التقارير الخاصة

من القرن الإفريقي إلى شبوة: تدفقات بشرية تفوق قدرات المحافظة

مهاجرون أفارقة في مدينة عتق بمحافظة شبوة، سبتمبر 2024 (مركز سوث24)

آخر تحديث في: 14-08-2025 الساعة 8 مساءً بتوقيت عدن

"تجد محافظة شبوة نفسها عالقة في قلب أزمة عابرة للحدود، تتداخل فيها الجوانب الإنسانية مع الأبعاد الأمنية والاجتماعية والخدمية. وتقول السلطات إنها تعمل وحيدة بدون أي دعم.."

مركز سوث24 | عبد الله الشادلي


في السنوات الأخيرة، تصاعدت وتيرة الهجرة غير الشرعية عبر جنوب اليمن، لتتجه الأنظار نحو محافظة شبوة الساحلية التي باتت، وبشكل متسارع، محطة عبور رئيسية على "الطريق الشرقي" للهجرة من دول القرن الإفريقي نحو الخليج. يمتد هذا الطريق عبر مساحات شاسعة من السواحل المفتوحة، ويصنّف من قبل المنظمة الدولية للهجرة كأحد أخطر مسارات الهجرة في العالم، نظرًا لما يحمله من مخاطر الغرق والموت جوعًا أو عطشًا في عرض البحر.


وقد شهدت المنطقة سلسلة من المآسي المروعة، أبرزها حادثة غرق قارب مكتظ بالمهاجرين قبالة سواحل أبين، والتي أودت بحياة العشرات، وتلتها حادثة وصول قارب إلى سواحل شبوة وعلى متنه مهاجرون قضى بعضهم في البحر بعد أيام من الانجراف. 


هذه الكوارث المتكررة تعكس واقعًا مأساويًا تواجهه المحافظتان، لكن شبوة على وجه الخصوص تجد نفسها في قلب الأزمة، متصديةً لها بإمكانيات محلية محدودة ودون أي دعم دولي أو إقليمي مخصص.


ويرى مسؤولون محليون وخبراء أن الموقع الجغرافي الفريد لشبوة، القريب من القرن الإفريقي والمطل على شريط ساحلي بين عن 220–300 كيلومترًا، ومعظمه مناطق غير مأهولة، جعلها هدفًا مفضلًا لشبكات التهريب، في ظل ضعف الرقابة البحرية. ووسط هذا المشهد، تتداخل التداعيات الإنسانية مع مخاطر أمنية واجتماعية وخدمية متنامية، مهددة بتحويل جنوب اليمن إلى بؤرة دائمة لتهريب البشر ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة.



خريطة تُظهر مسارات الهجرة غير النظامية إلى اليمن من القرن الإفريقي، تحديدًا من جيبوتي والصومال، مع توضيح المدن والموانئ الرئيسية على جانبي المسار، (الإنسانيّة الجديدة - منظمة الهجرة الدولية)


الحوادث الأخيرة على خط الهجرة


في 3 أغسطس، هزّت محافظة أبين المجاورة لشبوة مأساة إنسانية جديدة عندما غرق قارب مكتظ بالمهاجرين غير الشرعيين قبالة سواحلها. كانت التقارير الأولية تشير إلى عشرات الضحايا، لكن الأرقام أخذت في الارتفاع مع تواصل عمليات البحث. وبحسب مصادر أمنية لوكالة "رويترز"، ارتفع عدد القتلى إلى 86 شخصًا، قبل أن يعلن مدير مكتب الصحة في أبين لاحقًا أن الحصيلة بلغت 92 قتيلًا، فيما لا يزال العشرات في عداد المفقودين.


جاءت هذه الكارثة وسط حملة عسكرية وأمنية واسعة النطاق، تنفذها شرطة محافظة أبين استهدفت معسكرات وأوكار مهربي المهاجرين في المناطق الساحلية، خاصة في مديريتي شقرة وأحور، في محاولة للحد من نشاط هذه الشبكات.


وبينما كانت الأنظار متجهة إلى مأساة أبين، شهدت شبوة حادثة منفصلة في 5 أغسطس، حين أعلنت المنظمة الدولية للهجرة عن وصول قارب يقل 250 مهاجرًا إثيوبيًا إلى سواحل عرقة بمديرية رضوم. إلا أن الرحلة كانت مأساوية هي الأخرى؛ فقد قضى سبعة من الركاب جوعًا وعطشًا بعد تعطل محرك القارب في عرض البحر. روى الناجون أنهم قضوا أسبوعًا كاملًا وسط المياه، يعتمدون على الرياح والتجديف البدائي للوصول إلى اليابسة.


وفي حادثة مأساوية أخرى سابقة في يونيو 2024، لقي ما لا يقل عن 49 من المهاجرين الأفارقة حتفهم، فيما فُقد نحو 140 آخرين، بعد انقلاب قارب كان يقل 260 مهاجرًا قبالة سواحل شبوة. وبحسب مكتب الصحة في شبوة، تم انتشال 45 جثة في الساعات الأولى، بينهم 27 امرأة، فيما أُنقذ أربعة أشخاص بحالة حرجة. وشارك خفر السواحل التابع للحكومة المعترف بها دوليًا، إلى جانب فرق من المنظمة الدولية للهجرة، في عمليات البحث والإنقاذ التي رجّحت ارتفاع عدد الضحايا. 


شبوة كمحطة عبور رئيسية


تؤكد المعطيات الميدانية أن محافظة شبوة لم تعد مجرد نقطة وصول عرضية للمهاجرين غير الشرعيين، بل تحولت إلى بوابة عبور رئيسية نحو محافظات أخرى أو إلى دول الخليج، لا سيما المملكة العربية السعودية.


في تصريح لمركز سوث24، أشار  العميد فؤاد النسي، مدير أمن محافظة شبوة، إلى أن الشريط الساحلي للمحافظة يمتد لنحو 300 كيلومتر، وهو ما يسمح للمهاجرين بالوصول عبره بسهولة من سواحل دول القرن الإفريقي. ويضيف أن "ضعف الإمكانيات المتاحة أسهم في تقليص قدرات الرقابة على السواحل، ما سهّل عمليات الدخول غير القانوني".


وفي هذا الصدد، قال د. شيخ بانافع، مدير مكتب محافظ شبوة، لمركز سوث24 إن هناك عدة أسباب تجعل من المحافظة وجهة مفضلة لشبكات التهريب، أبرزها "القرب الجغرافي من القرن الإفريقي، وطبيعتها الساحلية المفتوحة، معظمها مناطق غير مأهولة، ما يسهل على قوارب التهريب الوصول إلى شواطئها دون رقابة".



صورة التقطت عام 2007 لمهاجر إثيوبي قام بالرحلة إلى اليمن عدة مرات (سي إن إن)


يتفق مع هذا الطرح الصحفي فريد باراس، الذي يرى أن شبوة "تمثل بوابة عبور نحو محافظات أخرى أو باتجاه دول الخليج، خاصة السعودية". ويشير إلى أن ضعف الرقابة على بعض المنافذ الحدودية والساحلية يجعلها عرضة لهذه التدفقات البشرية.


وتؤكد البيانات الرسمية التي حصل عليها مركز سوث24 حجم الظاهرة؛ فمنذ بداية عام 2025 وحتى نهاية يوليو، وصل إلى شبوة نحو 8208 مهاجرين أفارقة، بينهم 6719 مهاجرًا إثيوبيًا و1489 مهاجرًا صوماليًا.




هذه الأرقام تضع المحافظة في قلب "الطريق الشرقي" للهجرة، الذي تصفه المنظمة الدولية للهجرة بأنه أحد أخطر المسارات في العالم، وقد شهد وفاة أو اختفاء أكثر من 350 مهاجرًا منذ مطلع العام. وفي تصريح حديث، حذر رئيس بعثة المنظمة في اليمن عبدالستار عيسويف من أن "المآسي ستستمر مع سلوك المهاجرين طرقًا بحرية أكثر خطورة".


معاناة إنسانية


رغم أن المخاطر التي يتعرض لها المهاجرون الأفارقة في شبوة تبدأ من لحظة ركوبهم قوارب التهريب عبر بحر العرب، إلا أن معاناتهم لا تتوقف عند الشواطئ. ففي سبتمبر 2024، شهدت المحافظة حادثة بارزة حين نفذت قوات الأمن عملية مشتركة حررت خلالها 30 مهاجرًا إثيوبيًا من قبضة عصابة تنتمي إلى نفس جنسيتهم، بعد أن احتجزتهم في منزل قرب مفرق الصعيد بمدينة عتق.


وبحسب بيان مكتب إعلام محافظة شبوة، فإن العصابة المكوّنة من أربعة مهاجرين غير نظاميين كانت تستهدف مواطنين إثيوبيين آخرين، مطالبة بفدية وصلت إلى 3,000 ريال سعودي (نحو 800 دولار) للفرد، مع ممارسة التعذيب بحق الضحايا خلال فترة احتجازهم.


هذه الحادثة لم تكن معزولة عن سياق أوسع، إذ وثّق فيلم قصير نشره مركز سوث24 قبل أسابيع من الواقعة معاناة المهاجرين الأفارقة في شبوة، مسلطًا الضوء على عمليات اتجار بالبشر نفذها مهاجرون أفارقة ورجال محليون، استهدفت خصوصًا النساء والفتيات من الجنسية الإثيوبية. ورغم أن المركز لم يتمكن من التحقق المستقل من جميع الشهادات، فإنه دعا السلطات الأمنية إلى التحقيق ومواجهة هذه الممارسات.



وتكشف هذه الوقائع أن شبوة، إلى جانب كونها نقطة عبور رئيسية على طريق الهجرة غير النظامية نحو السعودية ودول الخليج، باتت أيضًا مسرحًا لشبكات الاستغلال الإجرامي التي تضاعف المخاطر الإنسانية للمهاجرين، في ظل غياب الحماية الفعالة من قبل السلطات المحلية والمنظمات الدولية.


التحديات ونقص الدعم


رغم خطورة الموقف وحجم التدفقات البشرية نحو شبوة، يؤكد المسؤولون المحليون أن المحافظة لا تتلقى أي دعم دولي أو إقليمي مخصص لمواجهة هذه الظاهرة، وتعتمد فقط على إمكانياتها المحدودة.


يوضح العميد فؤاد النسي، مدير أمن محافظة شبوة، أن الأجهزة الأمنية لا تحصل على أي دعم لمواجهة الهجرة غير الشرعية، مشددًا على أن الحد من الظاهرة يتطلب "تزويد المحافظة بتقنيات حديثة لرصد الحدود، وتعزيز قدرات خفر السواحل للرقابة وتأمين الشريط الساحلي، إلى جانب تنفيذ حملات توعية مجتمعية مستمرة بمخاطر الهجرة غير الشرعية".



نقطة عسكرية لقوات دفاع شبوة، 1 فبراير 2023 (مركز سوث24)


ويضيف د. شيخ بانافع أن السلطة المحلية "لا تمتلك حتى اللحظة أي برامج دعم دولية أو إقليمية مخصصة لهذا الملف، وتعتمد فقط على إمكانياتها المحدودة". ويؤكد أن "حجم التدفق البشري يفوق كثيرًا القدرات المتاحة".


ويشير بانافع إلى أن من أبرز التحديات "غياب دور قوات خفر السواحل نتيجة التدمير الذي طال البنية الأمنية الساحلية، ما جعل الشريط الساحلي مكشوفًا بالكامل". ويضيف إلى ذلك "نقص الإمكانيات المالية واللوجستية، وضعف التنسيق المؤسسي بين الجهات المعنية أحيانًا".


وحول هذا يقول الصحفي فريد باراس: "حتى الآن، لا أعتقد أن شبوة تتلقى الدعم الكافي الذي يمكّنها من التصدي للهجرة غير الشرعية بالشكل المطلوب".


أما الخبير الاجتماعي ناصر لشرم، فيشدد لمركز سوث24 على أن الحل لا يقتصر على الجانب الأمني، بل يتطلب "مزيدًا من الدعم المالي والتقني من الحكومة المركزية والمجتمع الدولي، بالإضافة إلى برامج لخلق فرص عمل مستدامة للمواطنين".


التداعيات على الأمن والمجتمع


لا تقتصر أزمة الهجرة غير الشرعية في شبوة على المآسي الإنسانية في البحر، بل تمتد لتلقي بظلالها الثقيلة على المجتمع المحلي، محدثة آثارًا أمنية واجتماعية وخدمية متراكمة.


يشير د.شيخ بانافع إلى أن تدفق المهاجرين ارتبط بارتفاع معدلات السرقات، والشجارات، وجرائم العنف، خصوصًا في الأحياء التي تشهد كثافة من المهاجرين.



مهرب البشر أحمد العولقي يقف في مقبرة صغيرة خارج عتق بشبوة حيث يدفن مهاجرين، 16 نوفمبر 2020. (سام تارلينغ/مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية)


مضيفًا أن مدنًا مثل عتق، عاصمة المحافظة، تعاني من ضغط سكاني متزايد يؤدي إلى احتكاكات بين السكان المحليين والمهاجرين. لافتًا إلى أن هذا الازدحام ينعكس على جودة الحياة، ويتسبب في "ارتفاع أسعار الإيجارات، نظرًا لزيادة الطلب".


إلى جانب ذلك، أشار بانافع أن المرافق الصحية تعاني من ضغط كبير جراء استقبالها حالات متعددة من المهاجرين، بعضها مصاب بأمراض جلدية أو تنفسية أو نفسية. كما أن الضغط على خدمات المياه والكهرباء في الأحياء المكتظة يخلق أزمات متكررة.


كما أكد العميد فؤاد النسي أن هذه الظاهرة أدت إلى تصاعد التوترات الأمنية وانتشار الظواهر الإجرامية، فضلًا عن زيادة الضغط على الخدمات الصحية وتدهور الأوضاع الاجتماعية.


وفي 1 أغسطس الراهن، شهدت مديرية عسيلان حادثة أثارت استياء الأهالي، حيث تعرض شاب محلي للطعن بقطعة زجاج على يد أربعة أشخاص من الجنسية الإثيوبية، قبل أن يفر المهاجمون ويتم القبض عليهم لاحقًا من قبل القوات الأمنية.



شبوة – 14 أغسطس 2025: السلطات المحلية توقف مجموعة مهاجرين إثيوبيين في عسيلان بعد طعنهم مواطنًا محليًا، والضحية يتلقى علاجًا لجروح في الجنب (إعلام محلي)


حلول مقترحة


تجد محافظة شبوة نفسها عالقة في قلب أزمة عابرة للحدود، تتداخل فيها الجوانب الإنسانية مع الأبعاد الأمنية والاجتماعية والخدمية. فمن جهة، تتعامل السلطات المحلية مع إنقاذ الضحايا وتقديم المساعدات العاجلة للناجين، ومن جهة أخرى تواجه تبعات أمنية واقتصادية متزايدة، وكل ذلك بإمكانيات شبه معدومة وغياب شبه كامل للدعم الدولي أو الإقليمي المخصص.


يرى الصحفي فريد باراس أن هذه المعضلة "لا يمكن القضاء عليها تمامًا في الظروف الحالية، لكن يمكن الحد من آثارها"، مشددًا على ضرورة أن يشمل التدخل حزمة متكاملة من الإجراءات الأمنية والتنموية.



فريق طبي متنقل من المنظمة الدولية للهجرة في شبوة يقدّم مساعدات عاجلة للمهاجرين على طرق الهجرة، (المنظمة الدولية للهجرة/ماجد محمد 2024)


ويتفق معه باقي المتحدثين في أن الوضع يتطلب تدخلًا عاجلًا، يتضمن:


• تعزيز القدرات الأمنية والرقابية عبر تزويد خفر السواحل والمنافذ الحدودية بالتقنيات والمعدات الحديثة.

• تنمية البنية التحتية الخدمية لمواجهة الضغط على المرافق الصحية والمياه والكهرباء.

• تنفيذ برامج توعية مجتمعية حول مخاطر الهجرة غير الشرعية.

• إطلاق مشاريع اقتصادية وتنموية توفر فرص عمل بديلة، تحد من استغلال السكان المحليين في شبكات التهريب.

• توسيع نطاق التعاون الدولي والإقليمي لتشمل الدعم المادي والفني والتدريب المتخصص.


وفي ظل استمرار المآسي على الطريق الشرقي للهجرة، يحذر الخبراء من أن تجاهل الأزمة قد يحول جنوب اليمن، وفي مقدمته شبوة، إلى بؤرة دائمة لتهريب البشر، ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة ومستدامة تنسق بين الأمن والتنمية وتضع حياة الإنسان في صدارة الأولويات.


صحفي ومحرر لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا