Logisber
آخر تحديث في: 22-11-2025 الساعة 10 مساءً بتوقيت عدن
|
|
دوماً ما توصف منطقة الشرق الأوسط بكونها منطقة صراعية بامتياز، أو كما وصفها "هنري كيسنجر" بأنها: "مرجل الصراعات في العالم". وعام 2024 شهد تحولات حيوية في عدد من القضايا والملفات ذات الأولوية الأمنية بالمنطق
مركز سوث24 | د. إيمان زهران
دوماً ما توصف منطقة الشرق الأوسط بكونها منطقة صراعية بامتياز، أو كما وصفها "هنري كيسنجر" في كتابه "النظام الدولي" بأنها: "مرجل الصراعات في العالم"، إذ تختلط فيها الصراعات الاجتماعية الممتدة داخل الدولة بالصراعات بين الدول، وتتنافس القوى الكبرى على موارد الإقليم ومستقبله".
وبرغم نُدرة التغيرات الجذرية بهيكل التحالفات النوعية في الشرق الأوسط على مختلف أنساقها التعاونية أو الصراعية، إلا أن عام 2024 شهد تحولات حيوية في عدد من القضايا والملفات ذات الأولوية الأمنية بالمنطقة جراء تحولات عاصفة بالأوضاع الداخلية والإقليمية تتقاطع بشكل مباشر مع أجندات دول وأطراف أصيلة بمدارات الاستقطابات الإقليمية.
وعليه، فمن المُرجح أن تشهد الأعوام المُقبلة – بناءً على ما آلت إليه الأحداث في عام 2025 - نتائج تلك التحولات الإقليمية، أو على أقل تقدير "الملامح الأولية لهندسة التحالفات الأمنية"، اتساقاً مع حالة التطور الذي طرأ على مكونات المنظومة الإقليمية في الشرق الأوسط، مروراً بدوافع ومنطلقات تلك التحالفات، وصولاً للوسائل والأدوات القائمة والمحتملة لإدارة مثل تلك الهياكل صراعياً أو تعاونياً.
أولاً - تعقيدات التحالفات الأمنية:
حظيت حالة "التحالفات الأمنية" بتطورات متباينة على نحو ما أصبح يُرسخ لدى صانع القرار إشكالية نوعية مفادها أن "إدارة التحالفات أصبحت لا تقل تعقيداً عن إدارة الصراعات"، خاصة وأن بعض الحلفاء أصبحوا يمثلون تهديداً حقيقياً لجوارهم الإقليمي على نحو ما بات يُرسخ فرضية الانتقال البراغماتي من الحليف إلى الخصم. فضلاً عن بروز ظاهرة "عدم التزام الأعضاء بمسؤولياتهم تجاه التحالفات"، مثل حالة الاستدارة الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما، وكذلك الأبعاد التفاعلية الجديدة في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب. فضلاً عن تنامي نمط "التحالفات المضادة" والذي انعكس على حالة التذبذب في موضع الفاعلين من دون الدول بهيكل التحالفات الأمنية في الشرق الأوسط، خاصة بعد اندلاع الثورات العربية في عام 2011، وما تلاها من تبعات أحداث 7 أكتوبر 2023. إذ جميع تلك العوامل أضفت سمات واضحة بحالة التحالفات الأمنية في الشرق الأوسط، تنعكس إجمالاً بالنقاط التالية:
التعقيد والسيولة:
تتسم التحالفات بحكم طبيعتها بسمة التعقيد، بوصفها شبكات للعلاقات والعمليات والاعتماد المتبادل بين الفاعلين، بما يؤثر على فرص الصراع والتعاون على المستويات الدولية والإقليمية، بل والداخلية أيضاً. مع امتداد تأثير الأحلاف على المدى الطويل على سلوك الأعضاء وغير الأعضاء بين الانضمام أو الموازنة وغيرها. وتوليدها سلاسل جديدة لأحلاف مضادة، ما قد يولد تغيرات جذرية في النظام. وهو ما تظهره على سبيل المثال: العديد من السرديات والتحليلات التي فسرت نشوب الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918. وذلك في ضوء سلاسل وطبيعة الأحلاف السابقة على نشوبها بقرابة نصف قرن، بدءاً من تحالف ألمانيا مع الإمبراطورية النمساوية المجرية عام 1879.
اتصالاً بذلك، ثمة تزايد في تعقيدات التحالفات وشبكاتها في المرحلة الراهنة، اتساقاً مع عدد من الاعتبارات، أبرزها:
1. تكثيف الدول لشبكات التحالفات الخاصة بها كجزء من استراتيجيات التحوط والموازنة متعدد الأبعاد.
2. تزايد الأدوار الأمنية للمنظمات والتجمعات الإقليمية المختلفة.
3. تزايد أدوار الفاعلين من دون الدول.
4. صعود أنماط الأحلاف العابرة للحدود.
5. بروز أنماط جديدة من التهديدات على نحو ما يدفع بأهمية تطوير أنماط متعددة من الائتلافات وتفاعليات الشراكة الأمنية والتحالفات الناعمة – جنباً إلى جنب - التحالفات العسكرية الصلبة.
الجدير بالذكر، أن منطقة الشرق الأوسط تتسم بدورات متتالية من "استدعاء لنقاط التحول - Tipping points"، إذ لا زالت تعج بحالة من "الاضطراب المزمن" عقب فترة كمون خاملة تخللها مؤشرات عدة لمسار التهدئة بالمنطقة مثل اتفاقات التطبيع الإقليمي، والمصالحات الخليجية، وإعادة استئناف العلاقات السعودية - الإيرانية، وتحسن العلاقات التركية – العربية، لتعصف عملية "طوفان الأقصى – 7 أكتوبر 2023" وما تبعها من تحركات ميدانية بمختلف الدول المأزومة "لبنان وسوريا والعراق"، وكذلك ما لحق بها من الهجمات المتباينة مع جماعة الحوثيين في البحر الأحمر بحالة الاستقرار النسبي، لتتحول معها المنطقة تحولاً مباشراً ودراماتيكياً. وهو التحول الذي تناول انعكاسه بالتحليل عدد من النظريات التفسيرية، مثل: "نظرية أثر الفراشة" والتي انتهت إلى فرضية مفادها أن تتابع أحداث محدودة قد تفجر موجات متتالية من التغييرات البعيدة جغرافياً. وكذلك "نظرية البجعة السوداء" والتي أوضحت أن شرارات غير متوقعة تنتج عن أحداث عرضية، وتؤدي إلى تأثيرات كبيرة يمكن تفسيرها قبل وقوعها ومن ثم محاولة احتواء امتداد تداعياتها. أو "نظرية البجعة الرمادية" حيث تتعلق بوجود شرارات غير متوقعة تنتج عنها تأثيرات كبيرة لكن لها أدلة مسبقة تعرضت للتجاهل في ظل فوضى المعلومات أو الفجوة المعرفية.
تحديات القيادة:
تُبنى على ما آلت إليه الأوضاع الأمنية بالمنطقة عقب الاستدارة الأمريكية، وما أفرزه الواقع من أولوية "تقاسم الأعباء" للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، والعمل بشكل مستقل عن المساعدات الأمريكية. وذلك بالتوازي مع تحليل الخطاب البراغماتي لدونالد ترامب، وكذلك بروز معضلة "الركوب المجاني Free Riding" اتساقاً مع ما انطوت عليه أبعاد تلك المقاربة البراغماتية، والمتمثلة في:
1. تعقد الأزمات الإقليمية واستعصاؤها على الحلول الأمريكية المنفردة.
2. تحول الأولويات الجيوسياسية مع الاستدارة نحو منطقة الإندو-باسيفيك، ومع تآكل فاعلية أدوات الضغط الأمريكية في بعض ملفات المنطقة.
3. تزايد انخراط القوى الإقليمية، العربية وغير العربية، وتعاظم قدرتها على فرض مقارباتها بما يتجاوز الدور الأمريكي. فعلى سبيل المثال: نجحت القاهرة في فرض تصوراتها حول اتفاق الهدنة في غزة وما انطوت عليه ترتيبات اليوم التالي وذلك إبان مؤتمر شرم الشيخ للسلام في 13 أكتوبر 2025، وما تلى ذلك من تنسيقات مصرية أممية وأمريكية، وأخرى مصرية عربية لانتزاع خارطة طريق يُبنى عليها الحل الشامل والعادل، ليس فقط للقضية الفلسطينية، ولكن لمجمل القضايا العالقة بدوائر الفوضى بالدول المأزومة بالشرق الأوسط.
الحلفاء الخصوم:
بالبناء على ما سبق ذكره أعلاه من تحديات القيادة، تُرجح تلك الفرضية تعثر إدارة التناقضات بين العديد من الأطراف المركزية والمحورية في الشرق الأوسط، والإخفاق المحتمل لبعض أطراف التحالفات الأمنية في تلبية المتطلبات الأمنية على المستوى الداخلي، أو المساهمة الفعلية على المستوى الإقليمي على نحو ما قد يدفع بعض الأطراف للبحث عن ائتلافات وتحالفات جديدة بديلة أو مكملة لأجندة الأهداف، أو إعادة النظر في طبيعة الانحيازات "Realignment"، أو الانقلاب إلى التحالف مع الأعداء أو الأحلاف أو المحاور المضادة، بما يزيد من تعقيد خريطة التحالفات القائمة وتداخلها. مثل حالة الأزمة القطرية مع دول مجلس التعاون الخليجي + مصر، في السابق، حيث شكلت تلك الأزمة نموذجاً مباشراً للتهديد في المنطقة، وذلك نتيجة لتحول أحد الحلفاء لمصدر تهديد والدخول في شبكات علاقات غير متسقة مع فاعلين سواء دول، أو من دون الدول. على نحو ما دفع بالكافة لمحاولة تطويق التأثيرات السلبية المباشرة للسياسات القطرية آنذاك على المنطقة، ومحاولة احتواء التهديدات غير المباشرة على كافة المستويات الأمنية عربياً وشرق أوسطياً.
ثانياً – دوافع البناء الأمني لتحالفات الشرق الأوسط:
لم تكن إعادة ترتيب حالة "التحالفات الأمنية" بالشرق الأوسط بمنأى عن الارتدادات المتباينة لمجمل التفاعلات القائمة والمحتملة، الأمر الذي دفع لتصاعد النقاشات الأكاديمية حول أهمية الانتقال إلى ترتيبات أمنية إقليمية جديدة، وموازنة انعكاساتها على كافة المستويات الحيوية "السياسية، الاقتصادية، التنموية، المجتمعية، الإنسانية"، وذلك بالنظر إلى عدد من المحددات الداعمة لفرضية أهمية الإسراع بعملية "البناء الأمني لتحالفات الإقليم"، وذلك على النحو المبين بالنقاط التالية:
● تعثر تسوية الصراعات الإقليمية: إذ أنّ تلك الصراعات نشبت منذ البداية على خلفية الانقسامات المجتمعية ومطالبات فرقاء الداخل بالمشاركة في السلطة والثروة، وكذا الاعتراف بالهويات المهمشة، وما لحق بذلك من إملاءات ذات نزعة خارجية، ساهمت بشكل رئيس في عرقلة عمليات التسوية السلمية، إذ أصبح هناك صعوبة في خلق تفاهمات مشتركة يُبنى عليها توافق مرن بين مصالح القوى الداخلية والخارجية في آن واحد، لا سيما مع انتشار الحروب بالوكالة في الإقليم.
على صعيد آخر، كثّفت القوى الخارجية بصمتها العسكرية والسياسية بكافة الصراعات الداخلية بالمنطقة وذلك بدرجات انخراط متباينة وأوزان نسبية مختلفة. مما جعل أغلب الأدبيات السياسية تصف صراعات الإقليم بأنّها "ذات طبيعة محلية خضعت للتدويل"، وهو ذلك النمط الذي يندرج تحت فصل "الصراعات الهجينة"، وتنامت معه أنماط الحروب بالوكالة، كما أنّ "لعبة المقايضة" أصبحت أحد أبرز الأوراق المتداولة بين القوى الخارجية على مناطق الصراع لتُشكل جزءاً أساسياً من ديناميات "تقاسم النفوذ" في إقليم الشرق الأوسط.
● نشاط التهديدات العابرة للحدود: فقد باتت مناطق الإقليم بمثابة بيئة رخوة محفِّزة للكثير من التهديدات والاضطرابات غير التقليدية لتضاف لأزمات دول المنطقة، خاصة الفاشلة منها. إذ شهد العقد الأخير تصاعداً حاداً لظواهر عابرة للحدود امتدت تأثيراتها إلى العمق الأوروبي عبر المتوسط، مثّلت حالة التنظيمات الإرهابية خاصة "داعش" وعملياتها النوعية "الذئاب المنفردة"، وجماعات الجريمة المنظمة، والهجرة غير الشرعية، ..إلخ. وذلك على النحو الذي يتعثر معه "الفصل التحليلي" بين ما يجري في الصراع السوري أو اليمني أو الليبي. فضلاً عن التطورات بالأراضي الفلسطينية والجنوب اللبناني، عن نظرائه في العراق وكتلة شمال وشرق إفريقيا، وانتقاله بالتبعية إلى أوروبا.
● تنامي أدوار الفاعلين المسلحين من دون الدول: أصبح هناك تواجد فاعل لميليشيات مسلحة تُنازع الدولة الشرعية حقها في احتكار الإدارة وكذا ممارسة التقويم والعنف كما الحال في لبنان والعراق. فضلاً عن أنّ هناك جماعات عرقية تحارب من أجل استقلال كامل أو جزئي في العراق وتركيا والسودان، وكذلك جماعات إرهابية نشيطة في أغلب بلدان الإقليم. على نحو ما يعرقل أدوار "الدولة الوطنية" في حل قضاياها التي آلت بها أن تكون "دول فاشلة" غير قادرة على أداء وظائفها الأساسية. ومن ثم، فثمة "نافذة" نحو إعادة تقييم أوضاع الإقليم والاتجاه نحو "البناء التنظيمي"، كمحاولة لاحتواء تنامي الترجيحات الرامية لتزايد تأثير "الفاعلين من دون الدول" على مستقبل التفاعلات السياسية والمعادلات الأمنية بالمنطقة، وذلك بالنظر إلى المشاهد التالية:
- التغيرات السياسية: بالنظر إلى خريطة الصراعات المسلحة بالإقليم وأطرافها، فإنّ مستقبل الفاعلين المسلحين من غير الدول في المنطقة مرهون بإنهاء الصراعات والحروب الأهلية الدائرة في عدد من الدول العربية، إما في إطار مصالحات وطنية شاملة تحظى بمشاركة الميليشيات والتنظيمات المسلحة، ودعم ومباركة الأطراف الفاعلة والمؤثرة في مختلف الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية. أو بتصفية تلك الحركات وإخراجها من كافة معادلات التسوية السياسية.
- التوترات الإقليمية: ساعدت التوترات التي تشهدها المنطقة وما تلا ذلك بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، في تصاعد أنماط حركات المقاومة في إطار ما يُعرف بـ "جبهة الإسناد"، وإعادة إنتاج التنظيمات المسلحة وتحفيز تعزيز نشاط الميليشيات القائمة، لا سيَّما القائمة على أسس دينية. وهو ما يتضح بالنظر لاتساع الجبهات الصراعية كارتداد مباشر لحرب غزة، وما صاحبها من توترات بين المحاور الإقليمية الصاعدة وذات الثقل حول الارتدادات المتباينة للسياسات الميدانية والعسكرية وأثرها على الأمن الحيوي بالمنطقة (أمن الطاقة، الأمن الغذائي، أمن المياه، الأمن الإنساني، ..إلخ).
- التحولات الاقتصادية: إنّ تردي الأوضاع الاقتصادية، وضعف قدرات الدولة الوطنية، وهشاشتها في استيعاب الارتدادات السلبية للصدمات الخارجية، ساهم بشكل كبير في تشكيل دوافع الأفراد للانضمام إلى التنظيمات المسلحة والميليشيات العسكرية، إذ تسعى تلك التنظيمات لحلول محل الدولة واستغلال المساحات الشاغرة للدور الوظيفي التقليدي في حفظ الأمن والنظام وتقديم الرعاية الصحية والاجتماعية لمواطنيها.
- التأثيرات الإقليمية والدولية: إنّ التدخلات الإقليمية والدولية قد تؤدي إلى تشكيل ميليشيات أو تقديم الدعم للميليشيات القائمة، فقد لعب بعض الأطراف الخارجية دورًا مهماً في تعزيز ظاهرة الفاعلين المسلحين من دون الدول في المنطقة، عبر تقديم الدعم المالي والسياسي والعسكري لهؤلاء الفاعلين، فعلى سبيل المثال: تُعد إيران من أبرز الداعمين الخارجيين للفاعلين المسلحين من دون الدول في المنطقة. خاصة وأنّ هناك بعض الأحداث، التي أسهمت في انتشار هذه الظاهرة، بداية من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وما تلا ذلك من تداعيات ما سُمي بـ "الربيع العربي" بدءًا من عام 2011، وانتشار هذه الظاهرة في عدد من الدول العربية، مثل: "ميليشيا الحشد الشعبي" في سوريا والعراق، و"ميليشيا الحوثيين" في اليمن، و"ميليشيا الدعم السريع" في السودان، وعدة ميليشيات مسلحة في مناطق متفرقة بليبيا.
- التطورات التكنولوجية: فقد عززت التطورات التكنولوجية في مجال الاتصالات وأنظمة الدفاع والهجوم من طبيعة وقدرات الفواعل من دون الدول وتنامي أدوارها فوق الوطنية. وما يتبعه من إعادة ترسيم للخرائط الميدانية، وزخم التوظيفات النوعية للمشتريات العسكرية، فضلاً عن التغيير الثقافي والنمط العملياتي داخل الجيوش النظامية للتكيف مع التغير في تطبيقات العقيدة العسكرية. بالإضافة إلى تزايد الحروب السيبرانية، التي أصبحت أحد الأبعاد الأساسية في أي حروب مستقبلية، وهو ما تم اختباره في عدد من الجبهات الصراعية، مثل: الحرب في غزة ولبنان، والتصعيد العسكري في السودان، والتنافس الجيوستراتيجي في إفريقيا، علاوة على ما أظهرته هذه الأزمات من ميل بعض الدول إلى توظيف الفاعلين المسلحين من دون الدول في شن حروب سيبرانية.
● العلاقة مع القوى الكبرى والصاعدة: أضحت مناطق الإقليم بمثابة "ساحات جيوسياسية" لإعادة ترسيم حالة التغير في موازين القوى الإقليمية والدولية، فعلى سبيل المثال: بالوقت الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة الأمريكية الخروج من المنطقة مقابل الاستدارة نحو الشرق الآسيوي وخاصة منطقة الإندو-باسيفيك، بالمقابل تتحرك روسيا وعدد من القوى الصاعدة كالصين لإعادة التموضع بالشرق الأوسط وفقاً لعدد من الأدوار المتباينة سواء بالانخراط بالصراعات القائمة كحضور موسكو في كل من سوريا وليبيا على سبيل المثال، فضلاً عن توظيفات القوى الإقليمية الصاعدة - غير العربية - تنامي حدة الصراعات بالدول المأزومة بالمنطقة لإنجاز مخططاتها نحو مزيدٍ من التغلغل بالدول العربية الهشة، فعلى سبيل المثال: التدخل التركي في كل من سوريا وليبيا، وكذلك التدخل الإيراني عبر تعزيز أذرعها في كل من سوريا والعراق واليمن ولبنان.
● مستوى التماسك: تُبنى تلك النقطة على إشكالية "التوترات الداخلية" بين دول المنطقة، وانعكاس ذلك التوتر على إدارتهم لملفات الإقليم خاصة مع تصاعد التهديدات الأمنية بالمنطقة بالإضافة إلى الخلافات الحدودية. وكذلك إشكالية التقارب مع إسرائيل كإحدى المتغيرات الداعمة لحالة "الحلحلة" بمستقبل الترتيبات الأمنية المقترحة للإقليم، خاصة مع تأزم الأوضاع الإنسانية والاقتصادية بقطاع غزة والضفة الغربية بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، وما لحق بذلك من اتساع للجبهات الصراعية اشتملت ارتداداتها على جغرافيا "محور الإسناد".
● العوامل الداخلية: ثمّة معضلة تعصف بالهياكل التنظيمية بالدول المأزومة بالإقليم، وهي تتمثل في تعدد مراكز السلطة والأمن في أقاليم الدولة، فضلاً عن تعاظم أدوار القوى المجتمعية وذلك كحالة شمال اليمن وجنوبه، وكذلك شرق وغرب ليبيا. مما قد يهدد بنية الدولة المركزية بالمنطقة.
ثالثاً – مستقبل التحالفات الأمنية في الشرق الأوسط:
أفضت التجارب التاريخية بالشرق الأوسط إلى نتيجة مفادها انحسار فرص تشكيل "تحالفات أمنية" راسخة وفعالة بالمنطقة، وكذا عدم اكتمال أغلب التحركات المؤسساتية التي تم هيكلتها والأهداف المنوط بها سواء محاربة موجات التطرّف والإرهاب، أو محاصرة والتصدي لأجندات القوى الصاعدة حول أقلمة الإقليم، وذلك مثل:
- التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن.
- التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب.
- المقترح الأمريكي لإنشاء تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي "MESA".
- المقترح القطري – الإيراني لإنشاء منظمة للأمن والتعاون الإقليمي.
- المقترح المصري لإنشاء قوة عربية مشتركة.
- المقترح السعودي لإنشاء "تحالف دولي لتنفيذ حل الدولتين".
بالمقابل، على الرغم من كمّ التحديات التي تعصف بالترتيبات السياسية والأمنية بالمنطقة، خاصة فيما بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، وتنامي سيناريوهات "تعثر الحل" بالجبهات الصراعية بالمنطقة. لكن، لا زال الإقليم يحظى بـ"ميزة تفضيلية" قد تدفع بالرهانات نحو احتمالات بناء "تحالف أمني" حال توافقت الأطراف العربية والقوى الشرق أوسطية على أولوية "التوقيت الأمني"، وذلك بالنظر إلى:
- التوازن المرن/ والمقبول بين القوى التقليدية ذات الثقل والصاعدة حول كافة القضايا الحيوية بالإقليم.
- التأكيد على أولويات الآليات الدبلوماسية من جانب الدول ذات الثقل – خاصة مصر – في إنهاء كافة الترتيبات العالقة لملفات التسوية السلمية بالدول المأزومة بالإقليم، وكذلك الجاهزية العسكرية كآلية للردع حال تطور الأوضاع الميدانية بالمنطقة.
- انتهاء الاستقطاب الخليجي – الخليجي وعودة قطر للحاضنة العربية.
- تطابق قنوات الاتصال واتساع مساحات الحوار، خاصة مع استئناف العلاقات السعودية الإيرانية، ورأب الصدع العربي – التركي، وتنامي اتجاه عربي نحو بناء علاقات متوازنة مع القوى الصاعدة بالإقليم.
اتصالاً بما سبق، ثمّة العديد من التحولات الأمنية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط خلال العامين المنصرمين، أبرزها التغير في توازنات القوى بالمنطقة، وكذلك تفكيك أنظمة الردع بالإقليم. فضلاً عن الإدراك العربي بأنّ التهديد الإسرائيلي بات واضحاً ومباشراً ومهدداً لأمنها الوطني.
وعليه، يبدو أنّ الشرق الأوسط يتجه نحو مرحلة جديدة من التوازنات، تتسم بتحالفات نوعية أكثر مرونة، وقوة ردع متوازنة، مع التركيز على الضبط السياسي والأمني، مثل: اتفاق الدفاع المشترك الباكستاني السعودي، وإحياء التصورات المصرية حول تشكل قوى أمنية إقليمية جديدة، وبحث آليات تعزيز التعاون الدفاعي الخليجي، وما لحق بذلك من تطابق للرؤى الأمنية المصرية التركية لأول مرة منذ 13 عاماً، أنتج عنه مناورات بحرية مشتركة (بحر الصداقة) خلال الفترة من 22-26 سبتمبر 2025، وتنسيقات أمنية بالمنطقة الجنوبية، على نحو ما يحمل العديد من الدلالات، أبرزها: ترجمة لكلاسيكيات الأدبيات العسكرية (معادلة القوة + القوة) عبر تحالف مصر والتي تُعد القوة الأكبر على المستوى العسكري في المنطقة العربية والشرق الأوسط وإفريقيا مع تركيا والتي تعد واحدة من أهم القوى العسكرية بالمنطقة، وعضواً في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، على نحو يضمن عدم استغلال أي طرف خارجي لحالة الفراغ الأمني في المنطقة، ليُعاد ترسيم خارطة النفوذ بمنأى عن التفوق التقليدي لإسرائيل، ولصالح الأمن الجماعي والمصالح الاستراتيجية للدول الإقليمية. وهي تلك الرهانات الحيوية والتي لا زالت قيد الاختبار والمتابعة والتقييم خلال المرحلة الراهنة والفترة المُقبلة.