التحليلات

استراتيجية العصا والجزرة: السعودية تتجنب التصعيد مع الحوثيين وتعزز اتفاقياتها مع واشنطن

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتحدث مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بمطار الملك خالد الدولي في الرياض، 13 مايو 2025. (أسوشيتد برس/أليكس براندون)

آخر تحديث في: 14-11-2025 الساعة 10 صباحاً بتوقيت عدن

language-symbol

"سارعت الرياض إلى التواصل مع الحوثيين بمجرد وقف الحرب في غزة وهو ما توج بلقاء مباشر معهم في مسقط نهاية أكتوبر 2025، ولأنها تعجز عن ضمان فتح المطار والميناء ورفع العقوبات الأمريكية، فقد عرضت على الحوثين جملة امتيازات اقتصادية غير معلنة."



حسام ردمان و ماهر أبو المجد


في بداية العام 2023، أقدمت الدبلوماسية السعودية على خطوتين جريئتين؛ الأولى إبرام المصالحة مع إيران برعاية صينية، والثانية هبوط السفير السعودي في اليمن محمد آل جابر بصورة علنية في مطار صنعاء لمفاوضة الحوثيين على مقترح سلام عرف لاحقاً باسم "خارطة الطريق".


مثّل هذا السلوك اعترافاً ضمنياَ بضرورة تقاسم النفوذ الإقليمي مع إيران، وإقراراً باستعصاء الحل العسكري في اليمن. لكنه من جهة أخرى مثّل مناورة استراتيجية لتحييد التهديدات الأمنية من قبل "محور المقاومة"، وتهيئة الظروف المناسبة لإطلاق مسارات جيوسياسية طموحة تعزز من الدور الإقليمي للرياض من حيث: الشراكة مع واشنطن (دفاعياً، اقتصادياً، نووياً)، والتطبيع مع إسرائيل ضمن أفق لحل الدولتين ([1]). وكان هذا التوجّه السعودي متناغم مع رغبة بايدن بإحياء الاتفاق النووي مع إيران.


وفي سبتمبر 2023، بدأ النهج السعودي يأخذ بعداً عملياً، حيث أبرمت واشنطن اتفاقية "التكامل الأمني والازدهار الشامل" مع البحرين تمهيداً لأخرى مع السعودية ([2]). وقد أثار هذا السلوك ردة فعل غاضبة من إيران التي ردت بأسلوب "المنطقة الرمادية"، كما قام الحوثيون باستهداف موقع عسكري على الحدود السعودية ما أدى إلى مقتل ضباط وجنود سعوديين وبحرينيين ([3]). ثم جاءت أحداث السابع من أكتوبر التي جمدت المسارات الدبلوماسية في المنطقة وخلقت معادلة إقليمية جديدة.


الرياض عودة أقوى إلى نهجها الطموح


بعد مرور عامين على اندلاع الحرب في غزة، قرر محمد بن سلمان استئناف مساره السابق من خلال زيارته الاستثنائية إلى واشنطن في 18 نوفمبر الجاري، والتي يرتقب من خلالها الإعلان عن اتفاقات شراكة دفاعية واقتصادية غير مسبوقة من ضمنها التزام صريح بالأمن السعودي على غرار ما جرى قبل أشهر مع قطر ([4]). وتبدو الرياض اليوم في موقع تفاوضي أكثر قوة مقارنة بما كانت عليه قبل عامين؛ إذ تراجعت قدرة "محور المقاومة"، فيما تحولت إسرائيل إلى مصدر قلق إقليمي وباتت أكثر عزلة على الساحة الدولية، في الوقت الذي يكتسب فيه خيار حل الدولتين زخماً سياسياً ودبلوماسياً أكبر.


أما جماعة الحوثي في اليمن، فلم تعد مشكلة سعودية وحسب، بل صارت معضلة إقليمية ودولية بعد تعطيلها لخطوط الملاحة، في حين أنّ الجماعة صارت محاصرة سياسياً واقتصادياً أكثر من أي وقت مضى.


في المقابل، تمكنت السعودية من تعزيز مظلتها الأمنية عبر شراكة نووية مع باكستان، واستعادت حضورها الجيوسياسي في كل من سوريا ولبنان. كما رجح ميزان التفاوض مع واشنطن نسبياً لصالح الرياض، في ظل الإدارة الأمريكية الحالية التي تنتهج مقاربة قائمة على المعاملات والمصالح المباشرة، على خلاف الإدارة السابقة التي كانت تميل إلى إعادة هندسة التوازنات الجيوسياسية في المنطقة.


كل ذلك أتاح للرياض إبرام صفقة ثنائية كبرى مع إدارة ترامب دون الحاجة إلى ربطها بملفات إقليمية أشمل. ففي الوقت الذي قدّم فيه الأمير محمد بن سلمان عروضاً للاستثمار الاقتصادي مع تعهّد مستقبلي بفتح مسار للتطبيع، منح ترامب في المقابل ضمانات أمنية مقرونة بوعد لاحق بدعم حل الدولتين. وفي المحصّلة، لم تعد عوائد هذه الشراكة الاستراتيجية ولا التزاماتها مرتبطة عضوياً بمسار التطبيع مع إسرائيل، أو بمآلات الملف النووي الإيراني، أو حتى بالتسوية السياسية في اليمن.


وقد أثارت هذه الخطوة نوعين من ردود الفعل الغاضبة، أولاً من جانب تل أبيب التي سعت من خلال الكنيست إلى إعلان ضم الضفة الغربية، إضافة إلى تصريحات سموترتش المسيئة للرياض والرافضة لفكرة حل الدولتين. لكن ترامب تكفل بممارسة الضغوط الرادعة للسلوك الإسرائيلي التصعيدي سواء في الضفة الغربية أو حتى في غزة ولبنان ([5]).


ومن جهة أخرى، قرر الحوثيون نقل خطابهم التصعيدي من البحر الأحمر إلى العمق السعودي، مع التلويح بإمكانية ضربها عسكرياً وتكثيف عمليات التحشيد البري والصاروخي في الجبهات الحدودية.  وقد تعاملت الرياض مع هذا التحدي بنفس كُتيّب الإرشادات الذي تعاملت به مع طهران قبل عامين من حيث: تحييد التهديدات الأمنية عبر الدبلوماسية وعرض مزيد من الحوافز لشراء الوقت والتهدئة.


احتواء إيران وتهدئة الحوثي


خلال الفترة الماضية، عملت الرياض على استمالة طهران من خلال ثلاث محفزات: أولاً الدفع نحو استئناف مسار التفاوض النووي مع أمريكا والغرب والضغط لمنع التصعيد العسكري الواسع في الإقليم ([6])، وثانياً تخفيف الضغوط السياسية على حزب الله لنزع سلاحه ([7])، ثم ثالثاً والأهم استئناف جهود الوساطة الدبلوماسية مع جماعة الحوثي والنظر في إمكانية تخفيف الضغوط الاقتصادية عليه.


تدرك الرياض أن استئناف مسار خارطة الطريق في اليمن لم يعد بالأمر الهين، فهي مقيدة بفيتو أمريكي بعد قرار تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية "FTO"، والذي هو بدوره مرتبط بسياسات الضغط الأقصى التي ينتهجها ترامب ضد إيران وحلفائها. كما أن خارطة الطريق صارت مهددة بتعطيل إسرائيل التي سوف تحرص على حرمان الحوثي من تنمية موارده الاقتصادية المتمثلة بمطار صنعاء وميناء الحديدة، وقد تعمل باستمرار على ضربها حتى دون تبني المسؤولية عبر "حرب الظل" وهو ما جرى بالفعل مؤخرا ([8]).


وبرغم هذه القيود، فقد سارعت الرياض إلى التواصل مع الحوثيين بمجرد وقف الحرب في غزة وهو ما توج بلقاء مباشر معهم في مسقط نهاية أكتوبر 2025، ولأنها تعجز عن ضمان فتح المطار والميناء ورفع العقوبات الأمريكية، فقد عرضت على الحوثين جملة امتيازات اقتصادية غير معلنة، منها السماح لهم باستخراج تراخيص قانونية من مقر الحكومة الشرعية في عدن لإنشاء شركة طيران، بحيث يتحملوا هم مسؤولية تشغيلها ([9]).


كما ناقش الحوثيون مع الرياض فرص تخفف قيود "لجنة تنظيم وتمويل الاستيراد"، وهذه اللجنة شكلتها الحكومة اليمنية والبنك المركزي كجهة مشرفة على إدارة عملية استيراد البضائع وحرمان أي شركات حوثية من منافع الحركة التجارية. وقد تضغط الرياض كي تسمح هذه اللجنة لشركات حوثية بالانخراط في عملية استيراد البضائع إلى ميناء الحديدة ([10]).


وبدلاً من تسليم المرتبات لموظفي الدولة في مناطق الحوثي، أعادت السعودية اعتماد قوائم الهبات المالية للمشايخ القبليين ولبعض القيادات الحوثية، وهي بذلك تساهم في تخفيف نفقات الحوثي على شبكاته الزبائنية بسبب ضائقته المالية ([11]).


في المحصلة، تدرك الرياض أنّ الأمر مسألة وقت، وقد تخرج صاحبة الأفضلية الإقليمية بعد زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن. ومع توطيد الشراكة الدفاعية، سيصبح تهديد إيران وحلفائها للأمن السعودي أكثر تكلفة، وسيكتسب الموقف الاستراتيجي للسعودية قوة أكبر في اليمن، سواء سلماً أو حرباً. لذا، يبدو أنّ إيران ستكون مضطرة إلى مسابقة الوقت لتحسين موقفها الاستراتيجي أمام الرياض، وهي تقف أمام خيارين:


إما الضغط والتلويح بالقوة لانتزاع أقصى قدر من الضمانات والحوافز السعودية مع التسليم بأن صفقة الرياض مع واشنطن قد صارت أمر واقع، وأن عواقب التخلي عن سياسة حسن الجوار أكبر بكثير من العوائد، خصوصاً وأن سيناريو المواجهة مع إسرائيل وأمريكا ما زال قائماً، وأفضل طريقة لتخفيف مخاطر هذا السيناريو تتمثل في الحفاظ على الموقف العربي الرافض للتصعيد الإقليمي.


وإما توريط الرياض مجدداً بحرب ساخنة في اليمن وإسقاط الهدنة الهشة منذ 2022، عبر معركة كبرى في الداخل اليمني أو باستهداف مصالحها الحيوية في العمق السعودي واستدراجها إلى رد عسكري مباشر، وقد يساعد ذلك طهران في تسميم الأجواء السياسية ومنح معارضي ترامب ذريعة مثالية للتخريب، وذلك للحد من التزامات أي شراكة دفاعية مع دولة متورطة بحرب أهلية.


حدود التصعيد الحوثي


 صحيح أنّ حسابات الحوثي الذاتية تنسجم مع نهجه التصعيدي تجاه السعودية، لكن معايرة هذا التصعيد (سياسياً أو عسكرياً) سيكون متصل بحسابات إيران الإقليمية. وقد بدا لافتاً كيف تزامن الحراك الدبلوماسي في مسقط بين الحوثيين والسعودية، مع حراك دبلوماسي موازٍ في طهران قاده وزير الداخلية العماني، حيث التقى مع رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان، ووجه دعوة خاصة إلى أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي لارجاني لزيارة مسقط.


حتى الآن، تبدو السياسة الإيرانية أقرب إلى التلويح بالتصعيد دون التورط باستخدام القوة، وهي بذلك تسعى إلى تذكير الجميع بأهمية أخذ مصالحها في الحسبان؛ لاسيما أثناء زيارة الأمير محمد بن سلمان المفصلية إلى واشنطن، على أمل أن تنجح القيادة السعودية في دفع ترامب إلى استئناف مسار التفاوض النووي بشروط أكثر مرونة. وفي الوقت نفسه، تدّخر إيران ورقة البحر الأحمر بانتظار ما سوف تسفر عنه عروض الوساطة بين طهران وواشنطن، وتحسباً لأي جولة مواجهة عسكرية محتملة مع إسرائيل.


ومن جهة أخرى، تستثمر إيران تصعيد الحوثيين السياسي كي تلعب دور الشرطي الطيب الذي يؤكد انفتاحه الدائم على وجود تسوية، وأنه سوف يعمل على إقناع حليفه المحلي المتشدد بذلك. وعلى المستوى التكتيكي أيضاً، تسعى إيران إلى مقايضة التهدئة في اليمن بوقف التصعيد في العراق، الذي ترى التقديرات الإيرانية بأنها الساحة المحتملة لأي ضربة إسرائيلية قادمة.


وفي ضوء هذه المعادلة، يلتزم الحوثيون مؤقتاً بوقف التصعيد العابر للحدود، ويركزون على تحريك المسارات التفاوضية لتحقيق هدفين تكتيكيين: الأول، كسر العزلة السياسية الدولية ولهذا وجهوا دعوة رسمية إلى المبعوث الأممي في اليمن وإلى سفراء الدول الغربية لزيارتهم في صنعاء. أما الهدف الثاني، فتخفيف حدة الضغوط الاقتصادية وإن بصورة محدودة وتدريجية.


وعلى الأرجح، يتفهم الحوثيون استعصاء العودة المباشرة إلى خارطة الطريق، لكنهم سيواصلون العمل على تزخيم هذا المسار من خلال ثلاثة أوراق: أولاً، مرونة دبلوماسية مع المجتمع الدولي بما في ذلك قبول مناقشة ملف المعتقلين وتأكيد الالتزام بعدم تهديد الملاحة. وثانياً، التلويح بعودة التصعيد في الحدود مع السعودية. وثالثاً والأهم، إمكانية القيام بعمليات عسكرية أو أمنية في الداخل لإرباك معسكر الشرعية والضغط على التحالف العربي والمجتمع الدولي.


حسام ردمان

صحفي وباحث سياسي، متخصص بالشأن اليمني وقضايا الصراع والسلام. تتركز كتاباته حول الجماعات الدينية المسلحة، والتطورات السياسية والاجتماعية في جنوب اليمن.


ماهر أبو المجد
صحفي يمني مُقيم في إسطنبول، متخصص في السياسة والعلاقات الدولية

شارك
اشترك في القائمة البريدية
الأكثر قراءة

اقرأ أيضا