المعهد الذي أسسته فاطمة في تعز (صورة أرشيفية)
آخر تحديث في: 16-10-2025 الساعة 6 مساءً بتوقيت عدن
"في عمق الريف، حيث تتقاطع آثار الحرب مع الفقر والعزلة، برزت نماذج نسائية كسرت حواجز العادات والتقاليد، لتقود مبادرات تنموية ومجتمعية.."
مركز سوث24 | خديجة الجسري
في كل قرية يمنية نائية، ثمة امرأة تنهض قبل الفجر لتروي أرضها، أو تفتح فصلًا لتعليم بنات جيرانها القراءة. قد لا يعرف العالم أسماءهن، لكن قصصهن تصنع فرقًا حقيقيًا في مجتمعات أنهكتها الحرب والحرمان.
في اليوم العالمي للمرأة الريفية، الذي يصادف الخامس عشر من أكتوبر من كل عام، يسلّط الضوء على هذه الفئة التي تشكل العمود الفقري للتنمية الزراعية والمجتمعية في اليمن، رغم أنها غالبًا ما تبقى خارج دائرة الاهتمام الرسمي والمؤسسي.
فرغم قسوة الظروف الاقتصادية والاجتماعية، برزت في الريف اليمني خلال السنوات الأخيرة مبادرات نسائية استطاعت أن تتجاوز حدود التقاليد، وتفتح مسارات جديدة للتعليم والزراعة والبنية التحتية والخدمات. وأثبتت نساء القرى أن التنمية يمكن أن تبدأ من الحقول الترابية ومن الفصول المؤقتة، إذا وُجدت الإرادة والعزيمة.
يستعرض هذا التقرير نماذج من هذه المبادرات، ويناقش التحديات التي تواجه المرأة الريفية وسبل تحقيق الدعم والاستدامة.
مبادرات التغيير
في عمق الريف، حيث تتقاطع آثار الحرب مع الفقر والعزلة، برزت نماذج نسائية كسرت حواجز العادات والتقاليد، لتقود مبادرات تنموية ومجتمعية أعادت الأمل إلى القرى التي أنهكتها الأزمات.
من مديرية قعطبة بمحافظة الضالع، قادت نوال صالح منذ عام 2018 مبادرةً لمحو الأمية في قرية الجبوب. بدأت باستدعاء فتيات يجِدن القراءة والكتابة لفتح فصول جديدة في القرى المجاورة مقابل مبلغ رمزي من المستفيدات.
قالت نوال لمركز سوث24 إن الفصول ما تزال مستمرة حتى اليوم، وقد بلغ عدد المستفيدات 576 امرأة أصبحن قادرات على القراءة والكتابة وقراءة القرآن الكريم.
هذه المبادرة، التي انطلقت من غرفة صغيرة في منزل ريفي، تحولت مع مرور الوقت إلى نموذج حيّ لإرادة التغيير، ورسخت في المجتمع قناعة بأن التعليم هو الخطوة الأولى نحو التحرر من الفقر والتبعية.
نساء ريفيات مستفيدات من البرنامج التعليمي الذي أطلقته نوال (صورة أرشيفية)
وفي منطقة الميوح بمديرية خنفر في ريف أبين، خاضت أسرار حيدرة تجربة استثنائية في العمل المجتمعي، بداية من قيادتها جمعية مستخدمي مياه الري في المنطقة ذاتها، مرورًا بمبادرات لتحسين الوضع الزراعي.
منذ سنوات، أطلقت أسرار سلسلة من المبادرات لخدمة منطقتها، كان أبرزها إزالة أشجار السيسبان التي كانت تعيق جريان السيول في قنوات الري، بالتعاون مع منظمة الفاو التي دعمت تشغيل 200 شاب وامرأة ضمن برنامج "النقد مقابل العمل".
مبادرة إزالة أشجار السيسبان التي أطلقتها أسرار (صورة أرشيفية)
إلى جانب هذه المبادرات التنموية، عملت أسرار كمنسقة للنازحين، وساهمت في توفير أرض لبناء مخيم يستوعب 60 أسرة نازحة من مناطق الحرب في محافظة الحديدة، كما تابعت احتياجاتهم من الغذاء والمياه والطاقة الشمسية.
وأطلقت أسرار بدعم من المنظمات فصولًا لمحو الأمية ودوراتٍ في الخياطة للنساء النازحات، لتمنحهن مصدر دخل وفرصة للاندماج في المجتمع المحلي. هذه الجهود، كما تقول، لم تكن سهلة وسط بيئة فقيرة ومحافظة، لكنها نجحت في “تحريك المياه الراكدة” وبناء جسور من الثقة بين الأهالي والمؤسسات الداعمة.
أما في ريف محافظة لحج، فقد برزت بسمة علي كمثال آخر على المبادرات النسوية الريفية التي استهدفت البنية التحتية. فقد بادرت في يوليو 2024 بتبني حملة لرصف طريق العقبة المؤدية إلى قرية الهجيمة بمنطقة القبيطة، بعد أن كانت شبه مقطوعة خلال موسم الأمطار.
وشاركت بسمة في ترميم مدرسة عباس التي تخدم عددًا من القرى في ذات المنطقة. كما أسهمت في حملة لشرق طريق محلية سهلت انتقال مئات من طلاب المدارس في قرى محلية بذات المنطقة.
مدرسة عباس الريفية التي أسهمت بسمة في إعادة ترميمها (صورة أرشيفية)
ومن ريف تعز، أظهرت الشابة الريفية فاطمة الحريبي نموذجًا مختلفًا لتمكين النساء من خلال التعليم والتقنية. فقد أسست في 2018 معهدًا لتعليم فتيات الريف الحاسوب والتدريب المهني، ضمن سعيها لفتح آفاق جديدة أمام الجيل الشاب من الفتيات اللاتي حُرمن من التعليم الجامعي أو فرص العمل.
المعهد الذي أسسته فاطمة في تعز (صورة أرشيفية)
وإلى جانب ذلك، أطلقت في 2023 مبادرة للحدائق المنزلية تهدف إلى دعم النساء زراعيًا واقتصاديًا، عبر تدريبهن على زراعة الخضروات في أفنية المنازل.
هذه المبادرات النسوية، تكشف كيف استطاعت المرأة الريفية اليمنية أن تخلق مساحات للتنمية في غياب الدولة، وأن تُعيد تعريف دورها في المجتمع من متلقية للمساعدة إلى صانعة للحلول. لكن ماهي التحديات والقيود التي اعترضت طريقهن؟
التحديات والقيود
لم تكن الطريق أمام المبادرات النسوية الريفية مفروشة بالورود. فبيئة الريف اليمني، المثقلة بالفقر وندرة الموارد ووطأة التقاليد، جعلت من العمل المجتمعي النسوي تحديًا يوميًا يتطلب شجاعة وصبرًا.
قالت أسرار حيدرة من أبين إن مبادراتها واجهت “اعتراض بعض الأهالي أثناء اختيار العمالة المحدودة في مشروع النقد مقابل العمل، ورفض مشاركة النساء في الأعمال المشتركة.” وأوضحت أنها تجاوزت هذا الحاجز بتنظيم العمل على فترتين: “للرجال صباحًا وللنساء عصرًا”، مشيرة إلى أن هذا الترتيب “حقق تقبّلًا اجتماعيًا تدريجيًا.”
نساء ريفيات ورجال ضمن مشروع النقد مقابل العمل الذي أشرفت عليه أسرار في منطقتها بأبين (صورة أرشيفية)
وأضافت بثقة: “كوني امرأة على رأس جمعية مستخدمي مياه الري أثار محاولات لإفشال عملي، لكنني أصريت على تطبيق النظام والقانون.”
زائدة البكري، مدير دائرة المرأة في وزارة الشؤون الاجتماعية، قالت لمركز سوث24، إن “المبادرات النسوية الريفية رغم نجاحها تواجه ضعف التمويل والدعم المستدام ونقص التدريب المهني والفني، ما أثر على جودة الإنتاج واستمرارية المشاريع.”
وتضيف أن ضعف الوعي بأهمية المبادرات النسوية في بعض المناطق الريفية “يقلل من المشاركة الفاعلة، خصوصًا في ظل صعوبة الوصول إلى القرى النائية وغياب الخدمات.”
وترى أن “غياب التنسيق بين الجهات الداعمة والمؤسسات المحلية يؤدي إلى تكرار الجهود وضعف الأثر الفعلي في الميدان.” هذه التحديات، برأيها، تكشف أن نجاح تلك المبادرات “لم يكن نتيجة وفرة الموارد، بل ثمرة إصرارٍ يوميٍّ ووعيٍ مجتمعيٍّ يتنامى رغم القيود.”
الأثر الاجتماعي
على الرغم من الصعوبات، برز أثر هذه المبادرات في تحسين التعليم والزراعة والبنية التحتية، وتعزيز روح التعاون والمسؤولية المجتمعية.
وحول هذا، قال الباحث الاجتماعي د. صلاح الحقب، إن "المبادرات المجتمعية، خصوصًا التعاونيات في الزراعة والمياه والطرقات، امتداد لتاريخ طويل من العمل الجماعي الذي شيّد المدرجات الجبلية والسدود، وساهم في توسيع الرقعة الزراعية وتحسين الإنتاج.”
مضيفًا لمركز سوث24: "هذه الروح الريفية العنيدة والمبادرة، التي تتصدرها المرأة، هي مفتاح استدامة التنمية وسبيل تعزيز الصمود في وجه الأزمات.”
من جانبها، لفتت بشرى السعدي، رئيسة مؤسسة معًا نرتقي لرعاية المرأة والطفل في أبين، إلى إن “المبادرات النسوية المجتمعية أحدثت آثارًا ملموسة في حياة الناس، إذ لم تقتصر على تقديم خدمات مؤقتة، بل زرعت روح التعاون والمسؤولية المستدامة.”
نساء ريفيات ورجال ضمن مشروع النقد مقابل العمل الذي أشرفت عليه أسرار في منطقتها بأبين (صورة أرشيفية)
وأضافت: “رأيت نساء بدأن مشروعات صغيرة بعد تدريب بسيط، وشبابًا أصبحوا عناصر فاعلة في مجتمعاتهم. هذا هو التمكين الحقيقي الذي يخلق تغييرًا يمتد من الفرد إلى الأسرة ثم إلى المجتمع.”
وترى السعدي أن هذه المشاريع “قوّت العلاقات الاجتماعية وخففت حدة الصراعات، وخلقت مساحات آمنة للحوار بين الأهالي والسلطات المحلية ومنظمات المجتمع المدني.”
وترى زائدة البكري، أن “المبادرات أسهمت في تمكين النساء ورفع الوعي المجتمعي بدورهن كشريكات في البناء، وعززت الثقة بالنفس لدى المشاركات وشجعتهن على الاستمرار في العطاء.”
الحاجة إلى الدعم والاستدامة
تجمع الأصوات من الميدان والمؤسسات على أن استدامة هذه المبادرات مرهونة بدعم متكامل لا يقتصر على التمويل.
تقول زائدة البكري: “النساء في الريف ما زلن بحاجة إلى دعم مالي وفني ومعنوي لضمان استمرارية المبادرات وتوسيع أثرها. فالدعم يجب أن يشمل التدريب وبناء القدرات وتوفير الأدوات لتحسين جودة المخرجات.”
وتؤكد أن وزارة الشؤون الاجتماعية “تعمل على تقديم الإشراف الفني والتنسيق مع الجهات المانحة، وتسهيل الإجراءات بما يعزز الشراكة المجتمعية.”
أما بشرى السعدي، فتصف الدعم بأنه “ضرورة للاستقرار وليس ترفًا.”
وتقول: “رغم ما تمتلكه المناطق الريفية وفي مقدمتها أبين من طاقات بشرية، إلا أنها تعاني من ضعف الخدمات وغياب فرص العمل، ومع كل توقف للتمويل تتراجع ثقة الناس بأنفسهم ويعود الإحباط.”
وتكشف قصص نوال وأسرار وبسمة وفاطمة، وغيرهن من النساء الريفيات في اليمن، أن التغيير لا يحتاج إلى موارد ضخمة بقدر ما يحتاج إلى إصرار ورؤية. فحين تغيب الدولة وتضعف المؤسسات، تصبح الإرادة الفردية والمبادرات المجتمعية هي البذرة الأولى للتنمية، والمرأة الريفية هي أكثر من أثبت قدرتها على جعل تلك البذرة تنمو رغم القحط والتهميش.
ومع اليوم العالمي لها، تظل المرأة الريفية في اليمن حجر الزاوية لأي عملية تنمية وتطوير نظرًا لأدوارها الواسعة والأساسية في المجتمع. ويظل تسليط الضوء على هذه النماذج الملهمة خطوة مهمة لتعميم الصمود والأمل.
قبل 3 أشهر