التقارير الخاصة

عملات الحوثيين الجديدة تهدد باستئناف التصعيد الاقتصادي بين عدن وصنعاء

مواطنون يتوافدون إلى فرع البنك المركزي الخاضع للحوثيين في ذمار بشمال اليمن، لاستبدال أوراق نقدية مهترئة بعملات جديدة وُصفت بأنها غير قانونية، 16 يوليو 2025 (فيديو أحمد حجر – اقتطاع بواسطة مركز سوث24)

آخر تحديث في: 24-07-2025 الساعة 11 مساءً بتوقيت عدن

"تداول العملات النقدية المزورة من قبل الحوثيين سيؤدي إلى اضطرابات خطيرة، إذ سيسعى المتعاملون بها، وخصوصاً رجال الأعمال، إلى التخلص منها بسرعة بتحويلها إلى عملات أجنبية.."

مركز سوث24 | عبد الله الشادلي


في منتصف يوليو الجاري، اتخذت جماعة الحوثيين اليمنية، المدعومة من إيران، خطوة نقدية وُصفت بأنها تصعيدية وخطيرة، تمثّلت في إصدار عملات جديدة شملت سك عملة معدنية من فئة 50 ريالًا، إلى جانب طباعة ورقة نقدية جديدة من فئة 200 ريال.


 هذه الخطوة، التي تأتي بعد أكثر من عام على سك الحوثيين عملة معدنية من فئة 100 ريال في أبريل 2024، أثارت موجة من الجدل على المستويين الاقتصادي والسياسي، خصوصًا أنها جاءت في سياق صراع مالي متصاعد بين الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا والحوثيين.


وفي حين يصف البنك المركزي الخاضع لجماعة الحوثيين في صنعاء الإجراء بأنه "ترميم للنظام النقدي" دون أي زيادة في الكتلة النقدية، ترى الحكومة اليمنية والسفارات الأجنبية فيه نسفاً مباشراً للتفاهمات الاقتصادية السابقة وتهديداً حقيقياً للاستقرار المالي الهش في البلاد.


ولا تنفصل هذه التطورات عن السياق العام للأزمة اليمنية، حيث يشهد البلد انقساماً نقدياً منذ عام 2019، عندما فرض الحوثيون حظراً على الطبعات النقدية الجديدة التي أصدرها البنك المركزي في عدن، ما أدى إلى ازدواجية في العملة الوطنية وخلق عملتين من الريال اليمني بقيمة مختلفة، وأدخل البلاد في دوامة تضخم وانكماش اقتصادي. 


واليوم، يبدو أن هذه الخطوة النقدية قد تكون بداية مرحلة جديدة من الصراع المالي، ليس فقط على مستوى إدارة السيولة، بل على صعيد تثبيت النفوذ الاقتصادي والسياسي لكل طرف.


خلفية الانقسام النقدي ودوافع الطباعة


أعاد إعلان الحوثيين عن إصدار عملات جديدة فتح ملف الانقسام النقدي في اليمن، وهو الملف الذي بدأ منذ أواخر عام 2019 عندما قررت الجماعة في صنعاء حظر تداول الطبعات الجديدة من العملة التي طبعها البنك المركزي في عدن. أدى ذلك القرار إلى انقسام العملة الوطنية فعليًا بين مناطق سيطرة الحوثيين ومناطق الحكومة المعترف بها دوليًا، وخلق بيئة مالية معقدة اتسمت بشح السيولة، خصوصًا في الشمال.


رغم أن هذا القرار ساهم في تثبيت سعر الريال اليمني في صنعاء عند حدود 530 ريالاً لكل دولار، مقابل انهيار الريال في مناطق الحكومة خلال السنوات اللاحقة ليصل إلى نحو 2900 ريال لكل دولار خلال يوليو الجاري، إلا أن الحكومة تؤكد أن هذا الاستقرار "لا يعكس الواقع المالي الحقيقي"، مشيرة إلى أن تثبيت السعر في مناطق الحوثيين يعود إلى إجراءات قسرية وتعطيل شبه كامل لحركة الاستيراد والتداول النقدي"، وليس نتيجة قوة اقتصادية أو استقرار في السوق.


ومع مرور الوقت، أصبحت مناطق الحوثيين تعاني نقصًا حادًا في العملة الورقية، ما أجبر السلطات هناك على الاعتماد على الأوراق النقدية المهترئة التي فقدت الكثير من مقومات التداول السليم.


وفي البيان يوم 15 يوليو، أعلن البنك المركزي التابع للحوثيين أن الهدف الإصدارات الجديدة من العملة هو "استبدال الأوراق التالفة" دون زيادة في الكتلة النقدية. وأكد البنك أنه أجّل طرح الإصدار الجديد خلال الفترة الماضية لإعطاء "فرصة لتنفيذ استحقاقات السلام"، لكنه حمّل ما سماه "التنصل السعودي من خارطة الطريق" مسؤولية دفعه إلى المضي في هذا الإجراء.


ويؤيد الخبير الاقتصادي المقيم في صنعاء رشيد الحداد رواية الحوثيين، وقال لمركز سوث24: "ما حدث هو استبدال للعملات المتهالكة بنفس الكمية والكتلة النقدية المتداولة، وفقاً لضوابط مصرفية متعارف عليها عالمياً تشمل الأرقام التسلسلية. هذه الخطوة لا تهدف إلى سد عجز الموازنة عبر طباعة نقد تضخمي، كما يفعل الطرف الآخر في عدن، بل هي إعادة تدوير لنفس الكتلة النقدية".


في المقابل، يرى خبراء اقتصاديون أن المسألة أعمق من مجرد استبدال للعملات القديمة، وأنها محاولة من الحوثيين للالتفاف على السياسة النقدية التي يفرضها البنك المركزي في عدن. ويصف رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، مصطفى نصر، هذه الخطوة بأنها "تحول محوري" في سياق الصراع المالي. 


وقال في حديثه لمركز سوث24: "التطور يشكل مرحلة جديدة في الصراع الاقتصادي، الذي تحول ليصبح حرباً مكتملة الأركان". وأوضح أن جماعة الحوثيين تحاول بهذه الخطوة معالجة أزمة شح السيولة النقدية في مناطق سيطرتها، لكنه أشار إلى أن حجم التأثير السلبي لهذه العملية "يعتمد على كيفية إدارتها".


مضيفاً: "إذا اقتصر الأمر على استبدال العملة التالفة فقط دون التوسع في حجم الكتلة النقدية، فقد تكون الآثار محدودة داخل مناطقهم".


أما د. جعفر حسين منيعم، رئيس القطاع المالي في الهيئة الاقتصادية للمجلس الانتقالي الجنوبي [تم تعيينه بقرار اليوم الخميس 24 يوليو رئيسًا للهيئة الاقتصادية والخدمية للمجلس الانتقالي]، فيرى أن الخطوة لا تخلو من أبعاد سياسية تهدف إلى تكريس واقع نقدي منفصل.


وقال لمركز سوث24 إن الحوثيين "استغلوا التهدئة الاقتصادية" لتمرير هذا الإجراء.


المخاطر الاقتصادية وانعكاساتها


رغم تطمينات الحوثيين بأن الطباعة الجديدة لن تؤدي إلى زيادة الكتلة النقدية، تتزايد المخاوف من انعكاسات سلبية مباشرة على الوضع الاقتصادي المتدهور في اليمن، سواء في مناطق سيطرة الحوثيين أو على مستوى البلاد ككل.


في 17 يوليو، حذر المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبرغ، من خطورة هذه الخطوة، مؤكداً أن "الإجراءات الأحادية تهدد بمفاقمة الانقسام المالي وتزيد من هشاشة الاقتصاد"، ودعا إلى تبني نهج موحّد يعيد الثقة بالقطاع النقدي اليمني.


كما أصدرت السفارتان الفرنسية والأمريكية بيانات منفصلة في اليوم نفسه، أدانتا فيها خطوة الحوثيين، ووصفتاها بـ "غير القانونية" و"غير المسؤولة"، مع التأكيد على الاعتراف الحصري بشرعية البنك المركزي في عدن.


وفي 16 يوليو، تناول لقاء جمع رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي مع السفيرة الفرنسية لدى اليمن الإجراءات الاقتصادية الأخيرة للحوثيين، وفي مقدمتها طباعة العملات الجديدة. وبحسب إعلان المجلس، جددت السفيرة الفرنسية إدانة بلادها لهذه الإجراءات، ووصفتها بالخطيرة وغير المسؤولة، مؤكدة أنها ستُفاقم الأزمة الاقتصادية وتعزز الانقسام النقدي في البلاد.


وتوقع مصطفى نصر أن "يتخذ كل طرف الإجراءات التي يراها مناسبة لحماية عملته، مما سيؤثر سلباً على العملة والاقتصاد والتبادل التجاري بين المناطق المختلفة". مضيفًا: "حتى لو كانت هذه الخطوة محدودة، فإنها غير شرعية كونها صادرة عن بنك غير معترف به، وستؤدي إلى مضاعفة العزلة على القطاع المصرفي في اليمن".


وحذر جعفر منيعم من أن "تداول الأوراق النقدية المزورة من قبل الحوثيين سيؤدي إلى اضطرابات خطيرة، إذ سيسعى المتعاملون بها، وخصوصاً رجال الأعمال، إلى التخلص منها بسرعة بتحويلها إلى عملات أجنبية. هذا السلوك لن يؤدي فقط إلى تآكل الثقة في العملة، بل سيعزز حالة الانقسام النقدي ويعمّق الأزمات الاقتصادية".


ويمضي منيعم في التحذير من تداعيات أوسع نطاقاً، قائلاً:إن استمرار طباعة العملات من طرف واحد دون رقابة قد يُفضي إلى حالة انفصال تام بين السوق النقدية في الشمال والجنوب. وقد يُسرّع ذلك من حركة النزوح الاقتصادي من مناطق الحوثيين إلى محافظات الجنوب، وهو ما سيخلق ضغوطاً هائلة على الموارد والخدمات في الجنوب".


وأضاف: "في حال لم يتم اتخاذ إجراءات رادعة، فقد نشهد مرحلة جديدة من التزوير تطال العملة المتداولة في مناطق الجنوب التي تديرها الحكومة، مما سيؤدي إلى إغراق السوق النقدية بعملات مزوّرة تسرّع انهيار الاقتصاد الوطني".


في المقابل، يرى رشيد الحداد أن لهذه الخطوة "آثاراً إيجابية على الحركة التجارية" في صنعاء، ملقياً باللوم على السياسة المالية للطرف الآخر. وقال: "صنعاء استطاعت الحفاظ على القيمة الشرائية للعملة، بينما أدت السياسة النقدية الكارثية في عدن إلى انهيار سعر الصرف لأكثر من 2900 ريالاً للدولار الواحد".


الأبعاد السياسية 


لا يمكن النظر إلى الطباعة النقدية الحوثية بمعزل عن أبعادها السياسية، إذ يسعى الحوثيون إلى توظيف هذه الخطوة ضمن ما يسمونه "الاستقلال الاقتصادي"، وتقديم أنفسهم كسلطة مالية قادرة على إدارة شؤون المناطق الخاضعة لهم، في تحدٍ مباشر للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا.


تأتي هذه الخطوة أيضًا كخرق كبير للتفاهمات الاقتصادية التي جرى التوصل إليها في يوليو 2024 برعاية أممية وضغوط سعودية، والتي كانت تهدف إلى خفض التوتر في الملفات الاقتصادية والنقدية بين عدن وصنعاء. 


ويرى مصطفى نصر، أن تلك التفاهمات لم تكن هدنة بالمعنى المتعارف عليه، بل "تهدئة فرضتها وساطات إقليمية وضغوط على الحكومة اليمنية للتراجع عن قراراتها بشأن البنوك والقطاع المصرفي وملفات اقتصادية أخرى، بعد تهديدات حوثية. وبالتالي كانت أشبه بهدنة من طرف واحد لا تشعر جماعة الحوثي أنها ملزمة بها".


وأضاف نصر أن "أي حديث عن هدنة قد انتهى فعلياً بعد فرض العقوبات الأمريكية على كيانات وأفراد في مناطق سيطرة الحوثيين"، ما يعني أن الحوثيين يتعاملون مع هذه التفاهمات كملف مغلق، وهو ما يفسّر خطوتهم الأخيرة.


ويذهب جعفر منيعم في الاتجاه ذاته، مؤكداً أن "هذه التفاهمات باتت عملياً منتهية، فهذه الجماعة لم تلتزم بأي اتفاقات سابقة، بدءاً من اتفاق ستوكهولم في 2018.". مضيفًا: "الحوثيون لا يؤمنون بمنطق الدولة ولا يحترمون الاتفاقات، بل يتعاملون بمنطق القوة والفرض".


في المقابل، يحمّل رشيد الحداد الحكومة اليمنية في عدن مسؤولية "نسف" التفاهمات بشكل كامل، مضيفًا: "لقد نسفوا التفاهمات عندما رحبوا بالقرار الأمريكي بتصنيف حركة [الحوثيين] ضمن قائمة الإرهاب، وقاموا باستغلاله لابتزاز البنوك والإضرار بالقطاع المصرفي اليمني ككل، في حين كان الاتفاق يقضي بوقف التصعيد".


الخيارات المستقبلية والسيناريوهات


الحكومة اليمنية لم تتخذ بعد خطوات عملية لمواجهة الإجراء الحوثي الأخير غير التحذير من تداول هذه العملات. واعتبر رئيس الوزراء، سالم بن بريك، أن "الإصدار الحوثي يمثل تهديداً مباشراً للاستقرار المالي"، مشدداً خلال اجتماع في 16 يوليو على أن "مجلس الوزراء يعتبر هذه الإجراءات باطلة ولاغية قانوناً".


وفي 22 يوليو، أعاد بن بريك التأكيد، خلال اجتماع بالعاصمة عدن، أن الحكومة تمضي بخططها لمواجهة ما وصفه بـ "الحرب الاقتصادية" التي تشنها مليشيا الحوثيين، بالتنسيق مع مجلس القيادة الرئاسي والشركاء الدوليين. 


قبلها في 20 يوليو، قرر البنك المركزي اليمني نقل مقر المؤسسة العامة للتأمين على الودائع من صنعاء إلى عدن لتعزيز السيطرة على النظام المصرفي، في خطوة وصفت بالمتأخرة لكنها برزت كمؤشر على استئناف التصعيد الاقتصادي.


ويتوقع رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، مصطفى نصر، أن يشهد الملف الاقتصادي مزيدًا من التصعيد المتبادل بين الطرفين، قائلاً: "النتيجة تعتمد على كيفية إدارة كل طرف لهذا الملف؛ فالحكومة شكلت لجاناً لمحاولة ضبط سوق العملة وقطع مصادر استفادة الحوثيين، بينما ستحاول الجماعة إيجاد طرق لتأمين احتياجاتها من النقد الأجنبي".


ويرى نصر أن اليمن يقف أمام سيناريوهين رئيسيين: "إما استمرار التصعيد في الحرب الاقتصادية، أو حدوث تدخل إقليمي ودولي فاعل ينجح في إحياء خارطة طريق السلام التي كانت مطروحة ولم تكتمل".


أما رشيد الحداد، فيطرح خيارين أيضاً، الأول هو "تنفيذ استحقاقات خارطة الطريق، وعلى رأسها معالجة الملف الاقتصادي وصرف الرواتب للموظفين في مناطق سيطرة حكومة صنعاء". أما الثاني، فهو "اتجاه بنك عدن نحو مزيد من التصعيد مستقوياً بالقرار الأمريكي" حد وصفه.


من جانبه، يرسم جعفر منيعم صورة أكثر قتامة، إذ يرى أن "كافة المؤشرات تُنذر بانهيار اقتصادي رباعي الأبعاد"، ملقياً باللوم على الطرفين، ومضيفًا: "الحكومة الشرعية من جهة تعاني من الانقسام والفساد وغياب الرؤية الموحدة، في حين تستغل جماعة الحوثيين هذا الانهيار لصالح أجنداتها".


وحذّر منيعم من أن الاقتصاد اليمني بات على حافة الانهيار الكامل. مردفًا: "الطبقة الوسطى قد تآكلت، والطبقة الفقيرة اتسعت بشكل غير مسبوق. إذا لم تتوحد الجهود سريعاً لإيجاد حل سياسي واقتصادي شامل، فإن القادم سيكون أكثر كارثية، وستطال تداعياته الجميع دون استثناء".


ويكشف هذا المشهد عن هشاشة البنية الاقتصادية في اليمن وحجم المخاطر التي يفرضها التصعيد النقدي الأخير. ويمكن القول إن استمرار هذا الوضع دون تدخل فاعل من المجتمع الدولي والأممي، يهدد بتفاقم الأزمة الاقتصادية التي قد تدير عجلة الحرب مجددًا.


صحفي ومحرر لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا