التقارير الخاصة

الذكاء الاصطناعي والصحافة اليمنية: آفاق جديدة ومخاوف أخلاقية

تصميم: مركز سوث24 (بواسطة الذكاء الاصطناعي)

12-11-2025 الساعة 8 مساءً بتوقيت عدن

 "دخول الذكاء الاصطناعي إلى صناعة الإعلام والصحافة في المشهد اليمني لا يمثل رفاهية تقنية بقدر ما هو استجابة طبيعية لتحولات إعلامية عالمية عميقة.."


مركز سوث24 | ريم الفضلي


بحلول عام 2025، تجاوز الذكاء الاصطناعي مرحلة التجريب إلى مرحلة التأثير المباشر في منظومات العمل حول العالم. إذ تشير تقديرات حديثة إلى أن أكثر من 900 مليون شخص يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي بانتظام، أي ما يقارب 11% من سكان العالم، فيما يُتوقّع أن يتخطى عدد المستخدمين المليار شخص خلال العام نفسه. 


هذا التحول الرقمي الهائل لم يقتصر على قطاعات الصناعة والتعليم، بل امتد إلى مجال الصحافة والإعلام الذي وجد نفسه أمام أداة ثورية مزدوجة التأثير: تمنح سرعة وكفاءة غير مسبوقة، لكنها تثير في الوقت ذاته تساؤلات عميقة حول المصداقية والأخلاق ودور الإنسان في إنتاج الحقيقة.


لقد أسهمت تطبيقات الذكاء الاصطناعي في إعادة تعريف المفهوم التقليدي للصحافة، فاختصرت الوقت في إعداد التقارير، وساعدت في الترجمة والتحقق من البيانات، وفتحت المجال أمام أشكال جديدة من السرد الصحفي، بما في ذلك إنتاج الصوت والصورة والمحتوى التفاعلي. ومع ذلك، بقي السؤال الجوهري قائمًا: هل تمثل هذه الأدوات نقلة نوعية في خدمة المهنة، أم تهديدًا جوهريًا لقيمها الإنسانية؟


في اليمن، تبرز تجارب إعلامية فريدة حاولت أن تجد موطئ قدم في هذا العالم المتسارع. فبينما سارعت مؤسسات إعلامية عالمية إلى دمج الذكاء الاصطناعي في أعمالها التحريرية، بدأت مؤسسات محلية مثل مركز سوث24 للأخبار والدراسات وقناة عدن المستقلة ومنصة هودج خطواتها الخاصة لتطويع الذكاء الاصطناعي في بيئة إعلامية محدودة الموارد ومعقدة السياقات السياسية والاجتماعية.


من هنا، يسعى هذا التقرير إلى قراءة تحليلية تفسيرية لتجارب توظيف الذكاء الاصطناعي في الصحافة اليمنية، من خلال تناول الاستخدامات العملية، والآفاق المستقبلية، والتحديات الأخلاقية والتنظيمية التي تواكبها. ويعتمد التقرير على مداخلات ميدانية وشهادات مباشرة من صحفيين وإعلاميين يمنيين وعرب، ليقدم رؤية شاملة تعكس التفاعل بين التكنولوجيا والإنسان، بين التطور الرقمي والممارسة المهنية، في لحظة مفصلية تعيد رسم ملامح الإعلام العربي واليمني على السواء.


ثورة الذكاء الاصطناعي 


لم يعد الذكاء الاصطناعي اليوم مجرد أداة تقنية مساعدة، بل تحوّل إلى فاعل رئيسي في صناعة الإعلام، يُعيد تعريف أدوار الصحفيين وأساليب إنتاج المحتوى. ومع دخول عام 2025، لم يعد مستغربًا أن تعتمد مؤسسات إعلامية عالمية كبرى على هذه الأدوات في كل مراحل العمل الصحفي، من جمع البيانات إلى النشر.


وقد أظهرت دراسة مشتركة بين وكالة الأسوشييتد برس (AP) ومعهد بونتر (Poynter Institute) أن ما يقرب من 70% من العاملين في غرف الأخبار استخدموا الذكاء الاصطناعي بحلول ديسمبر الماضي، ليس في مهام هامشية، بل في عمليات جوهرية كصياغة المسودات الأولية للنصوص، والترجمة، وتوليد العناوين الصحفية.


في السياق ذاته، تؤكد بيانات منصة Statista أن أكثر من 55.3% من الصحفيين يستخدمون الذكاء الاصطناعي لتحسين جودة المحتوى، بينما يعتمد 51.8% منهم عليه في أعمال الترجمة، في حين أشار 40% إلى أن هذه الأدوات غيّرت بشكل ملموس طبيعة عملهم اليومي.


غير أن هذا التطور لا يخلو من إشكالات جوهرية. فبينما يرى البعض في الذكاء الاصطناعي فرصة لرفع كفاءة غرف الأخبار، ينظر آخرون إليه كـ"تحدٍّ وجودي" يهدد القيم الأساسية للمهنة مثل الدقة والاستقلالية. ومن هذا المنظور، يظهر الذكاء الاصطناعي كـ سلاحٍ ذي حدّين: يُسهّل العمل الصحفي ويوسّع قدراته الإبداعية، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام إشكاليات الثقة والمساءلة الأخلاقية.


التجارب المحلية


لفهم طبيعة استجابة المؤسسات الإعلامية والبحثية في اليمن لثورة الذكاء الاصطناعي، يتناول التقرير ثلاث مؤسسات رئيسية في هذا السياق: مركز سوث24 للأخبار والدراسات، قناة عدن المستقلة، ومنصة هودج


يقول يعقوب السفياني، المدير الإقليمي لمركز سوث24 للأخبار والدراسات في عدن، إن المركز عمل على دمج استراتيجي لتقنيات الذكاء الاصطناعي في أعماله، استجابةً لحاجة واقعية فرضتها طبيعة القضايا التي يتناولها المركز، والمتعلقة بكم هائل من البيانات المعقدة حول اليمن والشرق الأوسط والقضايا العالمية الأوسع. 


ويشير السفياني إلى أن هذا الدمج ينعكس مباشرةً على الكفاءة التشغيلية لغرفة الأخبار وقسم التقارير وغيرها من الأقسام، إذ تعمل أدوات الذكاء الاصطناعي على تلخيص النصوص الطويلة، وإعادة تنظيمها، وتصنيف المراجع والمصادر، بما يسرّع عملية الإنتاج ويقلل الأخطاء الشكلية. 


 ويضيف أن المركز يوظّف كذلك تقنيات توليد الأصوات الاصطناعية لإنتاج محتوى وسائط متعددة تفاعلي، بما في ذلك التصميمات وتوليد الصور، وكذلك التعليق الصوتي على الفيديوهات. 


أما في منصة هودج، التي تُعنى بقضايا النساء، فتشير هيفاء العديني، عضوة هيئة التحرير، أن المنصة اعتمدت بشكل رئيس على أدوات الذكاء الاصطناعي في البحث عن الأفكار الجديدة، إذ تساعد هذه الأدوات الصحفيات على معرفة ما إذا كانت زاوية الموضوع مبتكرة أو سبق تناولها من قبل. 


وأضافت أن الفريق يلجأ أيضًا إلى أدوات توليد الصور، نظرًا لتعذّر نشر صور النساء بسبب تحفظ المجتمع اليمني حتى عند الظهور بزي محتشم. وبهذا، أصبح الذكاء الاصطناعي وسيلة لتجاوز القيود الثقافية والاجتماعية، من دون الإخلال بالقيم المهنية للمنصة أو رسالة المحتوى النسوي.


من جانبه، أوضح محمد العمودي، رئيس قطاع الإذاعة والتلفزيون الجنوبي، أن قناة عدن المستقلة استخدمت أدوات الذكاء الاصطناعي والنماذج اللغوية مثل تشات جي بي تي في التحرير النصي على نحوٍ محدود. 


وأشار إلى أن نطاق الاستخدام لا يزال ضيّقًا بسبب غياب الثقة الكاملة في دقة المعلومات، خصوصًا في القضايا السياسية والتاريخية. ولفت إلى أنه "في الجانب الفني، يقتصر الاستخدام على تحسين جودة الصوت والصورة عبر أدوات مدمجة في برامج المونتاج، فيما تبقى تجربة الأدوات المتقدمة لتحريك الفيديو نادرة جدًا".


لم تقتصر تجربة الذكاء الاصطناعي في المشهد الإعلامي اليمني على المؤسسات فقط، بل امتدت إلى الصحفيين وصنّاع المحتوى المستقلين الذين وجدوا في هذه التقنيات وسيلة جديدة للإبداع وتجاوز العقبات المهنية. 


تقول كاميليا كامل، البودكاستر وصانعة المحتوى اليمنية، إن الذكاء الاصطناعي أصبح "ضرورة قصوى للعاملين في المجال الإبداعي وصناعة المحتوى". وتضيف أنها تعتمد عليه بشكل كبير وتدعو الجميع لاستخدامه، لأنه لا يقتصر على الإلهام، بل يمثل في أحيان كثيرة طوق نجاة لتجاوز حالات الانسداد الإبداعي (Creative Block) التي تصيب المبدعين أثناء العمل. 


الأبعاد الأخلاقية والتنظيمية


كل ثورة تقنية تفتح آفاقًا جديدة، لكنها في الوقت نفسه تثير أسئلة أخلاقية وتنظيمية معقدة. ومع التوسع السريع لاستخدام الذكاء الاصطناعي في العمل الإعلامي، ظهرت تحديات تمسّ جوهر المهنة، من صدقية المعلومات إلى حماية الحقوق الفكرية والخصوصية.


يرى رئيس مجموعة OSH-AI للذكاء الاصطناعي، الصحفي المصري شحاته السيد أن الذكاء الاصطناعي لا يهدد المهنة، بل يعيد تعريفها. لكنه يحذر من خطر تآكل الثقة العامة بالإعلام نتيجة صعوبة التمييز بين المحتوى الحقيقي والمحتوى المولّد آليًا. كما يلفت إلى مخاطر الإفراط في الاعتماد على التقنية والتحيّزات الخفية في الخوارزميات. ويقترح السيد بناء نُظم تحقق هجينة تجمع بين المدقق البشري وقدرات الذكاء الاصطناعي، على أن تُدعم بتشريعات واضحة تنظم هذا الاستخدام وتحافظ على التوازن بين الابتكار والمسؤولية.


ويلفت السيد إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يلغي الوظائف، بل يعيد توزيعها. فالوظائف الروتينية قد تتأثر، لكنها ستفسح المجال أمام مهن جديدة ترتكز على التقنية. ويحذر من أن المؤسسات التي لا تدمج الذكاء الاصطناعي ستجد نفسها "خارج المنافسة قريبًا"، في حين ستتميز المؤسسات التي تطبّق نُظم تحقق هجينة تجمع بين الإنسان والآلة. 


وتؤكد الصحفية الاستقصائية التونسية حنان سبيس، أن أبرز التحديات التي تواجه الصحفيين اليوم هي ظاهرة "هلوسة الآلة" (Hallucination)، أي ميل أدوات الذكاء الاصطناعي إلى اختلاق إجابات غير صحيحة عند نقص البيانات، وهو ما يجعل التدقيق البشري ضرورة لا غنى عنها. 


وتضيف أن خطر التزييف العميق (Deepfake) يأتي في مقدمة المخاطر، خصوصًا في ظل انتشار الفيديوهات والصور المولَّدة التي تقلّد شخصيات حقيقية في سياقات حساسة مثل الانتخابات أو النزاعات. وتشير إلى أن هذه الظاهرة قد تؤدي إلى تآكل الثقة العامة بالإعلام إذا لم يتم ضبطها قانونيًا وأخلاقيًا. كما نبهت إلى مشكلة حقوق الملكية الفكرية (Copyrights)، موضحةً أن تدريب الخوارزميات على محتوى يمتلكه آخرون دون الإشارة إلى مصدره يشكّل انتهاكًا لحقوق المبدعين الأصليين.


تذهب سبيس أبعد من ذلك لتلفت الانتباه إلى مسألة التحيّزات الخوارزمية، التي قد تنتقل من المبرمجين إلى الآلة نفسها، مما ينعكس في مخرجاتها. وترى أن التحدي الأهم هو تحديد المسؤولية القانونية عند وقوع الأخطاء، مؤكدةً أن "المسؤولية تقع دائمًا على البشر الذين يستخدمون التقنية وينشرون نتائجها". ورغم كل هذه التحديات، تدعو سبيس إلى عدم التخلي عن استخدام الذكاء الاصطناعي، واصفةً إياه بأنه "المساعد الذكي الذي يتطور باستمرار ويتعلم من أخطائه"، لكنها تشدد على ضرورة استخدامه بحذر مع الإبقاء على الدور البشري المحوري في مراجعة المخرجات وتقييمها.


ولفتت سبيس إلى أنها تعتمد على أدوات الترجمة وتفريغ المقابلات لتسريع الإنتاج، وتستخدم تطبيق Notebook لتحليل الوثائق الضخمة وتحويلها إلى تقارير أو مواد سمعية/بصرية. كما توظف ElevenLabs لتحرير البودكاست، وGoogle AI Studio لإنتاج المحتوى الرقمي، فيما تعتمد على أداة Perplexity في البحث المتقدم لقدرتها على تحديد مصادر البيانات بدقة.


يتفق يعقوب السفياني، مع هذا الطرح، مؤكدًا أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يُنظر إليه كـ أداة مساعدة للبشر لا بديلًا عنهم. ويشير إلى أن المركز يفرض رقابة تحريرية بشرية صارمة على جميع المخرجات المنتجة بالذكاء الاصطناعي لضمان الالتزام بمعايير الدقة والشفافية والمصداقية، ومنع أي استخدام قد يؤدي إلى التزييف أو التضليل. ويرى أن الرؤية المثلى هي أن تسهم التكنولوجيا في رفع جودة العمل الصحفي دون المساس بجوهره الإنساني أو استقلاليته التحريرية.


وترى هيفاء العديني، أن التحديات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في اليمن لا تعود إلى خطر فقدان الوظائف، بل إلى حداثة المجال وضعف التدريب المحلي. وتشير إلى أن أكبر سلبية في استخدام هذه الأدوات تكمن في "عدم المعرفة"، إذ إن الجهل بكيفية عملها يجعل المستخدم عرضةً للتضليل أو الخطأ المهني. 


في المحصلة، يبدو أن دخول الذكاء الاصطناعي إلى صناعة الإعلام والصحافة في المشهد اليمني لا يمثل رفاهية تقنية بقدر ما هو استجابة طبيعية لتحولات إعلامية عالمية عميقة. فهذه الأدوات، رغم حداثتها في البيئة المحلية، تتيح فرصة نادرة لتجاوز المعوقات البنيوية التي طالما أعاقت العمل الصحفي، من ضعف التمويل إلى غياب التدريب، ومن محدودية الوصول إلى المعلومات إلى القيود الاجتماعية والسياسية.


غير أن نجاح هذه التجارب مرهون بقدرة المؤسسات الإعلامية على ترسيخ ممارسات مهنية تحافظ على صدقية المحتوى وتمنع الانزلاق نحو التزييف أو الانحياز الخوارزمي.


ريم الفضلي
صحفية بمركز سوث24 للأخبار والدراسات

شارك
اشترك في القائمة البريدية
الأكثر قراءة

اقرأ أيضا