التحليلات

من آسيا إلى أفريقيا: تنظيم القاعدة يعيد رسم خريطته الجهادية

قوات أمن صومالية - جيتي ايميج

02-06-2025 الساعة 10 صباحاً بتوقيت عدن

"هذا التحول الجغرافي يعكس سعي التنظيم لإعادة التموضع في بيئات صراعية أقل خضوعا للرقابة الدولية وأكثر قابلية للاختراق من حيث الحدود والسلطة المركزية، ما يمنحه فرصة لإعادة بناء شبكاته وتعزيز نفوذه الإقليمي.."



مركز سوث24 | إبراهيم علي


بعد عقدين من الزمن على ذروة نفوذه في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، يبدو أن تنظيم القاعدة بصدد كتابة فصل جديد في تاريخه، حيث ينتقل مركز ثقله العملياتي من جبال أفغانستان واليمن إلى سهول الصومال وصحارى الساحل الأفريقي. هذا التحول لا يعكس فقط إعادة تموضع تكتيكية، بل يكشف عن تغير عميق في بنية الجغرافيا الجهادية العالمية.


في أفغانستان، تراجعت القاعدة إلى هامش المشهد الجهادي، لا سيما بعد صعود طالبان مجددا للسلطة عام 2021. رغم العلاقة التاريخية بين الطرفين، فإن التوازنات السياسية الجديدة فرضت على طالبان مسافة محسوبة من التنظيم، في ظل التزاماتها الدولية. في المقابل، صعد نجم تنظيم "داعش – خراسان" كمنافس أكثر دموية وجرأة. أما في اليمن، فعلى رغم الضربات القاسية التي تلقّاها تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بين عامي 2015 و2025، والتي أدّت إلى تراجع نفوذه وطرده من معاقله الاستراتيجية، فإن التنظيم حاول خلال الأشهر الأخيرة استعادة أنفاسه، مستغلا مشهد معقّد من التحالفات المتبدّلة والصراعات المتعددة.


ترجع هذه العودة المتدرجة لعوامل متعددة، لعل أبرزها تغيّر العلاقة بين التنظيم وجماعة الحوثي، حيث تشير التقارير الميدانية والاستخبارية إلى أن المواجهة المباشرة بين الطرفين قد خفّت وتيرتها أو توقفت تماما منذ العام 2022، لتفسح المجال أمام نوع من التعاون والتوازن غير المعلن، يمكّن كلا منهما من التركيز على خصومه الأساسيين. وقد أكدت تقارير محلية ودولية أكثر من مرة على تلقي القاعدة تقنيات عسكرية للطائرات المسيرة من الحوثيين لمواجهة القوات الجنوبية. كما أنَّ انتهاء وجود تنظيم داعش في اليمن بشكل شبه كامل، وفقدانه لقاعدته التنظيمية والعملياتية، أزاح عن القاعدة منافسا عنيدا كان يستنزف قدراته ويهدد نفوذه في عدة مناطق. 


ومع ذلك، فإن تنظيم القاعدة في اليمن مازال يعيش تبعات الأزمات المتراكمة التي ضربته خلال السنوات الماضية، بما فيها الانشقاقات الداخلية، وعمليات الاستهداف الجوية الدقيقة لقياداته إلى جانب العمليات الميدانية التي تقودها القوات الجنوبية ضمن عملية "سهام الشرق". إضافة إلى فقدان الحاضنة الشعبية في كثير من المناطق بفعل تطرّفه وارتباطه بأجندات خارجية.


الصومال: معقل متجدد لحركة الشباب


في مقابل ذلك، تتجه الأنظار إلى الجبهة الجديدة للجهاد العالمي. ففي الصومال، تمكنت حركة الشباب، الفرع الصومالي المرتبط بالقاعدة، من فرض سيطرتها على مناطق واسعة، مستفيدة من هشاشة الدولة والانقسامات القبلية. إذ لا يمر أسبوع من دون عمليات مسلّحة تنفذها الحركة: تفجيرات، اغتيالات، وهجمات على قواعد عسكرية. 

وقد شملت أبرز عملياتها الأخيرة هجمات موسعة في وسط وجنوب الصومال استهدفت قواعد عسكرية ومؤسسات حكومية وتجمعات مدنية، وزادت وتيرة أنشطتها قرب العاصمة مقديشو حيث باتت تستهدف مواقع الجيش وتنفذ دوريات مسلحة في محيط المدن والقرى. 


في 20 فبراير، شنّت هجوما منسقا في شبيلي الوسطى، استولت خلاله على عدة قرى لفترة مؤقتة، قبل أن تطردها القوات الصومالية وتقتل 130 عنصرا منها وفقًا للبيانات الحكومية. بينما أشارت تقارير إعلامية إلى الاستيلاء على مركبات عسكرية وأسلحة ومقتل 93 شخصًا خلال الهجوم. وفي 27 فبراير، هاجمت الحركة المتطرفة مدينة بلعد واشتبكت بعنف مع القوات الحكومية قبل أن تُجبر على الانسحاب. أما في 11 مارس، فقد استهدفت فندقا في بلدوين وسط الصومال، حيث قتلت عشرة أشخاص بينهم مدنيون وعسكريون بعد حصار دام 24 ساعة. 


وفي 18 مارس، نفذت الحركة محاولة اغتيال استهدفت الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود بعد قنبلة طالت موكبه، ما أسفر عن مقتل أربعة أشخاص وأثار إدانات دولية من بينها الأمم المتحدة. تلا ذلك في 19 مارس قصف مجمع هالاني المحصّن قرب مطار آدم عدّي في مقديشو، والذي يضم بعثات أممية وأفريقية وسفارات أجنبية. وفي 20 مارس، شنّت الحركة هجمات مزدوجة في شبيلي السفلى، استهدفت خلالها قرية سابيد ونفذت كمينا لقافلة تعزيزات، ما أسفر عن مقتل ضابط عسكري كبير. 


ويوم 24 أبريل، اندلعت اشتباكات عنيفة بين مقاتلي حركة الشباب والقوات الحكومية الصومالية للسيطرة على قاعدة عسكرية استراتيجية في منطقة شبيلي الوسطى. وقد زعمت الحركة السيطرة على القاعدة، بينما أكدت الحكومة استعادة السيطرة بدعم من الغارات الجوية. وفي 18 مايو، استهدف انتحاري تجمعًا لتجنيد الجيش في قاعدة دامانييو العسكرية بمقديشو، مما أسفر عن مقتل 10 أشخاص وإصابة 30 آخرين. 


تجدر الإشارة إلى أن ما ورد أعلاه كان رصدا لأبرز العمليات فقط، وليس إحصائية كاملة، إذ تشير المعلومات إلى أن هجمات حركة الشباب في الصومال منذ بداية عام 2025 بلغت 644 هجوما بين شهري يناير ومايو، بينما وصلت حصيلة الضحايا 1376 قتيلا وجريحا، بينهم مدنيون وعناصر أمنية. أما في منطقة الساحل الأفريقي، فتتوسع "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، فرع القاعدة هناك، وسط غياب شبه كامل للدولة. بعد سلسلة انقلابات في مالي وبوركينا فاسو، وجدت الجماعة في الفراغ السياسي فرصة ذهبية للتمدّد، متفوقة في بعض الأحيان على "داعش – غرب أفريقيا" في كسب ولاءات محلية


ولا شك أنَّ التحول من آسيا إلى أفريقيا لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة لعدة عوامل متداخلة: أمنيا؛ تراجع الضغط العسكري في أفريقيا مقارنة بالضربات المركزة في اليمن وأفغانستان؛ سياسيا، هشاشة الحكومات وانهيار السلطة المركزية شكّلت بيئة مثالية للجماعات المسلحة؛ اجتماعيا، الفقر، التهميش، والانقسامات الإثنية تسهّل تجنيد الشباب؛ وجغرافيا، تضاريس وعرة ومساحات حدودية مفتوحة تعقد عمليات المكافحة الأمنية. ووفقا لتقرير "مؤشر الإرهاب العالمي 2025"، فإن منطقة الساحل الأفريقي أصبحت بؤرة جديدة للإرهاب، حيث شهدت أكثر من نصف وفيات الإرهاب عالميا في عام 2024، مع وقوع 17 من أصل 20 من أكثر الهجمات دموية في العالم في هذه المنطقة.


وعليه يبقى التحدي أمام صانعي السياسات مضاعفا، في ظل انسحاب تدريجي للقوى الغربية من القارة، وضعف الاستجابة الإقليمية، وتعدد الفاعلين الجهاديين. ورغم محدودية الموارد لدى فروع القاعدة في أفريقيا، إلا أنها استطاعت أن تبني شبكات محلية قوية، وتمارس "جهادا منخفض الكلفة"، لكنه عالي التأثير.


اليمن: ساحة استراتيجية


من خلال ما تقدم، يمكن القول إنَّ هذا التحول الجغرافي يعكس سعي التنظيم لإعادة التموضع في بيئات صراعية أقل خضوعا للرقابة الدولية وأكثر قابلية للاختراق من حيث الحدود والسلطة المركزية، ما يمنحه فرصة لإعادة بناء شبكاته وتعزيز نفوذه الإقليمي. وعلى رغم أن التمركز الجديد للتنظيم يبدو بعيدا جغرافيا عن اليمن، إلا أن فرع القاعدة في شبه الجزيرة العربية (القاعدة في اليمن) يعد من أكثر الجهات المرشحة للاستفادة من هذه التطورات. ويعود ذلك إلى العلاقات التاريخية واللوجستية القوية التي تجمعه بـحركة الشباب الصومالية، والتي تعد الذراع الأبرز للقاعدة في شرق أفريقيا. التقارير الاستخباراتية تشير إلى وجود شبكات تهريب وتعاون عملياتي نشطة بين الطرفين منذ سنوات، تشمل تهريب السلاح والمقاتلين وتمويل العمليات. وتتقاطع هذه العلاقة أيضا مع المعادلة الإقليمية المعقدة التي يمثلها الحوثيون في اليمن. فبرغم التباعد الأيديولوجي بين الحوثيين وتنظيم القاعدة، إلا أن الطرفين تربطهما صلات وثيقة مع حركة الشباب الصومالية، سواء عبر قنوات تهريب مشتركة أو مصالح لوجستية متقاطعة، خاصة في البحر الأحمر وخليج عدن. 


ووصف رئيس مجلس الأمن العلاقة بين الحوثيين وحركة الشباب بأنها "تعاقدية أو انتهازية". وحذرت الولايات المتحدة أيضا من تزويد الحوثيين لحركة الشباب بالأسلحة، كاشفة عن اجتماعات جرت بين الطرفين. وأشار تقرير الخبراء الصادر عن مجلس الأمن في مارس 2025 إلى أنّ "حركة الشباب" تلقت أسلحة وذخائر ومتفجرات متنوعة من اليمن عبر مينائي ماركا وبراوه في محافظة شبيلي السفلى. وتشير تقارير إلى أن الحوثيين يقدمون دعما لوجستيا وعسكريا متزايدا، قد يشمل تزويد تلك الجماعات بأسلحة متطورة وتدريب على استخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ، ما يرفع من احتمالية استهداف طرق الشحن الحيوية في المنطقة. هذا التطور الخطير يعكس الدور التخريبي الذي تضطلع به الجماعة في زعزعة استقرار الأمن الإقليمي والدولي. ومما لا شك فيه أنَّ هذا الارتباط الجغرافي والبحري يجعل من التهريب بين اليمن والصومال أمرا ميسرا، ويعزز فرص التنسيق بين فرعي التنظيم إلى جانب جماعة الحوثيين.


وفي ضوء ذلك، من المرجح أن يعيد فرع "القاعدة في اليمن" تعزيز مكانته ضمن الهيكل الدولي للتنظيم، مستفيدا من عوامل الجغرافيا، والتحالفات غير الرسمية، والانفلات الأمني في مناطق الساحل والصومال. وفي حال لم يتم مواجهة هذا التحول بتنسيق أمني إقليمي ودولي فعال، فإن خطوط التهريب والتمويل بين اليمن وشرق أفريقيا قد تتحول إلى شرايين دعم حيوية تعيد ضخّ الحياة في جسد التنظيم المتشظي.


إنَّ مواجهة هذا التحول لا يمكن أن تقتصر على المقاربات الأمنية وحدها، بل تتطلب استراتيجية شاملة تدمج الأبعاد التنموية، وتعزز من قدرات الحوكمة المحلية، إلى جانب تطوير منظومات التنسيق الاستخباراتي بين الدول الإقليمية. ويظل المشهد في مناطق مثل الصومال والساحل بحاجة ماسة إلى دراسات ميدانية معمقة، تستند إلى فهم حقيقي للواقع على الأرض، وتكشف ملامح التحول في الجغرافيا الجهادية بما يتجاوز الصور النمطية والتغطيات الإعلامية السريعة.


إبراهيم علي

اسم مستعار لباحث غير مقيم في مركز سوث24، متخصص بشؤون الجماعات المسلّحة

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا