشته الدولة، والأخطاء التي ارتُكبت نتيجة إجراءات التأميم، والوضع العدائي لدول الجوار الذي لم يكن مرتاحًا لتوجه اليمن الديمقراطي نحو الاتحاد السوفيتي، والمساعدات الاقتصادية السوفيتية لم تكن تلبي متطلبات الدولة. كل هذه الأسباب الموضوعية المذكورة أعلاه شجّعت سالم ربيع علي الابتعاد وبخطوات هادئة غير معلنة عن نهج الاشتراكية السوفياتية.


بدأ سالمين بخطوة إيجابية. أولاً، التقارب مع الاخوة في اليمن الشمالي بقيادة الرئيس الحمدي. ما جمع قيادتي الشمال والجنوب هي الظروف الاقتصادية الصعبة. وَجد الطرفان اليمنيان، الشمالي والجنوبي، أنّ الطريق الوحيد للخروج من مأزقهما هو تحسين علاقاتهما مع الدول العربية المجاورة. وهكذا بدأ سالمين في تحسين علاقته مع السعودية والإمارات ومصر، وكذلك توصّل إلى اتفاق مع سلطنة عمان لإنهاء الخلافات القائمة بينهما برعاية السعودية في 11 مارس 1976. 



رئيس اليمن الجنوبي سالم ربيع علي، ورئيس اليمن الشمالي إبراهيم الحمدي (مواقع انترنت)

ولا شك أنّ التوصل إلى هذا الاتفاق يعني وقف دعم عدن لثورة ظفار، الأمر الذي أدّى إلى انهيار واضح لموقفها واستسلامها في النهاية لقيادة السلطنة. أراد سالمين من هذه الخطوات تخفيف الضغوط الاقتصادية والسياسية والأمنية على بلاده. وذلك من خلال خلق علاقات معتدلة ومتوازنة مع البيئة العربية مع الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الصين، التي كانت علاقتها ليست دافئة مع موسكو وبالعكس جيدة مع الولايات المتحدة. كما أنّ سالمين وقف ضد دعم النظام الاثيوبي الماركسي الموالي لموسكو وذلك لإرضاء السعودية. هذا التوجه السياسي للرئيس سالم ربيع علي أقلق الاتحاد السوفيتي والقوى الموالية له في اليمن (جناح فتّاح وفرعه في شمال اليمن). أضف إلى ذلك كان موقف سالمين واضحاً، فهو غير مرتاح من النهج السوفييتي. لهذا كان الاتحاد السوفيتي قلقًا من الاتجاه العام الذي يقوده سالمين، لأنّ الاتحاد السوفيتي كان يعاني من أزمة في سياسته في الشرق الأوسط. 


"بدأ سالمين في تحسين علاقته اليمن الشمالي والسعودية والإمارات ومصر، وكذلك توصّل إلى اتفاق مع سلطنة عمان لإنهاء الخلافات القائمة بينهما برعاية السعودية"


بين 17 و27 يوليو 1972، استغنى نظام السادات في مصر عن الخبراء العسكريين السوفييت. في جنوب الاتحاد السوفيتي من أكتوبر 1977 بدأت المظاهرات ضد الشاه في إيران وتطوّرت إلى حملة مقاومة مدنية شملت جميع العناصر العلمانية والدينية واشتدت في يناير 1978، ولم تُعرف اتجاهات هذه الثورة الإيرانية الهائلة الى أين؟

من جهة أخرى، كانت الثورة التي قادها حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني ضد الرئيس محمد داود خان يومي 27 و28 أبريل 1978، غير مستقرّة. جاء موقف سالمين في وقت صعب للسوفييت وشكّل مصدر قلق كبير، لا للسوفييت فحسب بل للجناح المؤيد للسوفييت في عدن لعبد الفتاح إسماعيل ايضاً، الذي يواجه مشاكل كبيرة مع سالمين.



سالمين يلتقي الشيخ زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة في عدن (أرشيف)

يقول جارالله عمر في مذكراته ((مشكلة جديدة طرأت متمثّلة في خلاف نشب داخل التّنظيم السياسي الموحّد للجبهة القومية في الجنوب ما بين سالمين الّذي كان يميل إلى الخط الصيني، وهو رجل دولة مقتدر، وبين عبد الفتاح الذي كان يميل إلى الخط السوفيتي.. وأصبحنا بخسارة شديدة إثر هذا الانقسام. وسرعان ما بدأ الحمدي ينسج علاقة مع سالم ربيع علي.. ولم يكن الحمدي ضدّ عبد الفتاح لكنّ الانقسام في الجنوب كان كبير، ومنشأ الخلاف وسببُه النزاع على السلطة. وكان عبد الفتاح اسماعيل مع الأحزاب التي انضمّت إلى الجبهة القومية.. بدأوا يكوّنون مجموعة كبيرة ضدّ سالمين الذي كان على رأس الدولة.. وهو رجل عملي لم يكن يحب المثقفين ويعتقد أنهم " بتوع كلام كثير «ويتّهمهم بأنهم غير عمليين وتابعين إلى الاتحاد السوفيتي، وهم يتهمونه بأنه رجل منفرد يعمل وحده، ولا يريد مؤسسات)).  

في 24 يونيو 1978 اُغتيل المقدّم أحمد حسين الغشمي رئيس الجمهورية العربية اليمنية، وهذا خلق توتر شديد يُضاف إلى التوترات القائمة بعد مقتل الرئيس الحمدي، رئيس الجمهورية العربية اليمنية الأسبق، في أكتوبر 1977، أي قبل ثمانية أشهر. أضف إلى ذلك الصراع داخل الجبهة القومية كما ذُكر.

في هذه المياه العكرة تم قتل الرئيس سالم ربيع علي في 26 يونيو 1978. وفي 2 يوليو 1978، كتبت صحيفة نيويورك تايمز أنّ اغتيال رئيس الشمال المقدم العقيد الغشمي واتّهام سالمين بالقتل هذا يُعتبر مبرراً كافياً للإطاحة به من قبل الرفاق في جنوب اليمن الموالين للاتحاد السوفيتي. وكان السوفييت مرتاحين لإبعاد سالمين من رأس السلطة، لأنّ مواقفه قريبة من رئيس اليمن الشمالي الحمدي، وكلاهما يريدان التقارب مع دول الجوار واتخاذ نهج سياسي وطني معتدل للخروج من الأزمة الاقتصادية، دون أي مساومة على السيادة الوطنية. 

لكنّ الرفاق في يسار الجبهة في عدن وفرع شمال اليمن يرفضون نهج الحمدي - سالمين. كانوا يأملون أن يؤدي هذا التغيير إلى استقرار النظام، وذلك مع بقاء اتجاه سياسي رئيسي واحد فقط، وهو اتجاه عبد الفتاح اسماعيل المؤيد للسوفييت. لكنّ الأحداث أثبتت عدم جدوى هذا الأمل. في غضون أقل من عامين، "استقال" عبد الفتاح إسماعيل لأسباب صحية 1980، ونُفي إلى موسكو، تاركًا السلطة لعلي ناصر محمد.


- دكتور حسن زيد بن عقيل، كاتب ومحلل سياسي يمني

حلقات سابقة: 

> السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي «روسيا» تجاه دول شبه الجزيرة ودول الخليج (1)

> السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي «روسيا» تجاه اليمن الجنوبي (2)

> السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي «روسيا».. بداية التحالف بين موسكو وعدن (3)


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا