رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي وعضو المجلس عيدروس الزبيدي يشاركان في الجلسة الافتتاحية لقمة المناخ في نيويورك 01 ديسمبر 2023 (رسمي)
آخر تحديث في: 24-07-2025 الساعة 3 مساءً بتوقيت عدن
|
يواجه المجلس الانتقالي الجنوبي اختباراً سياسياً حاسماً في ظل تصاعد الغضب الشعبي وتراجع تأثيره داخل السلطة المعترف بها دولياً. فبين شراكة مشلولة وواقع اقتصادي متدهور، تتآكل المشروعية التي تأسس عليها كممثل لقضية الجنوب.
في ظل التحولات المتسارعة التي تعصف بالمشهد السياسي في جنوب اليمن، يبرز سؤال مهم حول موقع ودور المجلس الانتقالي الجنوبي داخل منظومة "السلطة المعترف بها دوليا"، ومدى احتفاظه بالمشروعية السياسية التي تأسست على قاعدة تمثيله لقضية الجنوب. فعلى الرغم من أنّ المجلس نجح في ترسيخ حضوره الرسمي كطرف فاعل في الحكومة بعد توقيع اتفاق الرياض عام 2019، ثم تعزيزه بالانضمام كشريك فعلي في المجلس الرئاسي عقب مشاورات الرياض في 2022، إلا أنّ المؤشرات السياسية والاقتصادية خلال الفترة الأخيرة تشكّل تحديا كبيرا لحضوره على المستوى الشعبي وكذلك داخل مؤسسة المجلس الرئاسي اليمني.
في العاصمة عدن، التي لطالما اعتُبرت مركز ثقل المجلس الانتقالي، تواجه السلطة المحلية -التي يشارك المجلس في إدارتها- أزمة اقتصادية متصاعدة وتدهوراً حاداً للخدمات الأساسية من بينها الكهرباء، ما أفرز غضباً شعبياً كبيراً. هذا الأمر أثار أسئلة بشأن قدرة المجلس الانتقالي على تمثيل مصالح المواطنين والدفاع عنها. خاصة وأنّ هذا التراجع ترافق مع محاولات أطراف منافسه للمجلس الانتقالي للنفوذ والتأثير داخل مجلس القيادة الرئاسي، ساهمت في تعزيز هيمنتها، وعلى رأسها رئيس مجلس القيادة رشاد العليمي، سواء في بعض القرارات السيادية أو التعيينات، والأهم من ذلك فيما يتعلق بالملف الاقتصادي في العاصمة عدن التي يديرها، وهو الملف الذي يمس الحاضنة الشعبية التي يستند عليها المجلس الانتقالي الجنوبي.
انطلاقاً من هذا السياق، تسعى هذه الافتتاحية إلى مساءلة ما إذا كان المجلس الانتقالي لا يزال يحتفظ بمشروعيته كشريك فعلي في السلطة، أم أنّ الواقع الجديد أزاحه إلى الهامش، وهو ما يفرض عليه إعادة تعريف موقعه في المعادلة السياسية الراهنة، والحفاظ على شعبيته من التآكل، بسبب التدهور الاقتصادي والخدماتي الحاد، ومدى قدرته على اتخاذ قرارات أكثر حسماً ضمن مسار مشروع السياسي ذات الصلة بمستقبل الجنوب.
فقدان التأثير داخل مجلس القيادة
من المعروف أنّ المجلس الانتقالي الجنوبي دخل ضمن نطاق السلطة الشرعية كطرف سياسي وعسكري بصورة رسمية بعد اتفاق الرياض 2019، كممثل لقضية الجنوب ولمشروع استعادة الدولة الجنوبية، بناءً على التفويض الشعبي الممنوح له وفقاً لإعلان عدن التاريخي في مايو 2017. تجسد حضوره السياسي بشكل أكبر عقب تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في أبريل 2022. إذ حصل المجلس الانتقالي على تمثيل مباشر من خلال انضمام رئيسه عيدروس الزبيدي كنائب في مجلس القيادة، وتعزز هذا التمثيل لاحقاً بانضمام عضوي مجلس القيادة الرئاسي عبدالرحمن المحرمي واللواء فرج البحسني إلى صفوف القيادة العليا للمجلس الانتقالي، ليصبح للأخير ممثلا بثلاثة مقاعد ضمن أعلى هرم في السلطة القائمة، ما أتاح له حضور سياسي معتبر داخل مؤسسة الرئاسة اليمنية، فضلاً عن الكتلة الوزارية للانتقالي في حكومة اتفاق الرياض.
لكن السؤال المهم الذي يفرض نفسه اليوم؛ هل لا يزال للحضور السياسي للمجلس الانتقالي الجنوبي داخل السلطة القائمة اليوم أثرٌ فعلي؟ فعلى الرغم من تمثيله بهذه المقاعد داخل المجلس الرئاسي، إلا أنّ الواقع يشير إلى تراجع مساحة تأثيره، لا سيّما في ظل صدور قرارات وتعيينات من أعلى هرم السلطة دون علمه أو مشاركته، في مشهد يكرّس نمطاً من الانفراد بالقرار يقوده رئيس المجلس الرئاسي رشاد العليمي. إذ يواصل الأخير ممارسة مهامه كـ "رئيس جمهورية" بصلاحيات فردية، وليس رئيس مجلس، متجاوزاً طبيعة الهيكل السياسي الذي تشكل عقب إعلان نقل السلطة في 2022، والذي نصّ بوضوح على انتقال السلطة إلى "مجلس قيادة رئاسي" يتخذ قراراته بشكل جماعي. هذا الإصرار على إدارة الدولة بذهنية فردية يُعد تجاوزاً للمنطق التوافقي الذي بُنيت عليه المرحلة الانتقالية، ويمثل خرقاً لمبدأ الشراكة بين مكونات المجلس، ويذكّر بالنهج الذي اتبعه علي عبد الله صالح عقب تشكيل المجلس الرئاسي لدولة الوحدة عام 1990.
على سبيل المثال، مؤخرا، تم تعيين عضوين في مجلس إدارة البنك المركزي بطريقة منفردة، دون علم أو مشاركة باقي أعضاء مجلس القيادة الرئاسي، ودون حتى إعلان رسمي عن هذه القرارات. علماً أنّ مثل هذه التعيينات لا تكتسب الصفة القانونية إلا إذا جرى نشرها رسمياً، على الأقل عبر وكالة الأنباء الرسمية "سبأ"، في ظل غياب جريدة رسمية صادرة عن وزارة الشؤون القانونية. فضلاً عن سلسلة قرارات أخرى يتم تمريرها بشكل منفرد، دون أن تحظى بإجماع أو مناقشة داخل المجلس.
إنّ صمت المجلس الانتقالي إزاء هذه الممارسات لا يُقرأ بوصفه مرونة سياسية، بل قد يُفهم شعبياً على أنه تفريط بإحدى أوراق الشراكة السياسية. فالمجلس الانتقالي، الذي اضطر للدخول في هياكل ذات طابع "وحدوي" مؤقت، كان واضحاً منذ البداية في تأكيده على وجود ثوابت لا يمكن تجاوزها، وفي مقدمتها مبدأ المناصفة بين الشمال والجنوب كأرضية لأي "شراكة انتقالية". وبالتالي، فإنّ التغاضي عن مبدأ التوازن في القرار، والتنازل عن الثوابت، يفتح الباب أمام موجة من المساءلة الشعبية، ويهدد بتقويض الموقع التمثيلي الذي يحاول المجلس الحفاظ عليه داخل معادلة السلطة.
من المهم القول، إنّه لم يعد من المقبول سياسياً أن تستأثر الأطراف الشمالية بالسلطة وتتجاوز الأسس التي قامت عليها الشراكة في مجلس القيادة الرئاسي، وعلى رأسها مبدأ المناصفة في التعيينات والمشاركة في اتخاذ القرارات. فهذه الثوابت لا تمثل مجرد ترتيبات إدارية، بل تشكل جوهر التوازن السياسي الذي قبل بموجبه المجلس الانتقالي الجنوبي الدخول في منظومة السلطة. على الرغم أنّ الأطراف الشمالية لا تملك توازنا جغرافيا أو اقتصاديا يمكن تطبيق مبدأ المناصفة معها، خصوصا وأنّ معظم مناطق الشمال تخضع لسيطرة جماعة الحوثيين. ومن هنا، فإنّ أي تفريط أو صمت من قبل المجلس الانتقالي إزاء محاولات رشاد العليمي أو الأطراف الشمالية الأخرى الالتفاف على هذه الأسس، لا يُعد تراجعاً تكتيكياً للانتقالي، بل انزلاقاً خطيراً يفقده مبررات بقائه كشريك يُعبّر عن تطلعات الجنوب أو ممثلاً للقضية، بل ويحوله إلى مجرد طرف سياسي عادي، شأنه شأن أي مكوّن آخر داخل السلطة، فاقداً لخصوصية تمثيله الجنوبي الذي شكّل ركيزة وجوده السياسي من الأساس.
حكومة تحت وصاية "العليمي"
إذا كان مجلس القيادة الرئاسي يعدّ السلطة التنفيذية العليا، وليست حكومة المناصفة، فإن ذلك يعني فعلياً أن الحكومة باتت خاضعة لهيمنة طرف واحد، وهو الطرف نفسه الذي يُمسك بزمام القرار داخل المجلس الرئاسي. وبذلك، تصبح مشاركة المجلس الانتقالي في الحكومة عبر عدد من الوزراء بلا تأثير حقيقي، طالما أن القرار التنفيذي النهائي يتمحور حول شخص رئيس مجلس القيادة، ويتجاوز الشراكة التي يفترض أن تُنظم العلاقة بين مكونات السلطة.
على سبيل المثال، شكّلت العلاقة بين رئيس الوزراء السابق أحمد عوض بن مبارك ورئيس مجلس القيادة رشاد العليمي، نموذجاً للتوتر والصدام المؤسسي، نتيجة التدخل المستمر من قبل مكتب الرئاسة في صلاحيات الحكومة، بما في ذلك أدق تفاصيل عملها التنفيذي. من بين ذلك تعيينات حكومية دون تشاور، وإيقاف مخصصات مالية وغير ذلك. لكن هذه الحالة ليست استثناء في السياق اليمني، فرغم انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس جماعي، والذي يفترض بهذا التحول أن يخفف القيود المفروضة من الرئاسة على الحكومة، إلا أنّ رئيس المجلس تقمص الدور كرئيس للجمهورية بالشكل الذي كان عليه قبل تشكيل مجلس القيادة واستأثر بالسلطة وأعاد الاعتبارات التي اقتضت تشكيل المجلس إلى ما قبل ذلك.
ولتجاوز هذه الدوامة من التفرد وغياب الشراكة الفعلية حتى الآن، يوصى بإعادة تشكيل الحكومة بشكل كامل، بقيادة رئيس وزراء يتمتع بصلاحيات حقيقية وقدرة تنفيذية لإدارة المرحلة الراهنة بشكل عاجل. كما تقتضي الضرورة فصل ملف الخدمات العامة عن التعقيدات السياسية، وتمكين الحكومة من العمل كجهاز إداري وتنفيذي مستقل، فيما ينصرف مجلس القيادة الرئاسي إلى الملفات السيادية الكبرى، وعلى رأسها قضايا الحرب والسلام وتيسير المرحلة الانتقالية وفق ظروفها الاستثنائية. ويقع على عاتق المجلس الانتقالي الجنوبي مسؤولية الدفع نحو تغيير هذا الواقع أو إصلاح مسار الشراكة، خاصة وأنه الطرف الذي يحكم السيطرة على العاصمة عدن أمنيا وعسكريا، ويُحمّله كثير من الخصوم السياسيين جانباً كبيراً من المسؤولية. بل إنّ خصوم المجلس السياسيين يستثمرون هذا الواقع عبر حملات إعلامية ممنهجة تستهدف إضعافه شعبياً وتشويه دوره، ما يستوجب تحركاً سياسياً واضحاً منه لإعادة ضبط العلاقة بين مؤسسات السلطة، وتحميل كل طرف مسؤوليته.
استثناءات خاصة للعاصمة عدن
وفي ظل التدهور الحاد في مستوى الخدمات الأساسية في العاصمة عدن، بات من الضروري منح السلطة المحلية صلاحيات استثنائية وشاملة لإدارة الملف الخدمي كخيار إنقاذي عاجل، خاصة إذا لم تُمنح الحكومة صلاحيات إدارية. فبدلاً من الاستمرار في تحميل وزارة الكهرباء أو وزارة المياه مسؤولية الأزمات المتكررة في ظل الضعف الحكومي، يجب نقل هذه المسؤوليات مباشرة إلى السلطة المحلية، وتمكينها من إدارة هذه القطاعات الحيوية بشكل مستقل وفعّال.
لقد أثبتت السنوات السابقة فشل الحكومة اليمنية في إدارة الملف الخدمي، الأمر الذي يتطلب مقاربة مختلفة، تقوم على تحويل الالتزامات التنفيذية الخاصة بالخدمات إلى السلطة المحلية في عدن بشكل كامل، بما يضمن سرعة الاستجابة ووضوح المسؤولية، ويُجنّب المدينة مزيداً من التسييس والتأزيم.
وبشكل عام، بات من الضروري أن يتحرك المجلس الانتقالي الجنوبي نحو تصحيح مسار الشراكة، من خلال تبني استراتيجية شاملة تتعامل مع جانبين مترابطين: الأول، معالجة الوضع الداخلي المتدهور، الذي يتحمل المجلس جزءاً من مسؤوليته، خصوصاً في العاصمة عدن؛ والثاني، إعادة تقييم شراكته السياسية داخل مؤسسات السلطة القائمة اليوم.
وفي موازاة ذلك، يقع على عاتق رئيس مجلس القيادة الرئاسي، رشاد العليمي، مسؤولية رعاية التوافق داخل صفوف المؤسسات المعترف بها دوليا، لا تقويضه. فمهمته ليست إدارة السلطة بمنطق فردي، بل التنسيق بين المكونات، وضمان سير عمل المجلس وفق روحه التوافقية التي نصّ عليها إعلان نقل السلطة. غير أن ممارساته الحالية القائمة على الانفراد بالقرار، تتناقض مع هذا الدور، وتحوّله من راعٍ للشراكة إلى جزء من المشكلة، وهو ما يستدعي – في حال استمرار ذلك – وجود قرارات حاسمة تعيد رسم المشهد بصورة مختلفة؛ بما في ذلك اللجوء إلى خيارات تحمي الاستحقاقات في الجنوب من التلاشي وتحافظ على تماسك القاعدة الشعبية هناك.
فاستمرار القبول بوضع مختل تهيمن فيه أطراف محددة على القرار، يُفقد المجلس الانتقالي تدريجياً مكانته التمثيلية ويضعف حضوره الشعبي، بل ويهدد بتآكل نفوذه حتى في العاصمة عدن، التي تُعد مركز ثقله السياسي والأمني والشعبي. وفي حال استمر "الشركاء" في تهميش دوره، فإن الخيار السياسي الوحيد المتاح أمام الانتقالي يتمثل في الانسحاب من الشراكة على الصعيدين الرئاسي والحكومي، مع الإبقاء على التزامه العسكري والأمني في إطار التحالف العربي. فالبقاء في وضع هش وغير متوازن، لا يخدم الجنوب ولا المجلس الانتقالي، بل يعرّضه لفقدان ما تبقى من الشعبية والثقة في تمثيل قضيته.
- مركز سوث24 للأخبار والدراسات