الافتتاحية

الجنوب كما هو… لا كما يُحذَّر منه

جنوبيون يرفعون علمهم الوطني في عدن، 13 يناير 2013 (هاني محمد، أسوشيتد برس)

آخر تحديث في: 20-12-2025 الساعة 4 مساءً بتوقيت عدن

افتتاحية مركز سوث24


في النقاشات المتجددة حول مستقبل اليمن، خصوصا تلك التي يتناولها نخبة من الكتاب السعوديين البارزين، تبرز أطروحات تؤكد على “حتميات” الجغرافيا والديموغرافيا بوصفها محددات نهائية لأي مشروع سياسي، وتُبنى عليها استنتاجات تُحذّر من مسارات بعينها، لا سيما في الجنوب. ورغم وجاهة هذه المقاربة في ظاهرها، إلا أن التعامل معها كقوانين مغلقة يتجاهل حقائق سياسية واجتماعية تشكّلت على الأرض خلال عقدين كاملين من التحولات الكبيرة.


لا خلاف على أن الجغرافيا عامل مؤثر في السياسة، وأن السعودية تمثل فاعلاً محورياً في المعادلة اليمنية بحكم التاريخ والحدود والمصالح المشتركة. لكن تحويل هذا الدور من شراكة استراتيجية إلى شرط وجود سياسي أو وصاية على إرادة الشعوب، يُفضي عملياً إلى إفراغ أي مشروع محلي من مضمونه الوطني، ويحوّل السياسة إلى إدارة دائمة للأزمات لا إلى حلٍّ لها، ويزيد من بؤر التوتر لا إلى احتوائها.


فالتجارب السياسية في الإقليم تُظهر أن الاستقرار الحقيقي لا يُبنى على الإذن، بل على التوازن بين الإرادة المحلية والمصالح الإقليمية. لذا فإنّ تحويل الدعم الإقليمي إلى شرط وجود، لا إلى عامل استقرار، يضعف القضايا المحلية بدلاً من أن يعززها، ويجعلها رهينة لحسابات متغيرة لا تخضع دائماً لمنطق الدولة أو مصلحة الشعوب.


قضية الجنوب التي ترتكز في أدبياتها على هدف استعادة الدولة الجنوبية، التي كانت قائمة حتى العام 1990، في جوهرها، ليست ردّ فعل آني ولا نتاج مغامرة عسكرية، بل حصيلة مسار طويل بدأ بانقلاب الشمال على الوحدة اليمنية وإعلان الحرب في 94، ومر بالإقصاء، وانهيار الدولة، وفشل الصيغة المركزية في إدارة التنوع، وغياب مشاريع الحكم الرشيد. ومن هنا، فإن التعامل معها بوصفها “إزعاجاً جغرافياً” أو “مشكلة قيادة” فقط، يختزل ظاهرة سياسية واجتماعية أعمق بكثير من الأشخاص والتنظيمات، ويعكس تسطيحا لا يأخذ تاريخ هذه المنطقة بشكل جاد ومسؤول.


لقد أثبتت السنوات الماضية أن مفهوم “الشرعية” في اليمن لم يعد مفهوماً قانونياً مجرداً، بل أصبح مرتبطاً بالقدرة على توفير الأمن، ومنع الفوضى، وإدارة الحد الأدنى من شؤون الناس. وفي هذا السياق، برز المجلس الانتقالي الجنوبي بوصفه فاعلاً ملأ فراغاً حقيقياً في الجنوب، وأسس لنهج محلي قائم على مبدأ الحوار في إدارة ملف قضية الجنوب والاختلافات بشأن حلها، هذا فضلا عن ترسيخ واقع أمني وعسكري قائم على الشراكة الدولية في مكافحة الإرهاب والتهريب ومواجهة التهديدات المشتركة كـ "الحوثييين" مع مختلف الأطراف الجادة في اليمن والإقليم والعالم. وسواء اتفق البعض مع أدائه أو اختلفوا معه. إن تجاهل هذه الحقيقة لا يضعف الانتقالي بقدر ما يضعف أي محاولة لبناء تصور واقعي للاستقرار.

 

كما أن اختزال قضية الجنوب في أداء قيادة بعينها، أو في لحظة سياسية محددة، يُغفل الطبيعة البنيوية للصراع القائم. فالقضايا الوطنية الكبرى لا تنشأ وتستمر بفعل أشخاص، بل بفعل اختلالات عميقة في بنية الدولة، وفشل نماذج الحكم السابقة في إدارة التعدد والتوازنات. وحتى لو تغيّرت القيادات، فإن السؤال الجوهري سيبقى قائماً: ما هو الإطار السياسي القادر على استيعاب تطلعات الجنوب وضمان شراكة عادلة ومستقرة؟ وهل اللجوء لاستهداف قيادة المشاريع الوطنية، هو الطريق الأسلم لضمان مصالح مشتركة مع الإقليم؟!

 

أما ما يُثار حول حضرموت والمهرة، فهو يعكس تعقيدا يتطلب رؤية سياسية هادئة، لا توظيفاً خطابياً وإعلاميا يدفع نحو مزيد من الصراع أو الاقتتال المحلي. فالتنوع داخل الجنوب ليس دليلاً على هشاشة القضية، بل سمة طبيعية لأي مجتمع يسعى لإعادة تعريف نظام الحكم بعد صراع طويل. والتحدي الحقيقي لا يكمن في وجود الاختلاف، بل في غياب إطار جامع لإدارته، وهو ما لا يمكن تحقيقه عبر التحذير أو التخويف بل عبر الحوار وبناء الضمانات ودعم الجهود المحلية التي أثبتت نجاحا في هذا المسار.


التجارب التاريخية، بما فيها تجربة الاستعمار البريطاني للجنوب، تُظهر أن الاحتواء القسري أو الإدارة من الخارج لا تنتج استقراراً دائماً. الاستقرار يُبنى حين يشعر الفاعلون المحليون بأنهم شركاء لا أدوات، وأن مشاريعهم تُناقش بوصفها خيارات سياسية قابلة للتفاوض، لا تهديدات يجب كبحها.


من هذا المنطلق، فإن مستقبل الجنوب لا يُحسم بالمدرعات ولا بالبيانات التحذيرية، بل بعملية سياسية تعترف بالواقع القائم، وتدمج الفاعلين الحقيقيين في معادلة إقليمية متوازنة. السعودية، بحكم ثقلها، قادرة على لعب دور الضامن لهذا التوازن، لا الوصي عليه. والجنوب، بحكم تجربته المريرة، لن يقبل بالعودة إلى صيغ أثبتت فشلها.


إن البحث عن بديلٍ واقعي لا يبدأ بسؤال: من أخطأ؟ بل بسؤالٍ أكثر جوهرية: أيُّ صيغة حكم أثبتت قدرتها على توفير الأمن والاستقرار، ومنع تحوّل الجنوب إلى ساحة صراع مفتوحة؟ وحتى الآن، لم تُقدَّم صيغة أكثر واقعية من عملية سياسية تعترف بالفاعلين القائمين، وتدمجهم في تسوية إقليمية واضحة المعالم، بدلاً من الرهان على إعادة إنتاج نماذج أثبتت فشلها.


إن تجاهل الواقع لا يصنع استقراراً، بل يؤجله بثمن أعلى. كما أن غضّ الطرف عن مئات الآلاف من أبناء جنوب اليمن، الذين يتجمعون مراراً وعلى امتداد جغرافيته، وفي مقدمتها محافظتا المهرة وحضرموت، مطالبين الأشقاء قبل الأصدقاء باحترام إرادتهم الوطنية وحقهم المشروع في بناء دولتهم المستقلة، لا يعني في المحصلة سوى الاستمرار في تقديم مقاربات خاطئة لقضية نضجت خلال عقود؛ بفعل الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ، ولكن قبل ذلك كله بفعل إرادة شعبية جامعة لا تقبل التشكيك ولا التحذير وقيادة قبلت أن تتحمل مسؤوليتها في لحظة فارقة.


- مركز سوث24


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا