عربي

فرص وتحديات دعم الاستقرار في البحر الأحمر

Shutterstock

آخر تحديث في: 12-05-2025 الساعة 9 مساءً بتوقيت عدن

مركز سوث24 | د. إيمان زهران


قبل الإعلان المفاجئ لاتفاق أمريكي حوثي بشأن الهجمات على الملاحة في البحر الأحمر،  أحاطت حالة من الزخم الأمني والضبابية السياسية بمسار التفاعلات القائمة بإقليم البحر الأحمر لتنهي بذلك فترة "الهدوء النسبي" الذي كان قد بدأ عقب إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في غزة - يناير 2025. 


ويعزز تلك الفرضية إعلان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في مارس الماضي توجيهه ضربات عسكرية ضد الحوثيين في اليمن، اتساقاً مع إعلان جماعة الحوثيين استئناف هجماتها ضد السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، ومعاودة جيش الاحتلال الإسرائيلي شن الهجمات على القطاع، على نحو ما يُنذر بفصل جديد من فصول "عسكرة البحر الأحمر". وما يتبع ذلك من تهديد لحركة الملاحة البحرية والتشكيك في استئناف الإقليم لمشروعات التكامل الاقتصادي والتنموي، مما ضاعف من جُملة "الاضطرابات النوعية" بالمنطقة، ودفع بإعادة النظر في صياغة معادلات الأمن والاستقرار القائمة والمُحتملة، اتساقاً مع ملامح الاضطرابات التالية:


1. تضافر التنافس الجيوسياسي: تُدرك ذهنية "القيادة السياسية" على المستويين الإقليمي والدولي مدى مركزية المنطقة، وما توليه من أهمية نوعية نتيجة لتقاطع ثلاث دوائر أمنية (الدائرة الأمنية العربية، الدائرة الأمنية الإفريقية، الدائرة الأمنية العالمية). وعليه، تسعى العديد من القوى الدولية إلى التموضع بإقليم البحر الأحمر، مما ينعكس على تنامي القواعد العسكرية الدولية، فعلى سبيل المثال: تعج دولة جيبوتي بالكثير من القواعد العسكرية الدولية مثل القواعد الأمريكية والفرنسية والصينية.. إلخ، بما قد يدفع بمزيد من التوتر والاضطراب بالمنطقة، على نحو إعادة استنساخ ديناميكيات الحرب الباردة. [1]


2. إعادة إنتاج أنشطة القرصنة: أفضت موجة الاضطرابات الأمنية التي تحيط بالمنطقة إلى عودة نشاط القراصنة قبالة السواحل الصومالية، فقد ساهمت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر منذ نهاية عام 2023، واستئنافها في مارس 2025، في تشتيت الجهود، وحلحلة التوازن الذي كان قد تم هيكلته انعكاساً للتدابير الأممية لمكافحة القرصنة [2]. مما يضفي مزيداً من الأعباء الأمنية على بيئة البحر الأحمر، وحركة التجارة البحرية العابرة، وبالتبعية ارتفاع تكلفة التأمين البحري ضد المخاطر.


3. تنوّع التحديات الأمنية للدولة الوطنية: تؤشر تلك الفرضية على حالة التأزم بالدول الوطنية، وبروز أنشطة الفاعلين العنيفين من غير الدول، تزامناً مع تعثر فرص التسوية السياسية، خاصة في الجزء الجنوبي والشرقي من البحر الأحمر، فعلى سبيل المثال: انعكس تأزم الأوضاع السياسية والأمنية في اليمن بصورة مباشرة على هشاشة أو تعثر مأسسة آلية إقليمية فاعلة لاحتواء وردع كافة التهديدات الأمنية لبيئة البحر الأحمر.


أولاً - دوافع حوثية:


بالربع الأول من عام 2025، تبنّت جماعة الحوثيين أنماطاً تصعيدية نوعية بإقليم البحر الأحمر لعدد من الاعتبارات الداخلية والإقليمية، واتساقاً مع دعمها للقضية الفلسطينية والتطورات الميدانية الأخيرة بقطاع غزة، فعلى سبيل المثال: أعلن المتحدث باسم جماعة الحوثيين العميد يحيى سريع في بيان مصوّر في 11 مارس 2025: "استئناف حظر عبور كافة السفن الإسرائيلية في منطقة العمليات المحددة بالبحرين الأحمر والعربي، وكذلك باب المندب وخليج عدن" [3]. ولحق بذلك إعلانات متتالية و"فوضى ميدانية" بإقليم البحر الأحمر، يمكن النظر إليها استناداً إلى الأهداف التالية:


- استنزاف تل أبيب: تُبنى ملامحها على عدد من المشاهدات، أبرزها، أولاً: الإعلان عن استئناف عمليات حظر مرور السفن الإسرائيلية، وتطبيقات ذلك اتساقاً مع ما بات يُعرف بـ"حرب الناقلات البحرية"، التي بدأت أولى رهاناتها إبان عام 2017، ويُختبر فاعليتها ضمن أوراق المقايضة بالمسألة الفلسطينية والتطورات الميدانية بقطاع غزة. ثانياً: توجيه ضربات نوعية مباشرة بالداخل الإسرائيلي مثل حالة استهداف مطار بن غوريون بالصواريخ الباليستية، وأهداف عسكرية أخرى جنوب تل أبيب، ومدينة إيلات (ميناء إيلات) بطائرات مسيرة (صماد1).


- مجابهة واشنطن: تنصرف إلى رغبة الجماعة الحوثية في ترسيم عدد من الصياغات الأمنية والسياسية، أبرزها، أولاً: إعادة تنشيط الدور الحوثي في جبهة المقاومة/ الإسناد، فعلى سبيل المثال: اختبارات المرونة والتطور النوعي بنمط الحروب غير المتماثلة عبر قياس حجم التأثير والتأثر لاشتباك الحوثيين مع حاملة الطائرات الأمريكية "يو إس إس هاري ترومان". ثانياً: إنهاك الخصوم عبر احتواء تحركات العسكرة الغربية - الأمريكية في البحر الأحمر. ثالثاً: مقايضة المقاربة الأمريكية القائمة على إعادة تصنيف جماعة الحوثي كمنظمة إرهابية أجنبية (FTO). رابعاً: التوظيف السياسي لحالة الزخم القائم بالبحر الأحمر بما يخدم أهداف الجماعة بمفاوضات التسوية بالمسألة اليمنية.


- توظيفات الداخل: حيث تتزامن البيانات الحوثية وتحركاتها في البحر الأحمر مع جيوسياسية التصعيد بعدد من الجبهات الداخلية، خاصة في: "مأرب والجوف وتعز"، على نحو ما يفرض معه عدداً من الأهداف، منها، أولاً: توظيف "هجمات الإسناد" في تطويق "الانتقادات الداخلية"، ودعم خطوات اكتساب الشرعية بالداخل اليمني، ومن ثم تعزيز حالة "الاستقطاب النخبوي" عبر التأكيد على العقيدة السياسية للجماعة بما يخدم أهدافها التوسعية. ثانياً: حلحلة حالة الجمود بالاختراق الجيوسياسي لمحافظة مأرب وما يترتب على ذلك من تداعيات سياسية وأمنية، أبرزها: "التمدد نحو شمال اليمن وما يتبعه من تأمين لمحافظة صنعاء عبر تحييد القوات الحكومية عن مأرب، فضلاً عن السيطرة على حقول النفط وعوائده بما يدعم الملاءة المالية للجماعة، وكذلك تعزيز النفوذ السياسي كسلطة أمر واقع بما يُدعم الموقع التفاوضي للحوثيين حال الانتقال لمسألة التسوية السلمية".


الجدير بالذكر، مرت الاتجاهات التصعيدية للاستراتيجية الحوثية بالبحر الأحمر منذ نوفمبر 2023، وحتى حينه بمراحل صعود وهبوط، مكنتها من انتزاع بعض المكاسب السياسية، أبرزها: أولاً، إعادة ترسيم الصورة الذهنية لفاعلية المكون الحوثي بالإقليم. ثانياً، التأكيد على استقلالية القرار بمعزل عن الداعم الإقليمي "إيران". ثالثاً، تعظيم أرصدة الجماعة لدى الكتلة الشرقية (خاصة روسيا) عبر استنزاف الولايات المتحدة الأمريكية والكتلة الغربية في البحر الأحمر وانصرافهم عن سياقات الحرب الروسية - الأوكرانية. رابعاً، رهانات المجتمع الدولي أمام إشراك المكون الحوثي بصياغات ملف التسوية السياسية في اليمن.


ثانياً - حسابات أمريكية:


تُبنى الحسابات الأمريكية لدى الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب على عدد من الدوافع، اتساقاً مع نظرية "السلام من خلال القوة" وآلياتها التي تُبنى على سياسات "الضغوط القصوى"، حيث تبنّت "مقاربات تصاعدية"، فعلى الصعيد السياسي، أعادت تصنيف الحوثيين كتنظيم إرهابي، بينما على الصعيد العسكري فتنوّعت ما بين الضربات المحدودة أو التصعيدية، ومن ثم جاء الإعلان الأمريكي بتوجيه ضربات عسكرية رامية لتقويض التهديد الحوثي للملاحة في البحر الأحمر [4]. وذلك في إطار عدد من الدوافع المُعلنة أشارت إليها عدد من التقارير الأمريكية، منها:


- استعادة الردع: اتساقاً مع الشعار الانتخابي لـ "دونالد ترامب" والمتمثل في "عودة أمريكا"، يأتي التصعيد الأمريكي ضد الحوثيين ليؤشّر إلى حالة التغيّر في السياسات الأمريكية الحالية مقارنة بالإدارات السابقة، فعلى سبيل المثال: يهدف التصعيد الأمريكي لمعالجة فشل إدارة الرئيس السابق "جو بايدن"، وعجزها عن وقف تهديدات الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر وحماية حركة التجارة العالمية. بالإضافة إلى ترسيم صورة ذهنية لدى القوى التقليدية والصاعدة إقليمياً ودولياً، قوامها "السلام من خلال القوة"، وكذلك إرساء نهج أمريكي حاسم بتفاعلات الشرق الأوسط.


- استنزاف المقدرات: وذلك عبر تدمير منصات الصواريخ الحوثية بالمناطق الجبلية، وكذلك استهداف قيادة جماعة الحوثيين بهدف خلخلة الهيكل التنظيمي للجماعة وإرباك تحركاتهم الميدانية في البحر الأحمر وإسرائيل.


- تطويق طهران: عبر ضرب الضلع الحوثي والذي أصبح بمثابة ركيزة في الإستراتيجية الإيرانية (محور المقاومة) عقب تقويض أذرعها في "غزة ولبنان وسوريا". وعليه، تحاول واشنطن توظيف استراتيجية "شدّ الأطراف" ضمن سياسات "الضغط القصوى"، اتساقاً مع الرهانات القائمة حول فرض التصوّرات الأمريكية إبان استئناف المسار التفاوضي للبرنامج النووي الإيراني، وهو ما يدفعنا بالتساؤل حول ماهيّة الخطوة التالية لدونالد ترامب في الشرق الأوسط، وعما إذا كانت تلك الخطوة ممثلةً في تقويض "ميليشيات الحشد الشعبي"، وذلك اتساقاً مع الضغوط المفروضة على بغداد لنزع سلاح فصائل الحشد، وتقليص النفوذ الإيراني في البلاد قبل الانتخابات البرلمانية المقررة في أكتوبر المقبل.


بالمقابل، هناك عدد من الدوافع الخفية لتحركات دونالد ترامب تتعلّق بتأمين المصالح الحيوية الأمريكية – سواء المادية أو المعنوية – وذلك على النحو التالي:


إعادة التموضع الأمريكي: عطفاً على حالة التنافس الدولي في ترسيخ النفوذ الاستراتيجي بالبحر الأحمر، تأتي "دوافع ترامب" استناداً إلى: أولاً، تثبيت فرضية "المحورية/ المركزية" الأمريكية في البحر الأحمر، وانتزاع كافة الامتيازات التجارية واللوجستية بنقاط الاضطراب البحري بمنطقة الشرق الأوسط - كخطوة مباغتة - في ظل التحركات الرامية لإعادة إنتاج حرب تجارية ذات "نمط شمولي"، اتساقاً [5] مع استشراف التداعيات المتباينة للأوامر التنفيذية الخاصة بـ "الرسوم التبادلية" الصادرة في 2 إبريل 2025. ثانياً، مجابهة الهجمات الحوثية واحتواء تداعياتها السلبية في كل من "حركة الملاحة البحرية، الأجندات الخاصة للحلفاء بالمنطقة، وفي مقدمتهم إسرائيل". ثالثاً، العمل على تطويع المشاريع الاقتصادية/ التنموية للقوى الدولية المنافسة بالمنطقة، خاصة المشروع الصيني، فضلاً عن إعادة ترسيم جيوسياسية الشرق الأوسط وفقاً للمرئيات الأمريكية. فعلى سبيل المثال: إحدى أهداف واشنطن في الهجمات المتتالية بالبحر الأحمر تنصرف إلى تحييد السياسات الإيرانية عن مناطق نفوذها، واستنزاف وكلائها، وتفكيك محور المقاومة/ الإسناد، وعزله عن المشهد السياسي، تمهيداً لإعادة تفعيل الخطط الاقتصادية بالمنطقة، وفي مقدّمتها "ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا".


- رفع تكلفة الخصوم: استناداً إلى إستراتيجية "السلام من خلال القوة"، فثمّة أهداف نوعية اتسقت مع تحركات واشنطن بالبحر الأحمر، أبرزها ما ينطوي على: أولاً، محاولة استهداف قيادات عليا  لجماعة الحوثيين. ثانياً، استنزاف المقدرات العسكرية، وإضعاف البنية التحتية للجماعة كمخازن الأسلحة ومراكز تصنيع المسيرات. ثالثاً، تأليب الرأي العام الداخلي والإقليمي والدولي ضد الحوثيين، بما يُخلّ بثبات واستقرار النسيج الداخلي لهيكل المليشيا، ومن ثمّ إضعافها.


ثالثاً - استشراف مُحتمل:


بالنظر إلى مُجمل التفاعلات القائمة والمُحتملة ببيئة البحر الأحمر، فثمّة مسارين قد يُشكّلان جوهر الرهانات والترجيحات الداعمة لصياغة معادلات الصراع والتعاون بالإقليم، وذلك على النحو التالي:


1. اتجاهات دعم فرص الاستقرار الأمني في البحر الأحمر:

بالنظر إلى حالة الفوضى الأمنية بالإقليم، وقياساً على حجم الهجمات النوعية المتبادلة بين واشنطن وجماعة الحوثيين، إلا أنّه بالمقابل، هناك عدد من الاتجاهات الداعمة لمحددات الاستقرار، ومنها:


- تحفيز "التنسيقات الإقليمية": تُبنى تلك الفرضية على عدد من الاعتبارات لتوطئة الاستقرار بإقليم البحر الأحمر، أولاً: إرساء أسس ذات طبيعة إلزامية للتعاون الإقليمي – بين مختلف القوى التقليدية والصاعدة – واستيعاب التنوعات المجتمعية وتحويلها إلى مصدر قوة بما يقلّص من حالة الانكشاف الداخلي والخارجي. ثانياً: تعزيز الدبلوماسية "متعددة الأطراف" (كإطار رسمي) بترتيبات التسويات السياسية، ودبلوماسية "المسار الثاني" (كإطار غير رسمي) لحلحلة جوانب الصراع المستعصية، خاصة مع الأطراف من دون الدول والجماعات المسلحة. ثالثاً: التوظيفات النوعية لحالة التغير في ميكانيزم التفاعل بالبيئة السياسية والأمنية في الإقليم، مما قد يُسهم في فرض معادلات جيوسياسية جديدة تُضعف من التصورات الأمريكية الإسرائيلية وتحدّ من قدرتهما على تحقيق أهدافهما الإستراتيجية بالمنطقة، فعلى سبيل المثال: "التوظيفات النوعية للقوة السيبرانية، الاختبارات المتباينة لأدوار الفواعل من دون الدول، رهانات التنوع في أنماط التحالفات الدولية مع القوى الإقليمية، استئناف العلاقات السياسية والأمنية بين القوى التقليدية والصاعدة بالإقليم مثل تركيا وإيران".


- توظيفات "البناء الأمني": تؤسس بدورها إلى عدد من الأطروحات التي تمهّد للخروج الكامل من "الدائرة المفرغة" للصراعات القائمة والمُحتملة، منها: أولاً، إنشاء آلية سياسية فعّالة ومُلزمة لحل النزاعات بالإقليم. ثانياً، الإقرار والاعتراف بتنوع الهويات دون انتقاص من الانتماء الوطني. ثالثاً، إنشاء "قاعدة بيانات أمنية موحدة" تُسهم في خلق بيئة مواتية بالدول المأزومة لاستيعاب وتلبية المطالبات الحيوية من الأمن والمشاركة في السلطة وتقسيم الموارد. رابعاً، إعادة الحديث مرة أخرى عن ترتيبات هيكلة "حلف دفاعي إقليمي" لدعم الأمن والاستقرار وردع التهديدات القائمة والمُحتملة لكافة أقطار الإقليم، خاصة بالدول المأزومة بالمنطقة.


- أولوية "الترتيبات الاقتصادية": تدفع المؤشرات المضطربة الناتجة عن تردي الأوضاع الاقتصادية، وضعف قدرات الدولة الوطنية، وهشاشتها في استيعاب الارتدادات السلبية للصدمات الخارجية، إلى إعادة النظر في تفعيل دبلوماسية "الاقتصاد البيني" للخروج من "المأزق القائم" عبر إنجاز متطلبات التكامل الاقتصادي وتوظيف كافة أدوات الثورة الصناعية الرابعة بما يخدم أجندة "النسق التعاوني"، ومتطلبات إرساء قواعد داعمة لفرضية الاستقرار بالبحر الأحمر. فعلى سبيل المثال: تفرض "الترتيبات الاقتصادية" أهمية النظر في تفعيل مشروعات "التكامل الاقتصادي"، وفي مقدّمتها "الممر الاقتصادي الهندي" و"مبادرة الحزام والطريق". وهو ما يدفع بعدد من التوصيات، أبرزها: أولاً، أولوية "مشروعات الربط" بين مختلف دول الإقليم، والدفع بتعزيز بناء شبكات نقل قوية اتساقاً مع تجربة دول الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن. ثانياً، الاستخدام الأمثل لحالة التنوع بالموارد بكافة دول الإقليم، وتقييم خريطة المشروعات الاستثمارية المتاحة والمُحتملة وفقاً لما تمتلكه كل دولة من "ميزة تنافسية". ثالثاً، خلق "وفورات تنموية" عبر زيادة حجم التجارة البينية، واتساع حجم الأسواق المشتركة أمام المنتجات المحلية. رابعاً، هيكلة مؤسسات إقليمية قادرة على تنفيذ برامج التعاون، وإنجاز متطلبات بناء تكتل إقليمي فعّال.


2. اتجاهات تعميق تحدي التهديدات الأمنية في البحر الأحمر:

اتساقاً مع هشاشة الوضع الأمني والسياسي للدول المأزومة المطلة على البحر الأحمر، فضلاً عن حجم "التأثير المضطرب" للقوى الفاعلة من دون الدول، وتجاذبات القوى الإقليمية والدولية، والتي ساهمت جميعها في تعميق "نقاط التحول"، فهناك عدد من التحديات التي قد تُعيق "فرضية الاستقرار"، منها:


- تقاطع المشروعات الإقليمية: تُبنى تلك الفرضية على جدلية المشروعات الإقليمية، وجدوى فاعليتها وحجم تأثيرها، مقابل غياب مشروع عربي لديه القدرة على المنافسة وإحداث التوازن مع مختلف المشروعات الشرق أوسطية الأخرى بالبحر الأحمر، خاصة المشروع الإيراني والمشروع الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال: يستهدف المشروع الإسرائيلي تأمين الخطوط الملاحية، وما يتعلق بـ"الأمن التجاري"، وما يلحق به من أهداف أخرى، منها: (تنويع سلاسل التوريد، تعزيز آليات الربط بين الموانئ الإسرائيلية على البحريْن المتوسط والأحمر مثل مشروع قناة بن جوريون، كذلك الربط بين ميناء إيلات المطل على البحر الأحمر والموانئ الإقليمية بالمنطقة). وهو ما أفضى إلى إعادة النظر في أهمية تطوير مقاربة "التفوق البحري الإسرائيلي" في البحر الأحمر وتطويق ومحاصرة المشاريع الإقليمية المنافسة، وفي مقدمتها المشروع الإيراني. مُدعَّماً ذلك بعدد من التحركات، أبرزها: أولاً، اختراق جمود اتفاقية التطبيع مع السودان ورهانات تل أبيب على المكون العسكري بجناحيه الاثنين (الجيش السوداني، قوات الدعم السريع) - خاصة الجناح الثاني وسيطرته على شرق السودان - لإتاحة المجال لاستثمار أوجه التقارب في إقامة نقاط تمركز عسكرية ومحاصرة النفوذ الإيراني على البحر الأحمر. ثانياً، توظيف الهجمات الحوثية - الأمريكية بما يخدم الأهداف الإسرائيلية عبر تكثيف الاتصالات الإسرائيلية مع كل من المكون الخليجي والأمريكي لاستئناف ترتيبات إقامة "تشكيل أمني إقليمي" في البحر الأحمر. ثالثاً، تكثيف المناورات النوعية في البحر الأحمر، مثل مناورة "الدرع الرقمي" [6] مع الولايات المتحدة عام 2022، لتعزيز القدرات اللوجستية بالأهداف الجيوسياسية الحيوية، ودمج التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي مع العمليات العسكرية التقليدية، وترسيخ الحضور العسكري. [7]


- إرباك معادلات القوة: تؤسس تلك الفرضية اتساقاً مع مشاهد "السيولة الفوضوية" بكافة تفاعلات الإقليم وانعكاسها المباشر على التهديدات الأمنية بالبحر الأحمر، خاصة مع تنامي "مشاريع الهيمنة" لمختلف القوى بالإقليم - واستعصائها بالوقت ذاته - وفقاً لما تم الإشارة إليه أعلاه، واستناداً لعدد من المشاهدات، أبرزها: أولاً، ما فرضته جماعة الحوثيين من قواعد جديدة للاشتباك يصعب معها الحسم، مقابل انحسار فرص تنفيذ "مشروعات أمنية" بإقليم البحر الأحمر. ثانياً، انكشاف إرهاصات "التفوق العملياتي" وذلك بالنظر إلى فشل أهداف "عملية أسبيدوس" و"عملية حارس الازدهار". ثالثاً، استعراض واشنطن لمقدراتها القتالية بالبحر الأحمر دون خطوات ملموسة تعزز من تصوراتها حول معادلات القوة بالمنطقة. رابعاً، محاولات عدد من الدول العربية للحصول على موطئ قدم بالبحر الأحمر، يؤسس فيما بعد "مفاوضات الحل" على إعادة ترسيم ماهية وثقل الأدوار الصاعدة. فعلى سبيل المثال: يُعد المشروع السعودي "نيوم" - حال اكتماله - والمشروع الإماراتي للاستثمار في الموانئ الإقليمية ضمن "مشروع موانئ دبي"، بمثابة فصل جديد من فصول التنافس وتجاذبات التفوق النوعي في البيئة الإقليمية للبحر الأحمر. خامساً، تطويع أدوات "القوة الناعمة" (Soft Power) لإعادة إنتاج "الكولونيالية" (Colonialism)، إذ لم يعد التنافس بين القوى الكبرى والصاعدة في البحر الأحمر مجرد تصورات نظرية، بل أصبح واقعاً ملموساً تؤشر له عدد من التحركات المتباينة والفاعلة لكل من روسيا، والصين، وإيران، وتركيا، وإسرائيل في إطار التحولات القائمة نحو التحلل من الأحادية السياسية والهيمنة الأمريكية، والمضي قدماً نحو هيكلة نظام عالمي جديد أكثر تعددية. فعلى سبيل المثال: تشكيلات القواعد العسكرية بالدول المطلة على البحر الأحمر، مشروع الممر الاقتصادي الهندي، مبادرة الحزام والطريق.

 

تأسيساً على ما سبق، فثمّة استشراف لأطر وأنماط التفاعلات المستقبلية بإقليم البحر الأحمر، والتي تُشكّل في مُجملها هيكل الترتيبات الأمنية للمنطقة، حيث:


- نمط التفاعلات المنضبطة: يُبنى على تصوّر "هيكل قيادي" يُدار من خلاله كافة التفاعلات بإقليم البحر الأحمر، حيث تتركّز القوة ومواردها في دولة واحدة أو بالتوازن بين عدد من الدول ذات الثقل، وتقوم تفاعلاتهم على أسس المصالح المشتركة فيما بينهم.


- نمط التفاعلات التنافسية: تتّسم مرئيات ذلك النسق بمحددين، الأول: انتشار القوة بين عدد كبير من أطراف "المنظومة الإقليمية للبحر الأحمر"، ومن ثم تنامي التنافس عوضاً عن التعاون لاختلاف الأجندات. الثاني: إشكالية "التوازن النسبي للقوى المتنافسة"، خاصة مع تباين أهداف القوى الصاعدة وكثافة الانتشار للقوى الدولية بما قد يُهدّد استقرار ونمطية المنظومة الأمنية للبحر الأحمر.


وعليه، تنقسم الرهانات حول مستقبل "المنظومة الأمنية للبحر الأحمر" إلى سيناريوهين:


- السيناريو الأول: إنهاء أو تسوية التهديدات المتلاحقة (التقليدية وغير التقليدية)، والانتقال بإقليم البحر الأحمر نحو نظام تعاوني في شتّى المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية والنوعية، يُبنى على معادلات متسقة أقل ميلاً لاستعمال القوة وأكثر ميلاً للتعاون، ومن ثم إنجاز التصورات نحو تحقيق الأمن والاستقرار. وهو ما يدفعنا لوضع المزيد من الرهانات حول مدى صمود اتفاق وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة الأمريكية وجماعة الحوثيين عبر الوساطة العُمانية [8]، تمهيداً للبدء في اختبار فرضيات ذلك السيناريو.


- السيناريو الثاني: استعصاء حسم التفاعلات، وما يلحق بذلك من استمرار التهديدات الأمنية بالبحر الأحمر، لتتعلّق المنطقة في فوضى ممتدة وفصول متتالية من محاولات القوى الفاعلة — دولياً وإقليمياً — المنخرطة في حسم التفاعلات القائمة، وإيجاد مخرج آمن لإعادة توطئة استقرار المنطقة، تمهيداً لإنجاز الترتيبات التنموية والاقتصادية والسياسية لليوم التالي.


باحثة في مركز سوث24 للأخبار والدراسات، متخصصة في العلاقات الدولية والأمن الإقليم

[1] د. إيمان زهران، الانسحاب الإماراتي من القوة البحرية المشتركة: الأسباب والتداعيات، مركز سوث24 للأخبار والدراسات، 12 يونيو 2023.
[2] عودة القراصنة الصوماليين وسط أزمة البحر الأحمر والحرب في غزة، CNN عربي، 23 فبراير 2025.
[3] الحوثيون يعلنون استئناف هجماتهم على السفن الإسرائيلية، موقع إندبندنت عربية، 12 مارس 2025.
[4] ترامب يأمر بشن ضربات على مواقع المسلحين في اليمن ويوجّه تحذيراً لإيران، صحيفة نيويورك تايمز، 15 مارس 2025.
[5] تنظيم الواردات من خلال تعرفة متبادلة لتصحيح الممارسات التجارية التي تسهم في عجز كبير ومستمر في الميزان التجاري السنوي للسلع الأمريكية، الأوامر التنفيذية، البيت الأبيض، 2 أبريل 2025.
[6] الدرع الرقمي، وزارة الدفاع الأمريكية، 21 سبتمبر 2022.
[7] شادي محسن، طموح جيواستراتيجي: الحسابات الإسرائيلية في البحر الأحمر، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 28 أبريل 2023.
[8] سلطنة عُمان تعلن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة والحوثيين، موقع CNN بالعربي، 6 مايو 2025.
شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا