التقارير الخاصة

المرتبات المتعثرة تضع الحكومة اليمنية أمام اختبار مالي صعب

رئيس الوزراء اليمني سالم بن بريك (رسمي)

آخر تحديث في: 13-10-2025 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن

"المنحة السعودية الجديدة مخصصة لدعم موازنة الدولة والنفقات التشغيلية ودعم المشتقات النفطية. وتأخر وصولها قد يدفع الحكومة إلى مواصلة الاقتراض الداخلي لتغطية الرواتب."

مركز سوث24| عبد الله الشادلي 


تكشف أزمة تأخر صرف رواتب موظفي الدولة في اليمن، التي امتدت لأربعة أشهر، عن هشاشة الوضع المالي للحكومة المعترف بها دولياً في ظل انكماش اقتصادي حاد وتراجع غير مسبوق في الإيرادات العامة.


ورغم إعلان الحكومة في التاسع من أكتوبر الراهن بدء صرف المرتبات المتأخرة، فإن القرار لا يعكس انفراجاً مالياً بقدر ما يشير – وفق مراقبين- إلى ضغوط اقتصادية واجتماعية متصاعدة دفعتها إلى معالجة مؤقتة للأزمة.


وتأتي هذه التطورات في وقت تتفاقم فيه الصعوبات المعيشية للمدنيين والعسكريين والمتقاعدين، وسط ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتراجع القوة الشرائية. وترتبط المعضلة الاقتصادية للحكومة بشكل رئيسي كما يقول مسؤولوها بتوقف صادرات النفط منذ أكتوبر 2022 نتيجة الهجمات الحوثية على موانئ التصدير في حضرموت وشبوة.


وتشير المعطيات الراهنة إلى أن أزمة الرواتب تمثل اختباراً حقيقياً لقدرة الحكومة والبنك المركزي اليمني على إدارة الموارد المحلية وتأمين النفقات الأساسية دون اللجوء إلى أدوات تضخمية أو دعم خارجي طارئ. 


وهو ما يطرح تساؤلات حول انتظام صرف المرتبات التي فقدت 800% من قيمتها منذ 2015، قبل أن تتحسن هذه القيمة نسبيًا منذ أواخر يوليو الماضي مع استعادة الريال اليمني نظريًا نحو 30% من قيمته.


الأسباب البنيوية للأزمة


قال المستشار الاقتصادي في مكتب رئاسة الجمهورية اليمنية، فارس النجار، إن تأخر صرف الرواتب يعود بالدرجة الأولى إلى "هبوط حاد في الإيرادات العامة نتيجة توقف صادرات النفط منذ أكتوبر 2022 إثر الهجمات الحوثية على الموانئ النفطية، إضافة إلى تسرب جزء كبير من الإيرادات خارج الخزينة العامة وضعف كفاءة التحصيل المالي في مؤسسات الدولة".


وأوضح النجار في حديثه لمركز سوث24 أن "المالية العامة تواجه أزمة سيولة خانقة، بعدما كانت صادرات النفط تغطي بند الأجور والمرتبات بصورة شبه كاملة قبل توقفها، إذ يعتمد الاقتصاد اليمني على هذا المورد بنسبة تصل إلى 70% من الإيرادات العامة، ويمثل ما يقارب 90% من حصيلة الصادرات".


وأشار إلى أن "تعدد مراكز القوى واستمرار الانقسام المالي والمصرفي بين مناطق سيطرة الحكومة والحوثيين فاقم المشكلة، وأضعف قدرة الحكومة على إدارة الإيرادات ضمن خزانة موحدة".


وأضاف النجار أن "السياسات النقدية الجديدة التي انتهجها البنك المركزي في العام 2022، ولا سيما بعد تولي أحمد المعبقي رئاسته، أسهمت في وقف تمويل عجز الموازنة عبر الإصدارات النقدية الجديدة، ما جعل صرف الأجور والمرتبات يتم دون اللجوء إلى أدوات تضخمية".


وتابع قائلاً: "رغم أن ذلك أدى مؤخراً إلى تأخر صرف الرواتب لأربعة أشهر، إلا أنه في المقابل حافظ على استقرار سعر الصرف ومنع حدوث توسع تضخمي كان من شأنه أن يقوّض أي إصلاحات اقتصادية جارية، وأسهم في تحسن سعر صرف العملة الوطنية".


أستاذ الاقتصاد بجامعة حضرموت د. محمد الكسادي، يرى أيضًا أن جذور الأزمة "تعود بالدرجة الأولى إلى غياب الموازنة العامة وانعدام الإيرادات الحكومية المنتظمة".


وأضاف أن "الدولة خلال الفترة الماضية اعتمدت بشكل رئيسي على عائدات محدودة من صادرات النفط، إلى جانب المنح والودائع الخارجية والدعم الدولي، دون وجود موارد محلية كافية لتغطية النفقات التشغيلية والثابتة المتكررة، وفي مقدمتها الرواتب".


انفراجة مؤقتة


في التاسع من أكتوبر، أعلنت الحكومة اليمنية بدء صرف المرتبات المتأخرة لموظفي الدولة في القطاعين المدني والعسكري، وفق خطة مالية وإدارية شاملة تُنفَّذ بإشراف مباشر من رئيس الوزراء سالم بن بريك، وبالتنسيق مع وزارة المالية والبنك المركزي اليمني والقطاع المصرفي المحلي.


وحول هذا، قال فارس النجار إن ما يجري من إجراءات حكومية لا يعد "معالجة جذرية للأزمة، بل استجابة آنية مبنية على ثلاثة مصادر رئيسية: الموارد المحلية المتاحة في البنك المركزي، والدعم الخارجي المنتظر من الأشقاء في السعودية، إضافة إلى الاقتراض من البنوك التجارية لتغطية الفجوة مؤقتاً حتى وصول المنحة السعودية".


وأوضح النجار أن "فاتورة الأجور والمرتبات بلغت نحو 998 مليار ريال خلال عام 2024، بمتوسط شهري يقارب 83 مليار ريال"، مشيراً إلى أن المنحة السعودية السابقة "غطت ما نسبته 70% من عجز الموازنة خلال العام الماضي، وهو ما ساهم في انتظام الصرف مؤقتاً".


وفي 20 سبتمبر الماضي، أعلنت المملكة العربية السعودية تقديم حزمة دعم اقتصادي وتنموي جديدة للحكومة اليمنية عبر البرنامج السعودي للتنمية والإعمار، بقيمة تقدّر بنحو 1.38 مليار ريال سعودي (368 مليون دولار).


ويمثل هذا الدعم امتداداً للمنح السابقة التي ساهمت في تمويل عجز الموازنة ودعم النفقات التشغيلية. 


وقال فارس النجار إن المنحة السعودية الجديدة "مخصصة لدعم موازنة الدولة والنفقات التشغيلية لمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن، ودعم المشتقات النفطية"، موضحاً أن تأخر وصولها "قد يدفع الحكومة إلى مواصلة الاقتراض الداخلي لتغطية الرواتب على أن يتم تسوية هذه القروض لاحقاً بعد استلام المنحة".


واعتبر د. محمد الكسادي أن عملية الصرف الحالية "ليست معالجة جذرية للأزمة بقدر ما هي استجابة لضغوط اقتصادية واجتماعية متصاعدة"، محذراً من أن "انفجار الأوضاع المعيشية كان وشيكاً لو استمر التأخير أكثر من ذلك".


وأشار الكسادي إلى أن الموارد المستخدمة في الصرف جاءت من الدعم السعودي البالغ نحو 308 ملايين دولار عبر البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، مؤكداً أن هذا الدعم "ساهم في احتواء الأزمة مؤقتاً وليس كتمويل مستدام".


الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية


تسببت أزمة تأخر صرف المرتبات في تفاقم الأوضاع المعيشية لمئات الآلاف من الموظفين والعسكريين والمتقاعدين في اليمن، وبالأخص في محافظات الجنوب، حيث انعكس غياب الدخل المنتظم على القدرة الشرائية والاستقرار الاجتماعي في مختلف المحافظات.


وأبدى رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال الجنوب، سامي خيران، تشاؤمه حيال الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للموظفين. وقال لمركز سوث24: "لا نرى أي انفراجة حقيقية في أوضاع العمال والموظفين المعيشية، فهم يمرون بمرحلة بالغة السوء ومن سيئ إلى أسوأ."


وأضاف أن "تراكم الهيئات والمؤسسات وعمليات التوظيف المتكررة أرهقت ميزانية الدولة وخلقت أعباء لا تستطيع الحكومة تحملها، بل إن كثيراً من هذه المنظومات صيغت لتقوية الفساد وأذرعه داخل شرايين الدولة".


وتزداد التحذيرات من أن الأزمة المالية التي أدت إلى تأخر صرف المرتبات لن تتوقف عند حدود العجز المؤقت، بل ترتبط ببنية الاقتصاد اليمني المعتمدة على مصادر غير مستقرة من الإيرادات.


المستشار فارس النجار يرى أن السيناريوهات المحتملة أمام الحكومة تتراوح بين مسارين رئيسيين:


"الأول هو الاستدامة في صرف المرتبات شهرياً، وهذا مرتبط باستمرار الدعم الخارجي أو عودة صادرات النفط أو تحسين كفاءة تحصيل الإيرادات المحلية، إلى جانب تحرير الدولار الجمركي، ومحاربة الفساد، وتفعيل دور الأجهزة الرقابية كالجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة لتقليص حدة الفساد وتنمية الإيرادات."


وأضاف أن "السيناريو الآخر هو التعثر، وسينتج عن توقف الدعم الخارجي أو فشل الحكومة في استعادة تصدير النفط وتأمين الموانئ".


وأكد النجار أن "استمرار الإصلاحات الاقتصادية وضبط الإيرادات وتوحيد الخزينة سيعزز الثقة الدولية بالحكومة، ما يفتح الباب أمام دعم مستدام. أما بقاء الإيرادات خارج الأطر الرسمية فسيبقي الوضع المالي هشاً وغير قابل للاستقرار".


وأشار إلى أن "صرف المرتبات لا يعني بالضرورة انهيار سعر العملة الوطنية، فالتحسن الأخير في قيمة الريال اليمني يعود إلى إصلاحات نقدية حقيقية نفذها البنك المركزي، شملت ضبط المضاربة وتنظيم سوق الصرف وتمويل الاستيراد عبر القنوات الرسمية".


وتابع: "تمويل الرواتب يتم من الموارد المحلية ومنحة الأشقاء والاقتراض الداخلي من البنوك، وليس عبر أدوات تضخمية أو طباعة نقد جديدة، كما أن وجود اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات يضمن تلبية الطلب على النقد الأجنبي بالسعر الرسمي، ويمنع المضاربين من استغلال الوضع أو خلق موجات سعرية وهمية".


وبينما تسعى الحكومة من خلال الدعم الخارجي والسياسات النقدية المحافظة إلى تجنّب الانهيار الكامل، يظل الموظفون والعسكريون والمتقاعدون في مواجهة ضغوط معيشية قاسية لا تترك مجالاً واسعاً للتفاؤل.


ويمكن القول إن انتظام صرف المرتبات هو اختبار لجدية الحكومة في تنفيذ إصلاحات هيكلية حقيقية تشمل توحيد الخزينة العامة، وتحسين إدارة الإيرادات، ومحاربة الفساد، ومواءمة السياسات النقدية والمالية.


وفي ظل غياب هذه الإصلاحات، تبقى أي خطوات مالية آنية مجرد حلول إسعافية قصيرة الأجل، تعيد إنتاج الأزمة بدلاً من معالجتها. كما أن تعافي الريال اليمني نسبيًا خلال الأشهر الماضية قد يكون محل شك أكبر اليوم. 


صحفي ومحرر لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا