التحليلات

مقامرة البحر الأحمر: حسابات طهران وخيارات واشنطن

جانب من توثيق الحوثيين غرق السفينة "ماجيك سيز" عقب هجومهم عليها قبالة سواحل الحديدة في البحر الأحمر، 6 يوليو 2025 (المركز الإعلامي للحوثيين)

11-07-2025 الساعة 1 مساءً بتوقيت عدن

"في ضوء هذه الحسابات الإيرانية الجديدة في اليمن، والتي بددت تمامًا أسطورة أن تصعيد الحوثيين مرتبط بغزة، سيكون السؤال: ما هو شكل الاستجابة الدولية المحتملة تجاه التهديدات في البحر الأحمر؟."



مركز سوث24 | حسام ردمان


في مارس 2025، وبمجرد أن لوّح الحوثيون باستئناف التصعيد في البحر الأحمر؛ تفاجأ العالم كله بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب شنّ حملة جوية موجعة ضد الجماعة في اليمن. حينها، لم يكن البيت الأبيض لديه هواجس حول حرية الملاحة، ولا كان معنيًّا بتوازنات الساحة اليمنية، بل اعتبر ترمب أن استعراض القوة الخشنة في اليمن هو أنسب طريقة لتليين موقف إيران وتكريس سياسات الضغط الأقصى.


وقد كان لترمب ما أراد؛ ففي إبريل الماضي، جلس الإيرانيون على طاولة التفاوض، وفي مايو منحت طهران الرئيس الأمريكي علامة نصر مهمّة أمام الإعلام، حينما أبرمت تفاهماً بموجبه يتوقف الحوثيون عن استهداف الملاحة مقابل وقف الضربات الجوية. بعبارة أخرى، استخدم ترمب اليمن كورقة ترهيب، في حين وظّفت طهران البحر الأحمر كورقة ترغيب، وقد استمر هذا الوضع على حاله حتى يوليو الجاري، عندما استهدف الحوثيون بشكل أكثر إيذاءً السفن التجارية، مما أدى إلى غرقها.


ومن خلال هذا التصعيد البحري، تعيد طهران توظيف الحوثيين لتحقيق ثلاثة أهداف؛ أولاً، تأكيد قدرتها على حظر الوصول إلى مضائق المنطقة متى ما تجدّد الهجوم عليها، والمستهدف بهذه الرسالة ليس واشنطن وتل أبيب فحسب، بل الأوروبيين والصينيين والعرب الأكثر تضررًا من تعطيل الملاحة. ثانيًا، حرمان ترمب من نصره الرمزي بخصوص تأمين الملاحة وهزيمة الحوثي، ويبدو ذلك ردًّا على الإهانة التي وجّهها ترمب مؤخّرًا للمرشد الإيراني علي خامنئي، والتي دفعت بوزير خارجية إيران، عباس عراقجي، إلى التحفّظ عليها والتشديد على عدم تكرارها كشرط للتفاوض. أما ثالثًا والأهم، فهو أن طهران قررت تحويل ورقة البحر الأحمر من عربون صداقة لاكتساب ودّ ترمب، إلى ورقة مقايضة للضغط على المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف على طاولة التفاوض النووي.


وبقدر ما تبدو حسابات إيران دقيقة وذكية، فإن اندفاعها من الساحة اليمنية قد ينطوي على تداعيات عكسية؛ على سبيل المثال، تقامر طهران برفع حرارة الإقليم بما يصب أصلًا في خدمة بنيامين نتنياهو الساعي لمواصلة التصعيد، كما أنها ترفع من احتمالات تعرّض وكيلها في اليمن إلى عملية عسكرية موجعة. لكن صانع القرار الإيراني بات اليوم أكثر تهوّرًا وغموضًا في سياسته الخارجية؛ فباليد اليمنى يتمسّك وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بسياسة الصبر الاستراتيجي ويبقي الباب مواربًا أمام التفاوض، وباليد اليسرى ينتهج الحرس الثوري سياسة حافة الهاوية ذات المخاطر العالية لتحقيق "ريمونتادا جيوسياسية"[1] تنفي عن إيران صورة الهزيمة وتسمح بترميم معادلة الردع.


ومن الملاحظ أن مقاربة طهران تجاه اليمن قد شهدت نوعًا من التغيير؛ فقبل يونيو الماضي، كان سيناريو العملية العسكرية ضد الحوثي يمثل تهديدًا حقيقيًا لاستثمارها الجيوسياسي، لذا لم تمانع التهدئة. ولكن عقب حرب الـ 12 يومًا مع إسرائيل، فإن خيار الحرب في اليمن بات يمثّل فرصة لاستنزاف واشنطن – وحتى تل أبيب – لأكبر وقت ممكن، إلى حين أن تتمكّن طهران من ترميم قوتها الدفاعية. وفي حالات التهديد الوجودي، فإنه لا مانع من التضحية بالجنين كي تعيش الأم.


في ضوء هذه الحسابات الإيرانية الجديدة في اليمن، والتي بددت تمامًا أسطورة أن تصعيد الحوثيين مرتبط بغزة، سيكون السؤال: ما هو شكل الاستجابة الدولية المحتملة تجاه التهديدات في البحر الأحمر؟. وبالعودة إلى سجل الأحداث خلال الربع الأخير من العام 2023؛ سوف يتضح أن نمط الاستجابة الدولية تجاه التهديدات الحوثية يبدأ بمراكمة الإدانة السياسية والقانونية خلال الشهر الأول، ثم تتبلور التحركات الدبلوماسية والأمنية في الشهر الثاني والثالث. - (بدأ استهداف الحوثيين للملاحة في نوفمبر 2023، وتجلّت ردود الأفعال في ديسمبر 2023 ويناير 2024).


لذا، ليس من المجازفة التوقّع أن يكون يوليو الجاري فترة اختبار لسقف التصعيد الحوثي، وإذا ما كان مناورة إيرانية محسوبة ومؤقتة كما تفعل قوات الحرس الثوري من وقت إلى آخر في مياه الخليج، أم أنّ هذه الهجمات سوف تصبح نمطًا عدائيًا راسخًا يمسّ المصالح الدولية بشكل جسيم، كما حدث مع الحوثي في العامين السابقين.


علاوةً على ذلك، وخلال هذا الشهر، سوف تتأثر الاستجابة الدولية بثلاثة متغيّرات إقليمية: أولاً، مستقبل وقف الحرب في غزة التي يتّخذها الحوثيون كذريعة؛ ثانيًا، جدية ترمب في خوض مفاوضات مع إيران؛ وثالثًا، مدى قدرة نتنياهو على تعطيل التفاهمات واستئناف التصعيد ضد إيران. والأرجح هو أن ترمب سوف يقارب اليمن بمنطق الصفقات، لذا فإنه لن يسارع إلى ردع الحوثيين طالما تسنّى له استثمار "سلوكهم المارق"، والعكس صحيح أيضًا. فمن جهة، قد يكون مفيدًا لترمب إهمال القرصنة الحوثية والسكوت على تضخّمها لابتزاز الجانبين العربي والأوروبي، والجميع يتذكّر تسريبات محادثات "السِغنال" الشهيرة التي قال فيها رجال ترمب إنّ على مصر وأوروبا أن تدفعا ثمن تأمين الملاحة.


أما في حال تجاوز التصعيد الإيراني خطوط واشنطن الحمراء، من خلال استهداف أصولها المباشرة أو مصالحها الحيوية – التي يتجنّبها الحوثيون حتى الآن – فإن ذلك قد يُسهم في إقناع ترمب بضرب رأس الأخطبوط، وشنّ حملة عسكرية ثانية ضد طهران. ويجدر التذكير هنا بأن إمعان الحوثيين في استهداف مطار بن غوريون طيلة شهر مايو الماضي، لم يؤدِّ إلى إضعاف إسرائيل، بقدر ما ساعدها على مراكمة الذرائع التي مهّدت نحو حرب الـ 12 يومًا.


أخيرًا، فإن ثمّة سيناريو ثالثًا لشكل الاستجابة الدولية، هو الأكثر مثالية نظريًا، لكنه الأكثر صعوبة عمليًا، وذلك بأن يتبنّى ترمب سياسة قطع الأذرع انطلاقًا من اليمن، مع ممارسة مزيد من الضغوط القصوى في العراق ولبنان. هذا الخيار قد يحقق للرئيس الأمريكي جملة من الأهداف: معاقبة إيران دون التورط في حرب مباشرة معها، وتعزيز أمن حلفاء أمريكا في الخليج، واستعادة الأمن الدائم للملاحة الدولية، وأخيرًا، صناعة السلام في اليمن من خلال القوة.


وفي حال نجح ترمب في وقف حرب غزة، فإنه سوف يجد موقفًا عربيًا مغايرًا تجاه الحسم العسكري في اليمن، لا سيما بعد أن وصلت منظومة "ثاد" إلى السعودية. وفي حال تحرّرت القاهرة من هاجس التهجير إلى سيناء، فإنها ستكون أقل تحفظًا على تحرير الحديدة، أما الإمارات فإنها جاهزة للحسم في جميع الأحوال.


حسام ردمان

صحفي وباحث سياسي، متخصص بالشأن اليمني وقضايا الصراع والسلام، وتتركز كتاباته حول الجماعات الدينية المسلحة، والتطورات السياسية والاجتماعية في جنوب اليمن.

[1] ريمونتادا (بالإسبانية: La Remontada)، مُصطلحٌ رياضي يُستخدمُ في كرة القدم وتعني «العودة» أو «الرُّجُوع». مُصطلح ريمونتادا، كان يُستخدمُ على نطاقٍ واسعٍ في إسبانيا مُنذ خمسينيات القرن العشرين، في كرة القدم، وهو يُشير إلى فوز غير متوقع أو نتيجة غير متوقعة بشكلٍ خاصٍّ أو قلب نتيجة المباراة. - (ويكيبيديا)
شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا