الغلاف: مركز سوث24 - أحمد البنا
آخر تحديث في: 12-06-2025 الساعة 6 مساءً بتوقيت عدن
|
"تشكل هذه الورقة مدخلًا إلى مشروع بحثي أوسع يسعى إلى فهم الكيفية التي أُعيد بها تشكيل الهوية الدينية في جنوب اليمن منذ العصور القديمة وحتى الآن، في ظل تغير السياقات السياسية والاجتماعية والدينية المختلفة".
سلسلة بحثية | مركز سوث 24 (علاء محسن)
مقدمة
لطالما شكل الدين بعدًا مركزيًا في تشكيل هوية الشعوب والقبائل التي قطنت جنوب الجزيرة العربية (1)، ليس فقط باعتباره عقيدة فردية، بل كمنظومة ثقافية واجتماعية متداخلة مع البنى السياسية والقبلية والاقتصادية القائمة. وقد شهدت هذه المنطقة تحولات دينية عميقة امتدت من تعددية الأديان في العصور القديمة، إلى تشكل هوية إسلامية متمايزة بعد انتشار الدعوة الإسلامية عقب مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إلى تبلور مذاهب فقهية وعقدية أثرت على الوعي المجتمعي، بالإضافة إلى انتشار مدارس صوفية، وصولا إلى عصر الاستعمار والتحديث التي رعته الدولة الوطنية وما صاحبه من إعادة تشكيل للخطاب الديني والاجتماعي.
ينطلق هذا البحث من فرضية مفادها أن الهوية الدينية في جنوب اليمن لم تتشكل بصورة خطية، بل خضعت لتحولات تدريجية وتفاعلات معقدة بين الدين، والسياسة، والأعراف الاجتماعية، والقبيلة. وتفترض الدراسة أن تلك الهوية لم تكن متجانسة في كل مراحلها، بل كانت نتاج تفاعل بين عوامل محلية مثل التركيبة القبلية والأنماط الاجتماعية، وعوامل خارجية كالفتوحات، والحركات المذهبية، والتدخلات الاستعمارية، ثم سياسات الدولة الوطنية الحديثة بالإضافة الى الحركات الاجتماعية والتيارات الدينية المعاصرة.
تشكل هذه الورقة مدخلًا إلى مشروع بحثي أوسع – سلسلة بحثية - يسعى إلى فهم الكيفية التي أُعيد بها تشكيل الهوية الدينية في جنوب اليمن في ظل تغير السياقات السياسية والاجتماعية والدينية المختلفة. ويتناول المشروع تحولات هذه الهوية عبر أربع مراحل مفصلية. تغطي الورقة الأولى السياق التاريخي منذ ما قبل الإسلام وحتى نهاية العهد العثماني، مع التركيز على التعدد الديني، وانتشار المذاهب السنية، وصعود التصوف، بالإضافة الى العلاقات السنية الشيعية في اليمن. تتناول الورقة الثانية فترة الاستعمار البريطاني والدولة الاشتراكية، حيث شهدت عدن تنوعًا دينيًا لافتًا قبل أن تفرض الدولة الجديدة علمانية صارمة أعادت رسم حدود الدين في الفضاء العام. أما الورقة الثالثة، فتبحث في صعود التيارات السلفية وتأثير حزب الإصلاح على المشهد الديني والتعليمي بعد اندماج جنوب اليمن في دولة الوحدة مع الشمال عام 1990، بينما ترصد الورقة الرابعة التحولات التي أفرزتها الحرب الأهلية منذ 2015، بما في ذلك بروز فاعلين دينيين جدد وإعادة تشكيل المشهد الديني في ظل الصراع.
منهجيا، يعتمد البحث على المقاربة التاريخية التحليلية، مستنداً إلى مصادر متنوعة تشمل كتب تاريخية ودراسات متخصصة، بالإضافة إلى الأدبيات الحديثة في دراسات الدين والهوية، المتخصصة في اليمن والمنطقة العربية والإسلامية. ويحرص البحث على المزج بين المصادر العربية والأجنبية بهدف الوصول إلى رؤى أكثر توازناً وعمقاً في فهم التحولات الدينية والهويات المتعددة. تسعى الورقة في نهاية المطاف إلى تقديم فهم مركب لعلاقة الدين بالهوية، من خلال تتبع التحولات المكانية والزمانية في جنوب الجزيرة العربية، وإبراز كيف أعيد إنتاج المعاني الدينية في ضوء التغيرات السياسية والاجتماعية الكبرى، سواء في فترات الإمبراطوريات الإسلامية أو في ظل الدول المحلية المستقلة، لتشكل في المحصلة هوية دينية، متعدد المستويات ومنفحته على تحولات مستمرة.
المبحث الأول: الهوية الدينية في جنوب الجزيرة العربية: بين التعدد الديني والتشكل الإسلامي
اليمن قبل الإسلام
في أواخر الحقبة السابقة لبزوغ فجر الإسلام وانتشار الدعوة، اتسمت منطقة جنوب الجزيرة العربية بتعددية دينية صاحبه هيمنة قبلية بارزة على المشهد الاجتماعي والديني. وقد استوطنت قبائل كبرى مثل حمير، ومذحج، والأزد في المرتفعات الوسطى والمنخفضات، بينما استقرت قبائل أخرى مثل همدان، وكندة، وحاشد، وبكيل في المرتفعات الشمالية.[1]
![]() |
التحول إلى الإسلام بين قبائل جنوب الجزيرة العربية
بدأت عملية دخول قبائل جنوب الجزيرة العربية إلى الإسلام في أواخر العقد الثالث من القرن السابع الميلادي، خلال حياة النبي محمد.[3] وقد شكل إسلام الحاكم الفارسي باذان في (7هـ / 628م) نقطة تحول مفصلية، تبعه بعدها إسلام عدد من زعماء القبائل في مناطق متفرقة من اليمن. وتم هذا التحول في المقام الأول من خلال وفود القبائل التي قدمت لتُعلن ولاءها للنبي محمد، واستجابة للرسائل التي بعثها إلى وجهاء اليمن.[4]
ولتعزيز الدعوة وتثبيت أركان الدين الإسلامي في تلك المناطق، أرسل النبي عددا من الصحابة إلى اليمن، حيث كان لهم إسهام بارز في تبليغ تعاليم الإسلام وترسيخها بين القبائل المحلية، التي كان بعضها قد أعلن إسلامه طواعية من خلال الوفود المرسلة. وقد روى البخاري أن رسول الله أوصى معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، فقال: «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله...». وأرسل النبي معاذ بن جبل إلى الجند، وأبو موسى الأشعري إلى زبيد وعدن، بالإضافة إلى السرايا التي قادها علي بن أبي طالب إلى المناطق الشمالية، والتي نتج عنها إسلام قبائل همدان.
ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح مدى تغلغل الرسالة الإسلامية في قبائل جنوب الجزيرة العربية خلال حياة النبي. فرغم إعلان عدد من الزعماء إسلامهم، تشير شواهد حروب الردة إلى أن هذا التحول لم يكن عميقا أو راسخا لدى غالبية السكان، وأنه تطلب وقتا وجهودا إضافية لترسيخ الرسالة الإسلامية. بمعنى آخر، فإنه من غير المرجح أن يكون المشهد الديني قد تبدل بشكل فوري بمجرد وصول وفود القبائل اليمنية إلى المدينة أو مبعوثي النبي إلى مختلف مناطق اليمن، إذ ظل التحول تدريجيًا، متفاوتا في عمقه واستجابته من قبيلة إلى أخرى او منطقة لأخرى.
عهد الخلافة الراشدة
بعد وفاة النبي محمد، واصل الخلفاء الراشدون جهودهم في تثبيت حضور الدولة الإسلامية في اليمن وربطها بمنظومة الخلافة الناشئة.[5] وقد كان الخليفة أبو بكر الصديق تأثيرًا حاسمًا في قمع حركات الردة في جنوب الجزيرة العربية، لا سيما التمرد المشهور الذي قاده الأسود العنسي في صنعاء، مما ساعد على تثبيت سلطة الدولة الإسلامية في الجزيرة بأكملها. ومهد هذا الاستقرار السياسي الطريق أمام انتشار الإسلام باعتباره الدين السائد في اليمن خلال عهد الخلافة الراشدة. ومع نهاية القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، كانت الرسالة الإسلامية قد ترسخت واستبدلت المعتقدات السابقة، وبدأت في تأسيس هوية دينية مشتركة في جنوب الجزيرة العربية، في حين واصلت بعض الأقليات اليهودية والمسيحية وجودها كأهل ذمة تحت حكم الدولة الإسلامية.
وفي إطار تنظيم الإدارة المحلية، قسم الخلفاء الراشدون إقليم اليمن إلى أربع مخاليف رئيسية: مخلاف صنعاء في الشمال، ومخلاف الجند في الوسط ومخلاف تهامة في الغرب ومخلاف حضرموت في الشرق.[6] وقد عين لكل مخلاف وال خاص بها، بينما تولى الوالي العام إدارة الاقليم، فعين المهاجر بن أبي أمية واليا عاما في عهد أبي بكر، وخلفه يعلى بن أمية في عهدي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، ثم عبد الله بن عباس في عهد علي بن أبي طالب. إلا أن التقسيم كان أحيانا إلى ولايتين: إحداهما تتبع صنعاء، والأخرى تتبع الجند، بينما كانت تدمج في بعض الفترات ضمن ولاية واحدة حسب مقتضيات الوضع السياسي والإداري. وقد لعبت القبائل اليمانية دورا فاعلا في الفتوحات الإسلامية، وأسهمت بقوة في الحملات العسكرية خارج الجزيرة، بما فيها الشام والعراق وخراسان ومصر وبلاد المغرب وافريقية، حيث شكلت نسبة كبيرة من القوات التي شاركت في تلك المعارك.
الحقبة الأموية والعباسية
في العهد الأموي والعباسي، كان إقليم اليمن تابعا لحكم الدولة الإسلامية، حيث كان الولاة يعينون من قبل الخلفاء في دمشق ثم بغداد. شكلت المنظومة السنية الإطار الديني الغالب في اليمن خلال هذه الحقبة، وتمثل ذلك بشكل رئيسي في انتشار المذهبين المالكي والحنفي، اللذين كانا الأكثر حضورا في الأوساط الفقهية آنذاك.[7] وقد جاء هذا الانتماء المذهبي السني في سياقٍ يتماشى مع التوجهات الرسمية لدولة الخلافة الإسلامية آنذاك، وساهم في ترسيخه وجود عدد من العلماء وتداول كتب الفقه والحديث، رغم غياب مؤسسات تعليمية رسمية في اليمن خلال تلك المرحلة.
وفي نهاية القرن الثالث الهجري، بدأ هناك معالم تحول ملحوظ في المشهد السني مع دخول المذهب الشافعي إلى اليمن. وكان الإمام محمد بن إدريس الشافعي قد زار اليمن في عام 179هـ/790م، وأقام فيها فترة، ما مهد الطريق لاحقا لانتشار مذهبه في مناطق متعددة، منها الجند وبقية مناطق اليمن الأسفل وحضرموت. وقد اعتمد أتباعه على كتب مرجعية مثل مختصر المزني في الفقه، وعلى رسالة الشافعي في أصول الفقه، ما ساهم في بلورة مدرسة سنية متماسكة. في السياق ذاته، تطورت تقاليد الحديث في اليمن، حيث حظيت كتب الحديث الستة باعتراف واسع بين علماء السنة. كما زار الإمام أحمد بن حنبل اليمن، وكان له تأثير كبير في تقوية المنهج السني، خاصة في ظل الصراع الفكري مع التيار المعتزلي الذي حظي بدعم الدولة العباسية في عهد الخليفة المأمون. وقد أدى فرض القول بخلق القرآن إلى محنة فكرية كان لها أثر في ترسيخ مكانة "أهل الحديث" في الأوساط السنية اليمنية.
على الرغم من هيمنة التقاليد السنية على المشهد الديني في اليمن خلال هذه الحقبة الزمنية، إلا أن البعد الجغرافي عن مركز الخلافة الإسلامية في دمشق وبغداد إلى جانب الطبيعة الجبلية الوعرة في اليمن خاصة في المرتفعات الشمالية، وفر بيئة ملائمة لنشاط الحركات المعارضة وساهم في استقلالها النسبي. وقد أفسح ذلك المجال أمام دخول التشيع إلى اليمن، وتمثل ذلك في بروز المذهب الزيدي في المرتفعات الشمالية، وظهور الدعوة الإسماعيلية في بعض المناطق الأخرى، مما جعل اليمن إحدى الساحات التي تجلّت فيها التعددية المذهبية والصراع السني الشيعي في التاريخ الإسلامي.
المبحث الثاني: بدايات الانقسام الطائفي في اليمن وعصر الدول المستقلة
جذور التشيع في اليمن
نشأ الانقسام الطائفي بين السنة والشيعة في اليمن مع دخول الدعوة الزيدية في أواخر القرن الثالث الهجري (القرن التاسع الميلادي)، تلتها الدعوة الإسماعيلية في أوائل القرن الرابع الهجري (القرن العاشر الميلادي). وكما أسلفنا سابقا فان قبل هذا الوقت، فقد كان الطابع السني سائدا في البلاد، مع وجود مذاهب فقهية متعددة مثل المالكية والحنفية، ولاحقا الشافعية. وقد أشار الباحث ديفيد توماس غوشنور، أن مما ساهم في انتشار الدعوة الشيعية في المجتمع اليمني آنذاك أنه لم يكن قد ترسخ فيه الفهم العميق للإسلام، بل كان الالتزام الديني سطحيا ومحدودا، حيث مثل دعاة الزيدية والاسماعيلية طلائع تعليم الإسلام المنهجي في اليمن.[8] وبذلك لم يقتصر دور الدعاة على نشر رؤى مذهبية بديلة عن نظيراتها السنية، بل لعبوا دورا تأسيسها في ترسيخ القيم والمفاهيم الإسلامية في قطاعات واسعة من القبائل اليمنية .
انبثقت عن الدعوة الزيدية في شمال اليمن أولى الكيانات السياسية الشيعية المستقلة في العالم الاسلامي وأكثرها ديمومة، حين أسس الإمام يحيى بن الحسين الرسي الدولة الزيدية الهادوية في صعدة عام 284هـ/897م بعد قدومه مع جماعة صغيرة من السادة الهاشميين من الحجاز لحل نزاعات القبائل، لتكون بذلك أول إمامة زيدية في اليمن.[9] وقد وفر تفاعل البيئة القبلية في المرتفعات الشمالية مع المعتقد الزيدي، القائم على فكرة الخروج على الإمام الظالم، قاعدة قوية للسلطة، خاصة مع قدرته على الجمع بين الشرعية الدينية والمكانة الاجتماعية والنزعة للعدل. مثلت الإمامة الزيدية انعكاسات نخبوية للطموحات السياسية والدينية في اليمن، كما ساهم نظام "هجر العلم" في ترسيخ حضورها الديني والفكري داخل المجتمع، والتي تعني أماكن مخصصة للمهجّرين من العلماء والصالحين، تتمتع بوضع خاص منفصل عن أعراف القبائل، وتحظى باحترام لمكانتها الدينية والعلمية.[10] وبمرور الوقت، تحولت الإمامة إلى مؤسسة سياسية أكثر انتظاما، احتفظت بتأثيرها رغم فترات الاضطراب والانقطاع والاقتتال الداخلي مع الامة انفسهم او خصومهم من القادة اليمنيين او القوى الخارجية.
وكان قبول السلطة الجديدة تدريجيا، إذ وجد دعاة الزيدية أنفسهم أمام مجتمع متردد في التخلي عن هويته القبلية لصالح سلطة سياسية-دينية آتية من خارج الحدود. غير أن التقارب بين الطرفين تطور عبر أساليب الدعوة، والعلاقات الاجتماعية والمصاهرة، بالإضافة إلى المناورات السياسية، مما مكّن الزيديين من بناء تحالفات مع القبائل المحلية. وفي هذه السياقات، ظهرت مفهوم "القبائل الزيدية" لاحقا، في إشارة إلى تشكل ثقافة هجينة تمزج بين المذهب الزيدي والبنية القبلية. وقد شكل هذا التحول خطوة حاسمة في إعادة تشكيل الهوية الدينية لشمال اليمن، وأسس لنموذج مجتمعي يتداخل فيه الدين مع العرف، واستمر تأثيره لقرون لاحقة.
أما على الصعيد الإسماعيلي، فقد برز حضورهم السياسي بشكل كبير مع قيام الدولة الصليحية في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، بقيادة علي بن محمد الصليحي، الذي تلقى دعمه من الدولة الفاطمية في القاهرة. وقد أقام الصليحيون بنية إدارية مركزية وأعدوا نخبة متمرسة لنشر الدعوة الإسماعيلية، وجعلوا من جبلة مراكز لحكمهم. إلا أن اعتمادهم على البعد الباطني والتراتبي في التنظيم العقائدي، بالإضافة إلى تركيز سلطتهم في طبقة مقربة من السلطة، قلل من مدى تقبلهم الشعبي، لا سيما في الأوساط القبلية التي لم تجد في الفكر الإسماعيلي ما ينسجم مع ثقافتها ومفاهيمها السياسية والاجتماعية. ولهذا، ظل نفوذ الإسماعيليين أكثر هشاشة مقارنة بالزيديين، ولم يدم إلا بوجود دولة تسند هذه الدعوة من الصليحيين او خلفائهم من الزريعين، دون أن يترك أثرا دائما في البنية السياسية والاجتماعية كما فعلت الإمامة الزيدية في الشمال.
عصر الدول المستقلة وإعادة احياء التقاليد السنية
مثلت السيطرة الأيوبية على لليمن عام 570هـ (1174م) محطة مفصلية في التحولات الدينية في اليمن، خصوصا مع ضعف الدولة العباسية في حقبتها المتأخرة وقيام الدول الشيعية في اليمن. وقد سعى الأيوبيون إلى تعزيز النفوذ السني وترسيخ المذهب الشافعي في المناطق الساحلية والمرتفعات الجنوبية من خلال إنشاء المدارس والمساجد مما أدى إلى إعادة تعزيز الحضور السني في هذه المناطق، كوسيلة لمقارعة النفوذ الإسماعيلي الذي كان مسيطرا في بعض المناطق آنذاك. وقد بقيت المرتفعات الشمالية خارج السيطرة الفعلية للأيوبيين، مما أسهم في استمرار استقلال المذهب الزيدي هناك. هذا التوزيع الجغرافي أسس لانقسام مذهبي طويل الأمد بين شمال زيدي وجنوب سني، ظل حاضرا في البنية الدينية والسياسية اليمنية حتى الفترات الحديثة .[11]
ورثت الدولة الرسولية، التي تأسست عام 626 هـ/1229م على يد عمر بن رسول، مشروع تعزيز التوجه السني الذي أرساه الأيوبيون، وشكّلت امتدادًا مباشراً لسياساتهم، لا سيما في توطيد المذهب الشافعي عبر توسيع شبكة المؤسسات التعليمية والدينية في زبيد وتعز وعدن ومناطق اليمن الأسفل والسواحل. وقد ساهم اهتمام ملوك وسلاطين الدولة الرسولية بالعلم والمعرفة في ترسيخ بيئة علمية مزدهرة، وهو ما شكّل تطورًا مبهرًا في الحياة الثقافية والعلمية آنذاك.. وقد لعبت المؤسسات العلمية والتعليمية دورًا فاعلًا في تعزيز المذهب الشافعي في تلك المناطق، حيث اعتمدت الدولة الرسولية على العلماء والفقهاء لنشر التعاليم الدينية وضبط الحياة العامة وفق المرجعية الشافعية، مما جعل من الشافعية الأساس الأيديولوجي والإداري لحكمها.[12] وعلى غرار الايوبيين، لم تسع الدولة الرسولية إلى دمج المناطق الزيدية الشمالية بما فيها صنعاء وصعدة، ما ساعد على استمرار الفصل المذهبي والسياسي بين اليمن الأسفل واليمن الأعلى.
عقب سقوط الدولة الرسولية، استغل عامر بن عبد الوهاب بن طاهر الذرحاني الحميري الفراغ السياسي الحاصل، وأقام الدولة الطاهرية في عام 858هـ / 1454م. سيطر بنو طاهر على مدينة عدن كأول مدينة خارج معقلهم في جبن، مستفيدين من دعم قبائل آل أحمد اليافعية، وذلك لما تمثله عدن من أهمية استراتيجية واقتصادية بفضل موقعها على خليج عدن وقربها من مضيق باب المندب، ووجود ميناء حيوي فيها ساعدهم على تعزيز مواردهم وترسيخ حكمهم.[13] واهتمت الدولة الطاهرية بترسيخ المذهب السني الشافعي من خلال إقامة مشاريع دينية وتعليمية، فأنشأت مدارس ومساجد حافظت على التراث السني في مدن مثل زبيد وعدن ورداع. وقد امتد نفوذها إلى مناطق واسعة من اليمن، بما في ذلك ظفار والشحر وأجزاء من تهامة، لكنها لم تتمكن من فرض سيطرتها على المرتفعات الشمالية. ورغم سيطرتها المؤقتة على صنعاء، فإن نفوذها لم يدم في المناطق الزيدية. وقد ركز الطاهريون على ترسيخ سلطتهم المحلية، وامتنعوا عن الانخراط في صراعات إقليمية، وهو ما تجلى في رفضهم دعم المماليك ضد البرتغاليين في البحر الأحمر، مما أدى إلى تدخل مملوكي أسفر عن مقتل السلطان عامر الثاني سنة 1517م. وعلى الرغم من استمرار سيطرة الطاهريين على عدن لفترة بعد ذلك، فقد سقطت دولتهم بشكل نهائي على يد العثمانيين سنة 945هـ / 1538م، منهية بذلك آخر حكم سني محلي في اليمن قبيل التدخل العثماني الأول في اليمن.
العثمانيون في اليمن
بدأ الحضور العثماني الأول في اليمن عام 1538م، في سياق رد فعل مباشر على التوسع البرتغالي في المحيط الهندي والبحر الأحمر، حيث سعت الدولة العثمانية إلى منع البرتغاليين من السيطرة على الموانئ الحيوية في جنوب الجزيرة العربية، وذلك حمايةً لطرق التجارة والحج، وضمانًا لاستمرار نفوذها في المنطقة. ارتبط التوسع العسكري العثماني أيضا بأهمية الموقع الاستراتيجي لليمن على طريق التجارة بين المحيط الهندي والبحر المتوسط، وبروز موانئ مثل عدن والمخا، خاصة مع تحول تجارة البن إلى مصدر دخل رئيسي في أواخر القرن السادس عشر.[14] تمكن العثمانيون خلال هذه المرحلة الأولى (1538–1635م) من السيطرة على عدن وزبيد وصنعاء، وأسسوا ولاية عثمانية في اليمن، لكنهم واجهوا مقاومة شديدة من أئمة الزيدية في المرتفعات الشمالية، الذين شكّلوا قوة دينية وسياسية مؤثرة، ورأوا أن الحكم العثماني لا يستند إلى أسس شرعية إسلامية صحيحة.[15]
وعلى الرغم من الحملات العسكرية العثمانية المتكررة، لم يتمكن الباب العالي من إخضاع المرتفعات الشمالية، نظرا لتشبع القبائل هناك بهوية زيدية متجذرة. ومع تصاعد الفساد في الإدارة العثمانية، تمكن الإمام المؤيد محمد بن القاسم من احياء مشروع الامامة الزيدية، بعد النجاح في قيادة المقاومة وطرد العثمانيين من البلاد، وإعادة تأسيس حكم زيدي مستقل بدعم من القبائل المحلية، بحلول عام 1635م . ويُعزى هذا المسار إلى طبيعة العقيدة الزيدية، التي تجيز الخروج على الحاكم في العقيدة الزيدية، وهو ما جعل المناطق الشمالية تميل تاريخيا إلى الفوضى السياسية ومقاومة السلطة المركزية القادمة من خارج مناطقها وبنيتها الاجتماعية والدينية، بينما أظهرت المناطق الجنوبية قابلية أكبر للانتظام تحت حكومات مركزية مستقرة.[16]
شكل الحكم العثماني في اليمن مرحلة محورية في تاريخه الديني والسياسي، حيث سعى العثمانيون – باعتبارهم إمبراطورية سنية – إلى تعزيز المذهب السني ودعم الطرق الصوفية ومواجهة المعارضة الزيدية.[17] اعتمد العثمانيون في اليمن، كما في بقية أنحاء الإمبراطورية، المذهب الحنفي بوصفه المذهب الرسمي للدولة، وقد أنشئوا محاكم شرعية تعتمد الحنفية، وعينوا قضاة ومفتين من هذا المذهب، لا سيما في المدن الكبرى مثل زبيد وصنعاء. وقد شكل هذا التوجه جزءا من استراتيجية أوسع لترسيخ الهوية السنية للدولة، وتوسيع نفوذها القانوني والديني في مناطق نفوذها.
ورغم ذلك، لم يفرض العثمانيون الحنفية على السكان بشكل قسري، فاحتفظت المناطق الساحلية ذات الغالبية الشافعية بقضاتها ومؤسساتها الفقهية الشافعية، بينما بقيت المرتفعات الشمالية الزيدية خارج السيطرة الفقهية والإدارية العثمانية. في السياق الديني الأوسع، دعم العثمانيون التصوف السني المعتدل، وخاصة الطريقة القادرية، وشجعوا بعض المزارات والطقوس الشعبية في مناطق نفوذهم، كما هو الحال في دعم زاوية إمام الصوفية أحمد بن علوان في يفرس والتي كانت أقيمت في عهد الدولة الطاهرية.
بدأت المرحلة الثانية من السيطرة العثمانية على اليمن عام 1872م، في سياق إقليمي اتسم بتصاعد النفوذ البريطاني في جنوب الجزيرة العربية عقب احتلال عدن عام 1839م. خلال هذه الفترة، سعى العثمانيون إلى تحديث الإدارة فيما عرف بإصلاحات التنظيمات وفرض سيطرتهم على باقي المناطق اليمنية، عبر إدماجها في نظام الولايات، بما في ذلك إنشاء بنى إدارية وعسكرية وبنية تحتية حديثة. ورغم هذه الجهود، ظلت العلاقة مع القبائل الزيدية متوترة بسبب رفضهم للتدخلات الخارجية وقلة الالتزام الديني عند ممثلي السلطة العثمانية. وبعد عقود من التوتر، توصل العثمانيون عام 1911م إلى اتفاق دعان مع الإمام يحيى حميد الدين، مُنح بموجبه سلطات دينية وإدارية واسعة مقابل اعترافه الاسمي بالسيادة العثمانية، وهو ما أسهم لاحقا في تأسيس المملكة المتوكلية في الشمال بعد انسحاب العثمانيين في نهاية الحرب العالمية الأولى.
أما جنوب اليمن، بما في ذلك عدن وحضرموت والمناطق المجاورة، فقد بقيت خارج نطاق السيطرة العثمانية خلال المرحلة الثانية من وجودهم في اليمن (1872–1918 م)، نتيجة ارتباط السلطنات المحلية بمعاهدات حماية مع الإمبراطورية البريطانية، بعد احتلال الأخيرة لعدن. وقد أسهم هذا الوضع في ترسيخ فصل إداري وسياسي بين الجنوب والشمال. كما أنّ الاتفاقية التي وقعت بين العثمانيين والبريطانيين في عام 1914 لترسيم الحدود بين اليمن العثماني وعدن البريطانية، قد عززت من هذا الانقسام الجغرافي والمذهبي، وهو تمايز لا يزال حاضرا في المشهد اليمني المعاصر. ويأتي هذا التمايز والتنوع في السلطة السياسية في سياق تاريخي أوسع، إذ لم تعرف اليمن – عبر تاريخها الطويل – سلطة مركزية واحدة أو كيانا سياسيا موحدا، بل كانت السلطة السياسية في معظم مراحلها موزعة بين قوى مذهبية وسياسية متعدّدة، يتشابك فيها الديني بالقبلي، والإقليمي بالمحلي.
✦ ما قبل الإسلام (حتى القرن السادس الميلادي)
تنوّع ديني يشمل الوثنية واليهودية والمسيحية والزرادشتية. تحوّل مملكة حِمير إلى اليهودية أواخر القرن الرابع الميلادي، ثم دخول المسيحية مع الغزو الحبشي في القرن السادس.
✦ دخول الإسلام (القرن 7 الميلادي)
دخول جنوب اليمن في الإسلام عبر إسلام باذان، ثم إرسال الرسول ﷺ للصحابة كمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري إلى الجند وعدن. بدأت الدعوة الإسلامية تتوسّع وتترسخ في المجتمع الجنوبي.
✦ العصور الإسلامية المبكرة (القرنان 8–10 الميلادي)
سيادة المذهب السني. ظهرت الشافعية كالمذهب الفقهي الغالب، مع تأثير للحنفية في مراحل متقطعة. شهدت حضرموت وجود أئمة زيدية لكنها بقيت أقلية ولم تنتشر بين السكان.
✦ العصور الوسطى – ازدهار المدارس الصوفية (من القرن 12 وحتى 16)
ازدهار التصوف السني الشافعي، وخاصة في حضرموت وعدن. ظهور شخصيات روحية كأحمد بن علوان، وتوسّع نشاط الأعيان الدينيين الحضارم مثل آل باعلوي، الذين دمجوا بين الفقه والتصوف والسلوك العملي.
✦ الحقبة العثمانية الأولى والثانية (من القرن 16 حتى أوائل القرن 20)
بقيت المناطق الجنوبية خاضعة للشافعية رغم محاولات فرض الحنفية إدارياً. حافظت عدن والمكلا على هويتهما المذهبية، فيما تطورت شبكة العلماء والشيوخ في حضرموت وغيل باوزير.
✦ القرن العشرين حتى الاستقلال (1900–1967م)
استمر دور علماء التصوف وخاصة الحضارم في ترسيخ الخط الشافعي الصوفي، وظلت عدن مدينة مفتوحة على التنوع الديني، مع استمرار التأثير الديني عبر الحلقات والمدارس الدينية الأهلية.
✦ مرحلة الحكم الاشتراكي (1967–1990م)
تراجع ظاهر للأنشطة الدينية بفعل سياسات الدولة الماركسية التي عملت على تقليص حضور الدين في الحياة العامة. تقلّص تأثير العلماء وهاجر كثير منهم إلى خارج البلاد.
✦ ما بعد الوحدة وهيمنة التيارات / الحركات الإسلامية (1990 – 2025م)
انتشار مراكز السلفيّة المتفرّعة عن دار الحديث بدماج، وتوسّع حزب «الإصلاح»، فرع الإخوان المسلمين في الشمال وبروز التنظيمات الجهادية كالقاعدة. تصاعد الخطاب الأيدلوجي (الزيدي - الشيعي) لحركة الحوثيين (أنصار الله). توسع الانقسام الديني وتغذيته للصراع في اليمن، خصوصا بعد عام 2015. تصاعد نشاط السلفية في الجنوب وتغلغلها في المؤسسات العسكرية.
الشكل: بواسطة مركز سوث24 للأخبار والدراسات
المبحث الثالث: الصوفية وتأثيرها على المشهد الديني
ارتبط التصوف في اليمن ببواكير الإسلام، متجليا في ممارسات الظاهر وعبادات الباطن، من الزهد والتقوى ومحبة الله ورسوله.[18] وقد شكل الزهاد الأوائل في اليمن—أمثال أبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وأويس القرني—نموذجا للزهد والانصراف عن الدنيا، مع التركيز على البعد الروحي، الأمر الذي مهد لظهور التقاليد الصوفية لاحقا.[19] وعلى الرغم من أن مصطلح "التصوف" لم يتداول كمفهوم واصطلاح إلا في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، فإن مضامينه وسلوكياته كانت حاضرة في الحياة الدينية منذ وقت مبكر.
أثّرت التحولات الاقتصادية والاجتماعية في اليمن بشكل مباشر على مسار التصوف وتطوره. فقد أدى تراجع النشاط التجاري والهجرة في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي إلى انكماش الحياة الفكرية والدينية.[20] لكن مع عودة النشاط التجاري في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، استعادت المدن دورها كمراكز للعلم والدين، ما وفر بيئة ملائمة لانتعاش التصوف. في هذا السياق، ازدهرت الطرق الصوفية المختلفة والتي لعبت دورا هاما في نشر الإسلام خارج اليمن خصوصا في مناطق شرق قارة اسيا وشرق افريقيا. وهكذا، أعطت النهضة الاقتصادية والاجتماعية فرصة لتحول التصوف إلى تيار منظم وفاعل في البنية الدينية للمجتمع.
كان للدولتين الأيوبية والرسولية، خلال القرون السابع إلى التاسع الهجري / الثالث عشر إلى الخامس عشر الميلادي، دور محوري في ترسيخ التصوف كمؤسسة دينية واجتماعية فاعلة في اليمن.[21] وباعتبارهما دول سنية المذهب، قامتا بتعزيز المذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية، وسعتا إلى تمكين مشايخ التصوف، لما لهم من مكانة اجتماعية وسلطة دينية تساهم في دعم ركائز الاستقرار في هذه الدول. وشهدت هذه المرحلة إنشاء الزوايا والاربطة والمساجد والمدارس إلى جانب إعفاء أملاك بعض المتصوفة من الضرائب، ما عزز مواردهم المالية وزاد من مكانتهم الاجتماعية. كما أسهم شيوخ الطرق الصوفية بشكل فعال في حل النزاعات، مما أكسبهم سلطة مزدوجة: روحية في المجال الديني، واجتماعية ضمن البنية القبلية. وقد برزت مدن مثل زبيد، وتعز، وعدن، وحضرموت كمراكز حيوية للنشاط الصوفي، وشهدت انتشار الطرق الصوفية مثل الشاذلية والقادرية، التي ربطت اليمن بمراكز الصوفية الأوسع في العالم الإسلامي. وأسهمت شخصيات مثل أحمد السيد (ت. 1183م)، وأبو الغيث بن جميل (ت. 1253م)، وأحمد بن علوان (ت. 1266م) في التأثير على المشهد الروحي من خلال الوعظ، والكرامات، وشعر الفناء والبقاء. ولا يزال اسم ابن علوان حاضرا بقوة في الوجدان اليمني المعاصر، بوصفه وليا من أولياء الله ورمزا للتصوف والورع، وتتناقله ألسنة العامة باعتباره مرجعا روحيا يحظى بتقدير واسع ومكانة خاصة في المخيال الشعبي والديني.
ومع مرور الزمن، أصبحت التقاليد الصوفية جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية لليمنيين، وتجسدت في ممارسات مثل الذكر، والسماع وتلاوة الاذكار، والاحتفال بالمولد النبوي. كما تحولت أضرحة الأولياء إلى مزارات روحية ومواقع يقصدها عامة الناس طلبا للبركة والكرامات، وتتلى عندها أقوالهم في حلقات الذكر والمناسبات الدينية. ومن أبرز هذه المزارات ضريح نبي الله هود، الذي يُعد من أهم المعالم الدينية التي يقصدها الصوفية في جنوب اليمن، خاصة خلال موسم الزيارة السنوي في وادي حضرموت، حيث تتوافد الوفود من مختلف مناطق البلاد لأداء الطقوس الروحية وطلب البركة إلى جانب زيارة أضرحة أخرى لأعلام التصوف كالإمام الحداد، والشيخ أبي بكر بن سالم، والعيدروس، والشيخ علي بن سالم بن سمير، والإمام أحمد بن علوان، والتي تُعد مراكز للتجمع الروحي وممارسات الذكر والابتهال [22].وغالباً ما كان ينظر إلى مشايخ التصوف الكبار بصفتهم "أولياء" يتمتعون بالكرامات والكشف والبصيرة الروحية، ويجمعون بين القدوة الأخلاقية والمكانة الرمزية في الوعي الديني والاجتماعي.
لعب شيوخ الصوفية دورا هاما في ترسيخ المذهب الشافعي في مناطق اليمن الأسفل والساحل منذ القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، ولا سيما في مدينة مثل عدن وحضرموت والحديدة. وقد اكتمل البناء العقدي لهذا التيار من خلال تبني علماء السنة للعقيدة الأشعرية، ما جعلها نموذجاً سنياً متماسكاً ومتميزاً عن التيار الزيدي–المعتزلي السائد في المرتفعات الشمالية. وفي هذا الإطار، كان للعلماء الصوفيين دور بارز في تشكيل هذه الديناميكية الفكرية، إذ لم تقتصر إسهامات شخصيات صوفية مثل؛ أبو الغيث بن جميل (ت. 651هـ / 1253م)، منصور بن جبر (ت. 656هـ / 1258م) وعبد الله بن أسعد اليافعي (ت. 767هـ / 1366م)، على الدفاع عن السنة في مواجهة الاتجاهات الكلامية والفكرية المختلفة، بل سعت أيضا إلى تحقيق التلاقي بين التصوف والفقه والعقيدة. وقد أسهم هذا التفاعل في بلورة بيئة فكرية حيوية جمعت بين الورع الصوفي والانضباط الفقهي، وأسست لقيم التسامح الديني والانفتاح المعرفي.
وتعد الطريقة العلوية أبرز الطرق الصوفية المحلية في جنوب الجزيرة العربية، وقد نشأت في حضرموت على يد الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي (توفي سنة 653هـ / 1255م)، وهو من أحفاد الإمام أحمد المهاجر الذي قدم من البصرة إلى اليمن في القرن الرابع الهجري. ويمثل كسر الفقيه المقدم لسيفه رمزا لتبني نهج سلمي وروحي في الجهاد، بدلاً من العنف والحروب. وكغيرها من الطرف الصوفية، جمعت الطريقة العلوية بين الالتزام الفقهي بالمذهب الشافعي، والعقيدة الأشعرية، والمجاهدة الباطنية للنفس. وقد برز عدد من الأعلام العلويين، مثل عبد الرحمن السقاف وعمر المحضار، الذين كانوا من كبار أعلام السادة في حضرموت. ازدهرت الطريقة العلوية بشكل خاص خلال حكم السلطنة الكثيرية (القرنين التاسع إلى الحادي عشر هـ / الخامس عشر إلى السابع عشر م)، حتى أصبحت حضرموت مركزاً مزدهراً للعلم الشرعي. واشتهرت مدن مثل تريم كمراكز تعليمية وروحية عالمية، خرّجت علماء ودعاة أسهموا في نشر الإسلام المعتدل في أنحاء العالم. وعلى الرغم من اشتراكهم في النسب الهاشمي، فقد تمايز سادة حضرموت عن نظرائهم في المرتفعات الشمالية بابتعادهم عن الطموحات السياسية وتجنبهم للانخراط في العنف، مكرسين مكانتهم من خلال العلم والورع والسلوك الأخلاقي.
كمل كان للعلماء والتجار الحضارم دورًا مركزيًا في نشر الإسلام إلى انحاء العالم المختلفة، وقد تميزت جهودهم الدعوية بالسلمية، والتركيز على الموعظة الحسنة، والقدوة الأخلاقية، والتعليم، دون الاعتماد على الفتح العسكري أو السلطة السياسية.[23] وقد تركت الطريقة العلوية أثرا عميقا في الحركات الصوفية الأخرى في خارج اليمن، كما هو الحال مع جماعات وطرف صوفية في إندونيسيا وماليزيا وشرق افريقيا، التي تأسست على يد علماء من أصول حضرمية. وما زالت مؤسسات مثل دار المصطفى ورباط تريم تلعب دورا رائدا في حفظ ونشر التعاليم العلوية. وقد تحولت هذه المؤسسات إلى وجهات دراسية عالمية يقصدها طلاب من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، مما حافظ على استمرارية التصوف الحضرمي في ظل تصاعد المد السلفي والانتقادات الحداثية.
لا تزال المدرسة الصوفية تشكل أحد الركائز الأساسية في البناء الديني والاجتماعي للمجتمع. على مدى قرون، لعب التصوف دوراً محورياً في ترسيخ قيم التسامح والتعايش، وأسهم في تشكيل هوية دينية جامعة تتجاوز الانقسامات المذهبية والطائفية. ومع ذلك، تعرّضت التقاليد الصوفية لانتقادات حادة من جهات مختلفة؛ إذ اعتبرتها التيارات السلفية قبورية منحرفة عن مبادئ التوحيد الخالص، في حين رأتها بعض التيارات العلمانية تجسيد للجمود الديني والإيمان بالخرافات، بينما تنظر إليها تيارات الإسلام السياسي بوصفها أداة تستخدمها السلطة الحاكمة لتخدير الشعوب. غير أن هذا النقد يغفل حقيقة أساسية، وهي أن التصوف في جنوب اليمن لم يكن مجرد ممارسة روحية، بل منظومة تربوية واجتماعية متكاملة، أسهمت في إنتاج نخب علمية وأخلاقية، وفي تعزيز الاستقرار المجتمعي، لا سيما في مناطق مثل حضرموت. وقد لعبت مؤسسات التصوف، وعلى رأسها الطريقة العلوية، دوراً حاسماً في حفظ التراث الحضرمي ونقله عبر الأجيال، مع الحفاظ على استقلالها عن الصراعات السياسية. [24]
المبحث الرابع: العلاقات السنية–الشيعية في اليمن الحديث
شكل سقوط الدولة الزيدية في شمال اليمن عام 1962م، وإعلان النظام الجمهوري، فرصة تاريخية لتجاوز الانقسامات المذهبية في البلاد. وقد تبنت الجمهورية الناشئة خطابا وطنيا، يقوم على فكرة المواطنة المتساوية بدلاً من المرجعيات الطائفية أو السلالية، مما أعطى إمكانية حقيقية لإعادة بناء المجال الديني على أسس أكثر شمولا ونزع فتيل التوترات المذهبية. غير أن الممارسات السيئة على أرض الواقع لشخصيات النظام الجمهوري لم ترق إلى مستوى هذا الخطاب. وقد رأت قطاعات واسعة من النخبة الزيدية أن النظام الجمهوري الجديد أدى إلى تراجع نفوذها الديني والسياسي.[25]
وجاء هذا التراجع لصالح جماعات سنية منافسة تبنت رؤى عقائدية وأيديولوجية مغايرة، في مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين التي بدأت بالتغلغل في مؤسسات الدولة بعد نجاح قيام الجمهورية. وقد لعبت عدد من الشخصيات المنتمية للتنظيم او المتأثرة بفكر الإخوان المسلمين دورا مهما في الثورة ضد الحكم الإمامي في شمال اليمن عام 1962، من أبرزهم محمد محمود الزبيري وعبد الله عبد الوهاب نعمان وعبد الرحمن البيضاني[26]. ورغم عدم وجود تنظيم رسمي للإخوان المسلمين في اليمن آنذاك، فإن العديد من الطلاب اليمنيين تأثروا بفكر الجماعة أثناء دراستهم في مصر. وقد تعزّز حضور الإخوان المسلمين في المجال الديني والاجتماعي خلال فترة ما قبل الوحدة، دون إطار تنظيمي معلن، إلى أن تم تأسيس حزب التجمع اليمني للإصلاح في 13 سبتمبر 1990، ككيان سياسي يجمع شخصيات إخوانية ومكونات قبلية وسلفية، وهو ما شكّل انتقالًا رسميًا لنشاط الجماعة إلى العلن ضمن إطار حزبي معترف به.
اما بالنسبة للتيار السلفي، فقد بدأ في اليمن بدعم مباشر من السعودية، كرد فعل على تصاعد النفوذ الشيعي بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.[27] وكان الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، بعد عودته من السعودية، من أبرز وجوه هذا التحول، حيث أسس مركز دار الحديث في دماج بصعدة، الذي أصبح منطلقًا لنشر الفكر السلفي وتخريج دعاة انتشروا في مناطق عدة في اليمن شمالا وجنوبا أمثال عبد العزيز البرعي، ويحيى الحجوري، ومحمد الإمام، وعبد الرحمن العدني، وخالد الأنصاري، وأحمد بن عثمان. تركّز النشاط السلفي على التعليم والدعوة، وامتد تأثيره في الشمال إلى مناطق زيدية تقليدية، مما أدى إلى تراجع حضور الزيدية في مؤسسات التعليم والخطاب الديني، وصعود المدارس السنية على حسابها.
تأسس "حزب الحق" في عام 1990 لتمثيل التيار الزيدي سياسيًا في إطار التعددية الحزبية الجديدة، لكنه لم ينجح في تحقيق الأثر المرجو، ما مهّد الطريق لظهور حركة "الشباب المؤمن" في صعدة عام 1992، بمبادرة من علماء دين ومثقفين زيديين، أبرزهم محمد عزان ومحمد بدر الدين الحوثي، بهدف إحياء المذهب الزيدي وتعزيز الهوية الدينية في مواجهة تصاعد التيارات السلفية والاخوانية في شمال اليمن.[28] وقد ركزت الحركة في بدايتها على تنظيم الدروس الدينية، وإقامة الأنشطة الثقافية والمعسكرات الصيفية للشباب. وفي أواخر التسعينيات، تولى حسين بدر الدين الحوثي دورا قياديا داخل الحركة، وبدأ في توسيع خطابها ليشمل قضايا سياسية، مناهضة للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، متأثرا بشعارات الثورة الإيرانية. ومع اندلاع أول مواجهة مسلحة مع الحكومة اليمنية في عام 2004، تحول تنظيم "الشباب المؤمن" إلى جماعة سياسية-عسكرية عرفت لاحقا باسم "أنصار الله"، أو الحركة الحوثية نسبة الى المؤسس.
تصاعد الخطاب الطائفي بشكل ملحوظ مع صعود الحركة الحوثية كقوة سياسية وعسكرية في حروب صعدة وبشكل أوضح بعد عام 2011، بالتزامن مع اشتداد المواجهات المسلحة بينها وبين خصومها من الجماعات السلفية. وقد بلغ هذا التصعيد ذروته في معركة دماج، التي شهدت خطاب تعبوي حاد من الطرفين. في المقابل، لعبت الجماعات السلفية دورًا موازيًا في تأجيج الانقسام المذهبي من خلال خطابها الإقصائي والتحريضي في المساجد، وتجريمها للتيارات الأخرى، وخاصة الشيعية، ما ساهم في خلق حالة استقطاب مذهبي غير مسبوق في المجتمع اليمني المعاصر.
وما زاد من خطورة هذا التحول أن الطابع الطائفي لم يبق محصور في صعدة، بل اتسع وانتشر بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر 2014، وبدء محاولاتهم التوسع نحو المناطق الجنوبية. ومع اتساع رقعة المواجهات، بات الخطاب السياسي والأيديولوجي أكثر انكشاف في مضامينه المذهبية، مما ساهم في تعميق مشاعر الرفض والمقاومة داخل قطاعات واسعة من المجتمع السني، لا سيما في الجنوب والمناطق ذات الأغلبية الشافعية.
ويمثل هذا التحول الطائفي نقطة تحول حاسمة في تاريخ اليمن الجمهوري في الشمال، إذ إن الانتماء المذهبي لم يكن، حتى ذلك الوقت، يشكل محور مركزي في الحياة الاجتماعية. فعلى الرغم من قرون من التمايزات المذهبية، ظل التعايش بين الزيود والشوافع هو السمة الغالبة، وتميز المجتمع في اليمن بتقاطع مذهبي واسع، حيث انه من الشائع أن يصلي أبناء المذهبين في المساجد نفسها، وأن يتزوجوا فيما بينهم، ويتشاركوا الفضاءات الدينية والاجتماعية دون احتكاكات تذكر. أما المناطق الجنوبية، فكانت تتميز بتجانس مذهبي نسبي، حيث يسود فيها المذهب الشافعي منذ قرون، إلى جانب انتشار واسع للطرق الصوفية التي شكّلت المكوّن الديني الأبرز في المجتمع الجنوبي، قبل أن تبدأ السلفية والإسلام الحركي بالظهور والانتشار، خاصة بعد أفول دور الدولة في المجال الديني عقب الوحدة عام 1990، وهو ما فتح المجال أمام قوى دينية متعددة لإعادة تشكيل المشهد الديني، كما سيتم تفصيله في الأوراق القادمة.
الخاتمة ونتائج الدراسة
تبيّن هذه الورقة، من خلال تتبع السياق التاريخي والديني لجنوب اليمن منذ ما قبل الإسلام وحتى نهاية العهد العثماني، أن الهوية الدينية في هذه المنطقة نشأت في سياق تفاعلات اجتماعية وسياسية وثقافية معقدة، على المستويين الداخلي والخارجي. فالتعدد الديني في المراحل الاولى، والتحولات التي أعقبت دخول الإسلام، ثم انقسام المذاهب، جميعها شكلت مراحل مفصلية ساهمت في بناء هوية دينية مركبة، عبّرت عن نفسها بطرق مختلفة في كل مرحلة تاريخية.
وقد لعبت السلطة السياسية بأشكالها المختلفة وفي المراحل المتعددة، دورًا بارزًا في تشكيل هذه الهوية، سواء عبر فرض مذهب رسمي، أو عبر دعم شبكات العلماء والمدارس الدينية، أو من خلال التفاعل مع القوى المحلية والخارجية. لكن بطبيعة الحال، لم تكن الهوية الدينية مجرد انعكاس لتفضيلات السلطة، بل أسست ايضا لنظام معقد من الانتماءات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وساهمت في رسم الحدود بين الجماعات والمناطق، وتحديد من يُعدّ "من الداخل" ومن يُصنّف "من الخارج".
وفي هذا السياق، شكلت الهوية الدينية وسيلة للتمايز على المستوى الرسمي والشعبي، بل وأحيانًا للتحالف مع قوى خارجية أو داخلية، بحسب تغير السياقات الزمنية والمكانية. ورغم استمرار الانقسام المذهبي والصراع السياسي، فإن أجواء التعايش الديني استمرت لفترات طويلة، خاصة بفضل حضور التصوف الذي قام على قيم التسامح والانفتاح وقبول الآخر، قبل أن تبدأ ملامح التوتر بين المذاهب والتيارات في الظهور بشكل حاد في العقود الأخيرة بسبب قوة شوكة الحركات الدينية السنية والشيعية في المنطقة العربية والإسلامية وما لها من ارتدادات في اليمن.
وفيما يلي أبرز استنتاجات الدراسة:
• الهوية الدينية في جنوب اليمن تشكلت بصورة تراكمية، متأثرة بعوامل محلية قبلية سياسية وخارجية متعددة.
• سادت في الحقبة السابقة للإسلام ديانات متعددة، منها الوثنية واليهودية والمسيحية والمجوسية، مما أرسى أرضية دينية متنوعة.
• انتشر الإسلام بصورة تدريجية، واعتمد على جهود منظمة من قبل النخبة السياسية المتصدرة لترسيخه في المجتمع القبلي.
• تشكل الانقسام السني–الشيعي لاحقًا، مع بروز الزيدية في الشمال والإسماعيلية في بعض المناطق الاخرى، ما أوجد نماذج دينية–سياسية مثلت السلطة المركزية.
• كان للتصوف دور محوري في ترسيخ الإسلام الوسطي في اليمن الأسفل والمناطق الساحلية، وأسهم في نشره في الخارج، خصوصًا المدرسة الصوفية الحضرمية.
• سعت الدولة العثمانية إلى ترسيخ المذهب السني الحنفي، لكنها اصطدمت بالمقاومة الزيدية في الشمال، ما عمّق الانقسام الديني بين السنة والشيعة.
• رسّخت الانقسامات الإدارية والسياسية بين الشمال الزيدي والجنوب السني هذا التمايز المذهبي، خاصة خلال الحكم العثماني الثاني وعهد الاستعمار البريطاني.
• شهد العصر الجمهوري في الشمال صعودًا للتيارات السنية (السلفية والإخوانية) على حساب الزيدية التقليدية، مما أدى إلى ظهور حركات زيدية إحيائية أبرزها حركة "الشباب المؤمن" ثم الحوثيون.
• رغم التعدد المذهبي، حافظ اليمن لفترات طويلة على توازن مذهبي نسبي وتعايش اجتماعي، قبل أن تؤدي النزاعات السياسية الأخيرة إلى تطييف المشهد الديني وتصاعد الاستقطاب.
التوضيحات
(1) تستخدم هذه الورقة مجموعة من المصطلحات بشكل متبادل للإشارة إلى الوحدة الجغرافية المعنيّة في الدراسة (جنوب اليمن)، بما في ذلك اليمن، وجنوب الجزيرة العربية، واليمن الأسفل، وذلك بما يتناسب مع السياق التاريخي والسياسي.
قبل 3 أشهر