التقارير الخاصة

عيد الأضحى في اليمن: ملابس مستعملة ولحوم مؤجّلة

طفل يجلس بجوار عربة متنقلة لبيع المكسرات في سوق شعبي بمدينة عتق، بمحافظة شبوة، 29 مايو (مركز سوث24)

آخر تحديث في: 04-06-2025 الساعة 8 صباحاً بتوقيت عدن

مركز سوث24 | عبد الله الشادلي


في كل عام، يستعد اليمنيون لاستقبال عيد الأضحى بقلوب مفعمة بالحنين، لا سيما في ظل سنوات الحرب الطويلة التي عمّقت الجراح وبددت الكثير من طقوس البهجة المتوارثة. غير أن العيد هذا العام، الذي يبدأ يومه الأول في 6 يونيو الجاري، يحلّ عليهم في ظروف اقتصادية قاسية، حيث تلتف الأزمة المعيشية حول تفاصيل حياتهم اليومية، تاركة أثراً بالغًا في كل ما كان يومًا رمزًا للفرح: من الأضاحي والملابس الجديدة إلى مجرد القدرة على توفير وجبة تليق بالمناسبة.


وبينما تتجدد أماني الأطفال بقدوم عيد يُلبسهم الفرح ويلون أيامهم بملابس جديدة ورائحة الشواء، تتكسر هذه الأماني على صخرة الواقع القاسي. فبدلًا من مشهد الأضحية أمام البيوت، كما جرت العادة في أحياء المدن اليمنية وقراها، يجد كثير من الأهالي أنفسهم مضطرين للتخلي عن هذه الشعيرة، أو البحث عن بدائل رمزية لا توازي شيئًا من المعنى الحقيقي للعيد.


تتراجع قدرة الأسر على الاحتفال عامًا بعد عام، في ظل انهيار متسارع للعملة المحلية، وتضخم بلغ مستويات غير مسبوقة، ما حوّل العيد – في نظر الكثيرين – من مناسبة دينية واجتماعية إلى مناسبة تُذكّرهم بما فقدوه، وما لم يعودوا قادرين عليه. ولأول مرة منذ عقود، باتت أسواق "البالة" والمساعدات الفردية تشكّل مظاهر "استثنائية" للاحتفال، فيما الغالبية تقاوم شعور العجز أمام أبسط متطلبات العيد.


سوق الملابس


في ظل التضخم الجامح وانهيار العملة المحلية، بات التحضير لعيد الأضحى رفاهية لا يقدر عليها كثيرون في اليمن. حيث يتراوح متوسط راتب الموظف الحكومي الذي يتقاضى راتبه بانتظام بين 60 – 90 ألف ريال يمني فقط، أي ما يعادل حوالي 23 – 35 دولارًا أمريكيًا، وهو مبلغ بالكاد يكفي لتغطية الأساسيات لعدة أيام.



سوق شعبية للملابس وأغراض أخرى في العاصمة عدن، 21 فبراير 2024 (مركز سوث24)


في ظل هذا التدهور، أصبحت ملابس العيد الجديدة خارج نطاق التناول. فالقطعة الواحدة من ملابس الأطفال متوسطة الجودة تُباع بحوالي 20,000 ريال يمني، أي قرابة 7.8 دولارات أمريكية. وهكذا، تتجه أعداد متزايدة من الأسر اليمنية نحو "أسواق البالة"، أي أسواق الملابس المستعملة، بحثًا عن خيارات أرخص تمنح أطفالهم الحد الأدنى من فرحة العيد.



شاب يعرض معاوز [لباس تقليدي للرجال] في سوق شعبي بمدينة عتق، محافظة شبوة، 29 مايو (مركز سوث24)


تقول خديجة الصلوي لمركز سوث24، وهي أم لأطفال من محافظة تعز: "أسعار الملابس الجديدة نار، ومعاش زوجي المتوفى لا يكفينا طعامًا لأسبوع. أبحث عن ملابس مستعملة، حتى لو كانت ممزقة أو قديمة، فقط ليشعر أطفالي بأن العيد قد أتى."



تشكل الطرق الوعرة مشكلة إضافية لتنقل اليمنيين خلال فترة العيد - صورة من عزلة الأقروض - مديرية المسراخ - محافظة تعز، أكتوبر 2022 (مركز سوث24)


رغم ذلك، لم يعد ارتياد هذه الأسواق مقتصرًا على الفقراء، بل يشمل شرائح من متوسطي الدخل. ويبلغ متوسط سعر البنطال الجديد حوالي 30,000 ريال يمني (11.7 دولار)، بينما يمكن شراؤه من البالة ب ـ8,000 ريال فقط (3.1 دولار). 


بحسب علي السروري، أحد بائعي البالة اليمنيين، تتراوح الأسعار بين 1,000 و10,000 ريال (0.4 إلى 3.9 دولار). لكنه يضيف أن تجارة البالة ليست خالية من المحاذير، خصوصًا من الجانب الصحي. وهو ما يؤكد عليه سالم التميمي، طالب في كلية الطب بجامعة حضرموت، محذرًا من مخاطر العدوى في حال عدم غسل الملابس المستعملة وتعقيمها جيدًا قبل استخدامها.


الأضحية الصعبة


ينما تنجح "البالة" في إنقاذ بعض مظاهر العيد، تبقى الأضحية – رغم رمزيتها – حلمًا أبعد من متناول ملايين اليمنيين.


لطالما كانت الأضحية في عيد الأضحى إحدى الشعائر الأكثر ارتباطًا بهوية العيد لدى اليمنيين، تجمع بين العبادة والفرح والتكافل. إلا أن ارتفاع أسعار المواشي هذا العام حوّل هذه الشعيرة إلى رفاهية باهظة الثمن، أقرب إلى المستحيل بالنسبة لكثير من الأسر.



سوق شعبي تتوفر فيه أضاحي للبيع، مدينة عتق بمحافظة شبوة، 29 مايو 2025 (مركز سوث24)


في محافظة الضالع، على سبيل المثال، بلغ سعر الثور كبير الحجم نحو أربعة ملايين ريال يمني، ما يعادل حوالي 1,564 دولارًا أمريكيًا. أما الثور متوسط الحجم فبلغ ثلاثة ملايين ريال (قرابة 1,173 دولارًا، في حين يُباع الثور الصغير بمبلغ 2.4 مليون ريال938 دولارًا تقريبًا. وهي أسعار لا توازيها القدرة الشرائية لأي موظف يمني يتقاضى راتبًا حكوميًا لا يتجاوز  23.5 دولارًا شهريًا.


أما الأغنام، التي كانت تقليديًا الخيار الأكثر شعبية، فقد تضاعفت أسعارها بشكل صادم. في عدن، يُباع الخروف الكبير بنحو 600 ألف ريال =  235 دولارًا، والمتوسط بين 350 و400 ألف ريال =  137 – 156 دولارًا. بينما يبلغ سعر الصغير حوالي 250 ألف ريال 98  = دولارًا . وفي حضرموت وشبوة، لا تختلف الأسعار كثيرًا، بل تجاوز سعر بعض الخراف في شبوة 1200 ريال سعودي = حوالي 316 دولارًا أمريكيًا.



سوق شعبي تتوفر فيه أضاحي للبيع، مدينة الضالع، 29 مايو 2025 (مركز سوث24)


أمام هذه الأرقام، لم تعد الأضحية خيارًا واقعيًا. يقول محمد سالم، من الضالع، بوضوح: "نحن نكافح لتوفير وجبة طعام يومية، أما الأضحية فقد أصبحت من ذكريات الماضي." ويضيف عبد الله ناصر، عامل بالأجر اليومي من شبوة: "إذا توفّر شيء بعد الطعام والدواء، ربما أشتري ملابس مستعملة لأحد أطفالي. الأضحية ليست ضمن أولوياتي."


وبدلًا من ذلك، تلجأ بعض الأسر إلى التشارك في شراء أضحية واحدة. الطفل أحمد (10 سنوات) من وادي حجر في حضرموت عبّر عن حال آلاف الأطفال قائلاً: "أمي قالت إنها ستشتري دجاجة بدلاً من خروف."


وبهذا، لم تعد الأضحية تغيب فقط عن المائدة، بل عن المخيلة أيضًا، بعدما صارت رمزًا للفجوة الهائلة بين طقوس العيد وواقع اليمنيين.



أغنام في حضيرة تتبع إحدى مربيات المواشي، وادي حجر، محافظة حضرموت، 18 أغسطس 2024 (مركز سوث24)


المبادرات المجتمعية


في اليمن، أصبحت بعض المبادرات الخيرية في الأعياد شرياناً مؤقتاً لإنعاش ما تبقى من مظاهر الحياة. غير أن المراقب لحال عيد الأضحى هذا العام يلحظ غياباً لافتاً لدور منظمات المجتمع المدني في سد الفجوة الإنسانية المتسعة، ما جعل كثيراً من الأسر تواجه العيد دون سندٍ مؤسسي يخفف وطأة الفقر المتزايد.


في هذا السياق، يؤكد عبد الوهاب شمسان، الباحث الاجتماعي من حضرموت، أن الجمعيات المحلية تواجه عجزاً كبيراً في مواكبة احتياجات الناس، خصوصاً في موسم تتضاعف فيه المتطلبات. يقول: "هناك ضعف واضح في قدرة الجمعيات على تلبية الاحتياجات الهائلة، خاصة في مواسم الأعياد. معظم المبادرات التي تُرصد ميدانيًا هي جهود فردية أو محاولات تكافل تقليدية داخل الأحياء، لكنها غير كافية أمام حجم الأزمة".


ورغم جهود بعض المبادرات الصغيرة، تظل الصورة العامة قاتمة. فالمساعدات الموسمية التي كانت تصل عبر قنوات مؤسسية أو شراكات دولية تقلّصت، إمّا بسبب ضعف التمويل، أو غياب التخطيط المنهجي، أو حتى تراجع الثقة بين الجهات المانحة والفاعلين المحليين. وهكذا، تتضاعف الفجوة الإنسانية، ويُترك المواطن لمواجهة الغلاء وحده، دون غطاء يحميه أو يد تسانده.



مجموعة زبائن يبتاعون مستلزمات العيد من محل تجاري، مدينة الضالع، 29 مايو 2025 (مركز سوث24)


في ظل هذا الغياب، تعود القيم الدينية والاجتماعية إلى الواجهة كمصدر عزاء ومرجعية لتفسير العجز الجماعي. وهنا يبرز تساؤل جوهري: ما حكم العاجز عن الأضحية شرعاً؟ وهل يتحول الشعور بالتقصير إلى ذنبٍ إضافي في ضمير المواطن المثقل أصلاً بالهموم؟


يجيب الشيخ محمد السومحي، أستاذ العلوم الشرعية، على هذا التساؤل بثقة وتطمين: "الأضحية بلا شك سنة مؤكدة للقادر عليها، أما من كان غير قادر بسبب الفقر أو الغلاء، فلا حرج عليه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها". ويضيف في حديثه لمركز سوث24: "باب الصدقات مفتوح، وإدخال الفرحة على قلوب الأطفال والأسر المحتاجة بأي شكل من أشكال المساعدة، سواء كانت مالاً أو طعاماً أو كساءً، هو من أعظم القربات إلى الله تعالى، وقد يكون أجره أعظم في مثل هذه الظروف."


لكن حتى هذه المبادرات الفردية، التي تنبع من فطرة التعاطف والتكافل، لا يمكن أن تكون بديلاً دائماً. فالمأساة التي يواجهها اليمنيون لم تعد موسمية، بل هي امتداد يومي لمعركة مع الغلاء، وانهيار الاقتصاد، وتآكل البنى الخدمية. ومع حلول عيد الأضحى، تتجلى هذه المأساة على نحو رمزي ومرير: عيدٌ بلا أضاحٍ، ولا ملابس جديدة، ولا لحظات احتفال تُذكر.



شاب يشتري مكسرات وحلويات العيد من بائع في عربة متنقلة بسوق شعبي بمدينة عتق، محافظة شبوة، 29 مايو 2025 (مركز سوث24)


وإذ يتمسك اليمنيون بخيوط الأمل، ويحاولون جاهدين صناعة فرحٍ جزئي وسط أنقاض الأزمات، تبقى الحاجة إلى تدخلات جادة، منظمة، ومستدامة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فالعيد هذا العام لم يكن فقط اختبارًا للقدرة على الاحتفال، بل مرآة لانكشاف الواقع، وصرخة صامتة تطالب بحلول لا تأتي.


وبينما يحاول اليمنيون رسم ابتسامة على وجوه أطفالهم بما تيسّر، تظل حاجتهم الأكبر هي استعادة كرامتهم الاقتصادية وحقوقهم الإنسانية. فالعيد لا يكون عيداً إلا حين يعود الأمن، وتُصرف الرواتب، وتُحيى الأسواق، وتُكسر حلقات الفقر... عندها فقط، يمكن للعيد أن يُعلن قدومه بصوته الحقيقي: تكبيرات صادقة من أفواه ممتلئة بالطعام، وقلوب مطمئنة بالكرامة.


صحفي ومحرر لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا