عربي

تحديات اتفاق وقف إطلاق النار وسؤال «اليوم التالي» في قطاع غزة

صورة تظهر الدمار في قطاع غزة نتيجة الحرب الإسرائيلية، 24 يناير 2025 (أ ف ب)

25-01-2025 الساعة 5 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol

"اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعطى الأولوية لتبادل الأسرى بين الطرفين، وأرجأ القضايا الخلافية والأكثر تعقيدًا إلى المرحلتين الثانية والثالثة ورهنها بعملية التفاوض في اليوم السادس عشر للاتفاق، تسبب في ترحيل قضايا مهمة.."

سوث24 | د. عزام شعث


مقدمة


دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وإسرائيل بوساطة مصرية- قطرية- أميركية حيّز التنفيذ في 19 يناير 2025، بعد جولة طويلة وممتدة من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ارتقت لأعمال "الإبادة الجماعية" ضد الشعب الفلسطيني في القطاع، وباستخدام أدوات القتل وتدمير الممتلكات العامة والخاصة والتهجير القسري والنزوح الداخلي للسكان وحصارهم وتجويعهم لنحو 15 شهرًا. لقد تعمدت القوات الإسرائيلية المحتلة خلال هذه المدة تغيير وجه غزة بهجومها البري وتكريس احتلالها المادي وتعزيز سيطرتها العسكرية الميدانية في مختلف مدن القطاع، بحيث أقامت بُنى تحتية لثكنات ومواقع عسكرية، ووسّعت المنطقة الحدودية العازلة شرق وجنوب وشمال القطاع، وشقّت أربعة ممرات عسكرية دائمة: ممر "فيلادلفيا" على الحدود المصرية جنوب القطاع، وممر "كوسوفيم" وسط القطاع، وممري "مفلسيم" و"نتساريم" شمال القطاع، وهي ممرات مخصصة للتوسعة وضم الأحياء السكنية، والفصل بين شمال القطاع وجنوبه وبين مدن الشمال نفسها.


يُثير الاتفاق الذي يضمن "وقفًا مؤقتًا" لإطلاق النار وللأعمال العسكرية مع انسحاب القوات الإسرائيلية من الأحياء السكنية المكتظة بالسكان ناحية حدود القطاع، ومُبادلة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في القطاع بأسرى فلسطينيين من السجون والمعتقلات الإسرائيلية، فضلًا عن عودة النازحين الفلسطينيين إلى ديارهم وتسيير قوافل المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار القطاع، يثير هذا الاتفاق تساؤلات مهمة وحيوية عن مستقبل قطاع غزة في "اليوم التالي" لجهة إمكانية المضي في تنفيذه تنفيذًا كاملًا. خاصة مع الضغوط والتهديدات الداخلية التي يواجهها "نتنياهو" ومدى قبوله بالوقف الشامل للحرب دون القضاء على "حماس" وهو الذي تعهد غير مرة بتحقيق هذه الرؤية. كما أن الاتفاق يواجه تحديًا آخر يتصل بمسألة إدارة شؤون القطاع التي ظلّت واحدة من القضايا الغامضة ولم يأتِ الاتفاق على ذكرها، خاصة في ضوء معارضة إسرائيل لاستمرار حكم "حماس"، ورفضها لتولي السلطة الفلسطينية مسؤولياتها في القطاع أيضًا.


العدوان الإسرائيلي والتهجير القسري و"الطوعي"


ترافقت مع الأعمال الحربية الإسرائيلية في قطاع غزة مخططات لتهجير سكانه بأوامر الإخلاء العسكرية والتهديد المتواصل، وباستخدام كافة أدوات القوة والترهيب من قصف جوي وبري وبحري، وذلك بذريعة الرد على عملية "طوفان الأقصى". ولأنَّ المخطط الإسرائيلي كان يستهدف تهجير السكان تهجيرًا داخليًا وخارجيًا، فإنه زاوج ما بين التهجير القسري والتهجير "الطوعي"، وباستخدام أدوات وآليات التهجير كافة. والتهجير "الطوعي" بهذا المعنى لا يتعدى كونه تهجيرًا قسريًا وبأدوات غير مباشرة كإبقاء ظروف المعيشة متدنية، ورفع معدلات الفقر والبطالة مثلما هي أحوال سكان القطاع تحت الاحتلال الإسرائيلي عمومًا.


 ارتكزت الخُطط الإسرائيلية ومنذ بداية العدوان على تهجير سكان القطاع إلى الأراضي المصرية وإلى منطقة سيناء تحديدًا، وفي ذلك تنفيذ للرؤى الإسرائيلية في تقرير مصير القطاع ومخططات تهجير سكانه واقتلاعهم من أرضهم التي وضعتها ونفذتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ احتلالها وسيطرتها على القطاع في عام 1967. استكملت إسرائيل تصوراتها بـ "خطة الجنرالات" التي اقترحها الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي "غيورا آيلاند" على رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" وتبناها عدد من جنرالات الجيش، لتهجير سكان شمال القطاع قسرًا، وباستخدام كل أدوات الترهيب بما فيها فرض وتشديد الحصار الكامل على بلدات الشمال، ومنع دخول المساعدات الإنسانية إليها، والتعامل مع أي مدني يختار البقاء في الشمال مقاتلًا [1]. وبالفعل لجأ الجيش الإسرائيلي ميدانيًا إلى تنفيذ هذه الخطة وتطويرها باستخدام أساليب أكثر فتكًا ضد المدنيين الفلسطينيين دون الإعلان عن تبني الخطة وتطبيقها رسميًا، وذلك منذ إعادة احتلال مناطق الشمال وللمرة الرابعة في السادس من أكتوبر 2024.


وُوجهت خطط التهجير إلى سيناء المصرية بفاعلية الفلسطينيين ضدها، وبمعارضة الدولة المصرية [2] والولايات المتحدة الأمريكية [3] ودول الاتحاد الأوروبي [4] التي لم تستجب للطلب الإسرائيلي باستقبال فلسطينيي غزة في الدول الأوروبية كمحطة أخيرة ونهائية من التهجير، لكن هذه المواقف لم تنهِ تطلعات الاحتلال الإسرائيلي لتهجير واقتلاع فلسطينيي غزة من أرضهم. وفي ضوئها، استدارت إسرائيل ناحية خطة التهجير "الطوعي"- كسياسة عامة يُنظّر لها أعضاء الائتلاف الحكومي وأقطاب المعارضة الإسرائيلية على حدٍ سواء- عبر تكثيف هجومها العسكري وتوسيع عمليات الاستهداف وتدمير الممتلكات، فضلًا عن تشديد الحصار والتضييق والتجويع، بما يجعل قطاع غزة منطقة غير صالحة للعيش فيها، وتدفع إلى هجرة سكانه هجرة "طوعية" إلى خارجه، وسوف تُختبر إمكانية نجاح "خطة التهجير الطوعي" من عدمها بعد فتح المعابر الحدودية مع قطاع غزة.


اقتطاع وتوسعة المناطق الحدودية العازلة


قبل عملية "طوفان الأقصى" كانت المناطق العازلة البرية التي أقامتها السلطات الإسرائيلية المحتلة في المناطق الحدودية شرق وشمال قطاع غزة، مخصّصة حصرًا للفصل بين المدن الفلسطينية وما تعرف بمنطقة مستوطنات "غلاف غزة"، تضيق هذه المناطق وتتسع بحسب الحاجة الأمنية الإسرائيلية وبادعاء حماية المستوطنين فيها، وعادةً ما يتعرض سكان هذه المناطق من الفلسطينيين الأصليين، وخاصة المزارعين والفلاحين وسواهم لاعتداءات إسرائيلية مُنظمة ومُمنهجة.


وبعد العدوان الإسرائيلي واتفاق وقف إطلاق النار في القطاع، استمرت صيغة المناطق العازلة بما هي مناطق فصل واقتطاع ومصادرة للأرض الفلسطينية شرقًا وجنوبًا وشمالًا، وتعزّزت معها إجراءات تعميقها وتوسعتها على حساب مدن القطاع إلى مسافة تتراوح ما بين 700- 1000 مترًا، تضييق وتتسع وفقًا للتصورات الإسرائيلية وما تسميه بـ "الدواعي الأمنية". والجديد هذه المرة وبعد العدوان الإسرائيلي الواسع على القطاع هو اقتطاع وتوسيع المناطق الحدودية وتحذير سكانها من المواطنين الفلسطينيين من الوصول إليها، خاصة في مدينة رفح جنوب القطاع التي اقتطعت مساحات واسعة وأحياء كاملة من شرقها إلى غربها، ومنعت القوات الإسرائيلية المتمركزة في محور "فيلادلفيا" السكان من الوصول إليها بل اعتدت عليهم مع سريان اتفاق وقف إطلاق النار، بما يعني تكريس الوجود العسكري الإسرائيلي في هذه المناطق وإعادة صياغتها وفقًا للاحتياجات الأمنية الإسرائيلية.


وتكشف هذه الترتيبات عن نوايا إسرائيلية تتعدى حماية المنطقة الاستيطانية في "غلاف غزة" وضمان الأمن الشخصي للمستوطنين فيها- على أهمية هذا الإجراء إسرائيليًا- إلى تغييرات دائمة لوجه غزة جغرافيًا وديموغرافيًا، تقوم أساسًا على تهجير السكان واقتطاع وتوسعة المناطق الحدودية العازلة وضمها، دون أن تكتفي بأهدافها المعلنة بشأن إنهاء حكم "حماس" وتقويض قدراتها القتالية واستهداف والقضاء على قادتها في المستويين السياسي والعسكري إلى جانب استعادة الأسرى المحتجزين في القطاع.


دوافع اتفاق وقف إطلاق النار وتحدياته


تتمحور قضايا اتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل حول ستة نقاط رئيسة تتوزع على ثلاث مراحل، بواقع 42 يومًا لكل مرحلة، تبدأ بالوقف "المؤقت" والمتبادل لإطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل، وتبادل الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في القطاع بأسرى فلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، والانسحاب الإسرائيلي من المناطق ذات الكثافة السكانية إلى المناطق الحدودية للقطاع، وعودة النازحين الفلسطينيين إلى المدن التي هُجروا منها شمال وجنوب القطاع، وتسيير قوافل المساعدات الإنسانية ورفع أعدادها، والاتفاق على آلية إعادة اعمار القطاع في المرحلة الثالثة والأخيرة من الاتفاق.


لقد خضع الطرفان لضغوط داخلية وخارجية دفعتهما إلى قبول اتفاق وقف إطلاق النار، الذي وافق عليه [5] مجلس الوزراء الأمني ​​المصغر والحكومة الإسرائيلية. ورغم إعلان "حماس" موافقتها على الاتفاق "انطلاقًا من مسؤوليتها تجاه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بوقف العدوان ووضع حد لشلال الدم والمجازر وحرب الإبادة التي يتعرض لها [6]". هناك في الحقيقة، ثمة عددٌ من المتغيرات والعوامل التي دفعت الطرفين إلى قبول الاتفاق، وأهمها:


1- يمكّن هذا الاتفاق إسرائيل من الإعلان عن تحقيق هدفها الرئيس من حربها على قطاع غزة والذي أعلنته في بداية الحرب، وهو إعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة، وإضعاف القدرات القتالية لحركة "حماس" واستهداف المستوى القيادي الأول في الحركة، بالإضافة إلى إضعاف الجهاز التنفيذي والإداري الحكومي للحركة.


2- يهيئ الاتفاق لإسرائيل الانتقال إلى مرحلة تالية من فرض تصوراتها لإدارة القطاع في "اليوم التالي"، وبالتزامن مع معارضتها لاستمرار "حماس" في الحكم وإدارة شؤون القطاع، ورفضها عودة السلطة الفلسطينية لإدارة شؤون القطاع.


3- الضغوط الداخلية التي تعرضت لها الحكومة الإسرائيلية من قِبل ذوي الأسرى المحتجزين في القطاع، وغيرهم من الذين نظموا مظاهرات في تل أبيب ضد الحكومة لمطالبتها بإنجاز صفقة التبادل [7]، ومن أهالي الجنود الإسرائيليين العاملين في غزة، وآخرهم أكثر من 800 من أهالي جنود عاملين في غزة وجهوا رسالة لنتنياهو يطالبونه بإنهاء الحرب [8]


4- الضغوط الخارجية لوقف الحرب، وأهمها ضغط إدارة الرئيس الأميركي المنتخب "ترامب" وتدخله الشخصي في ملف إطلاق سراح الرهائن المحتجزين في القطاع [9]، وإيفاد مبعوثه إلى الشرق الأوسط "ستيف ويتكوف" إلى إسرائيل للمطالبة بالتوصل إلى اتفاق لوقف النار في غزة وتبادل الأسرى، وضغوط المحكمة الجنائية الدولية التي أنتجت أوامر اعتقال لـ "نتنياهو" و"يوآف غالنت"، وقد تمتد لقادة إسرائيليين آخرين في المستويين السياسي والعسكري من الذين شاركوا في الأعمال القتالية ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وصُنفوا بأنهم مجرمو حرب، والملاحقة لأعداد كبيرة من الضباط والجنود في محاكم الدول المختلفة، كما حصل في سيريلانكا والبرازيل وبلجيكا وتايلاند من قبل منظمة "هند رجب" الحقوقية وغيرها من منظمات حقوق الإنسان [10].


5- إدراك "نتنياهو" أن بتوفر الأغلبية العددية في "الكابينيت" والحكومة الإسرائيلية لتمرير صفقة التبادل حتى لو عارضها حزبي "بن غفير" و"سموتريتش".


6- إدراك "حماس" فداحة الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية التي تسببت بها الحرب الإسرائيلية على القطاع، بما فيها الخسائر الكبيرة في صفوف الحركة وعلى المستويين السياسي والعسكري من قادة وأعضاء ومناصرين ومن قدراتٍ قتالية.


7- الضغوط الشعبية التي تتعرض لها "حماس" ومطالبتها بالتوصل إلى اتفاق لوقف الحرب ومراعاة تردي وصعوبة الأحوال المعيشية وتعاظم مظاهر الانفلات الأمني وزعزعة الجبهة الداخلية في القطاع، وخشية "حماس" من تطور الاحتقان الشعبي إلى ثورة ضدها في ضوء تراجع التأييد لعملية "طوفان الأقصى"[11]، مع معارضة قطاعات فلسطينية واسعة عودتها إلى إدارة شؤون القطاع، الذي تعرض للأزمات والانتكاسات تحت حكمها منذ سيطرتها بالقوة المسلحة في منتصف عام 2007.


8- تراجع مستويات الإسناد الخارجي لحركة "حماس" ماليًا وعسكريًا نتيجة الضربات التي تعرض لها ما يُسمى بـ "محور المقاومة" في بيروت وسوريا وإيران، والتي أدّت إلى تفكيكه عمليًا عقب الهجمات الإسرائيلية على "حزب الله" واستهداف قيادته السياسية والعسكرية ومقدراته القتالية وتوقيعه على اتفاق مع إسرائيل، فضلًا عن سقوط نظام حكم "بشار الأسد" في سوريا، ونأي إيران نفسها عن أيّ تدخل لدعم ومناصرة "حماس". 


إن اتفاق وقف إطلاق النار بصيغة "المراحل الثلاثة" يواجه الكثير من التحديات، أهمها تحدي عدم التزام إسرائيل بتطبيق الاتفاق والانتقال إلى المراحل التالية فيه، خاصة في ضوء تصريحات "نتنياهو" المتتالية ومنذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي بأن "الحرب على غزة مستمرة حتى القضاء على حماس وإنهاء حكمها". وإعلان حزب الليكود عن ضمانات أميركية تسمح بالعودة للقتال في قطاع غزة، بالإضافة إلى الضغوط التي يواجهها نتنياهو والمتمثلة في استقالة "بن غفير" من الحكومة الإسرائيلية، وتهديدات "سموتريتش" بالانسحاب منها بما يهدّد بسقوطها في حال تمت المصادقة على الاتفاق وإن لم تتجدد الحرب على القطاع.


كما أن مظاهر عودة "حماس"- حتى وإن كانت عودة مؤقتة تفرضها الظروف الراهنة- إلى إدارة شؤون القطاع، وإجراءاتها لناحية الالتزام بمواقيت تسليم المحتجزين الإسرائيليين سيكون لها انعكاسها على صمود الاتفاق من عدمه، وهي العوامل التي ستحقق لإسرائيل الذريعة من أجل تقويض الاتفاق، ويكفي أن نستذكر كيف أن الساعات الأولي من موعد تنفيذ الاتفاق والذي تأخرت فيه "حماس" عن تسليم قائمة الأسيرات الإسرائيليات الثلاث المُقرر الإفراج عنهن كادت أن تقوّض الاتفاق وتسقطه. وكان من شواهدها استئناف الغارات الإسرائيلية على جنوب القطاع وشماله والتهديد الإسرائيلي بالتراجع عن الاتفاق ما لم تلتزم به "حماس"، وفي هذه الحالة سوف تتحقق وعود "نتنياهو" بالعودة إلى الحرب بالتزامن مع إعادة تشكيل القطاع وفق التصورات الأمنية الإسرائيلية التي تضمن حماية حدودها ومستوطناتها في منطقة "غلاف غزة" وباقتطاع وتوسيع المنطقة العازلة البرية على حساب أراضي المواطنين شرق وجنوب وشمال القطاع.


ويمكن القول أخيرًا أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعطى الأولوية لتبادل الأسرى بين الطرفين، وأرجأ القضايا الخلافية والأكثر تعقيدًا إلى المرحلتين الثانية والثالثة ورهنها بعملية التفاوض في اليوم السادس عشر للاتفاق، تسبب في ترحيل قضايا مهمة منها مستقبل إدارة قطاع غزة والانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع وملف إعادة الإعمار الذي يتطلب التزامًا ماليًا وسياسيًا دوليًا كبيرًا، الأمر الذي يراكم التعقيدات والعقبات في المرحلتين الثانية والثالثة، وربما يتسبب في سقوط الاتفاق وتقويضه.


سيناريوهات إدارة غزة في "اليوم التالي"


إن أزمات قطاع غزة المركبة لا تنتهي باتفاق تهدئة بين "حماس" وإسرائيل، رغم أهميته لفلسطينيي القطاع الذين عانوا من أعمال القتل والتدمير والتجويع والتهجير والنزوح الجماعي على امتداد 15 شهرًا من العدوان الإسرائيلي. خاصة وأن هذا الاتفاق لا يتعدى كونه اتفاقًا مؤقتًا ومن نوعية اتفاقات التهدئة التي عرفها القطاع بين عامي 2008 و 2022، ولن يكون محطة نهائية وأخيرة ما لم يعالج جذور الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ويضمن حلًا عادل ودائم للقضية الفلسطينية يرتكز على صفقة سياسية شاملة وعلى قاعدة مبدأ "حل الدولتين" وإنهاء الصراع وليس إدارته وتسويته تسوية مؤقتة.    


ولا شك أن أزمات غزة الممتدة منذ عام 2007، والتي تشاركت في انتاجها إسرائيل بوصفها القوة القائمة بالاحتلال عبر حصارها واحتلالها وعدوانها المستمر على القطاع؛ وحركة "حماس" التي سيطرت على القطاع بالقوة المسلحة وتنكرت لمبدأ الشراكة الوطنية؛ والسلطة الفلسطينية التي تخلت عن مسؤولياتها الإدارية والقانونية في القطاع، تتطلب إدارة وطنية قادرة على تسوية ومعالجة أزمات القطاع المتراكمة، وضمنها الأزمات التي تسبب بها العدوان الإسرائيلي. ففي غياب الاتفاق الوطني المترافق مع الخلافات والانقسام السياسي والجغرافي بين حركتي "فتح" و"حماس" ستستمر هذه الأزمات بانعكاساتها الثقيلة على الأوضاع المعيشية للسكان وعلى مستقبل قطاع غزة في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.


وانطلاقًا من حقيقة أن اتفاق وقف إطلاق النار لم يناقش قضية مستقبل غزة في اليوم التالي، فإن شرط إسرائيل في إنهاء حكم "حماس" في القطاع لتنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق يدفع إلى تحركات فلسطينية وعربية ودولية لتشكيل إدارة قادرة على إدارة شؤون القطاع في النواحي الخدماتية وفي ناحية إعادة الإعمار. لأن استمرار حكم "حماس" في القطاع يعني استعادة إسرائيل هجومها العسكري وتقويض اتفاق التهدئة، بما يراكم القيود على عمليات الإغاثة وإعادة الإعمار وغيرها.


كان أولى هذه التحركات ما اقترحته الدولة المصرية من تشكيل "لجنة إسناد مجتمعي لإدارة شؤون قطاع غزة" وافقت عليها القوى والفصائل الفلسطينية واقترحت أسماءً لرئاستها وعضويتها من شخصيات وطنية مستقلة، لكن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وافقت ثم اعترضت على هذا التصور بحُجة أنه يُكرس الانقسام السياسي والإداري ويفصل القطاع عن امتداده الطبيعي مع مناطق الضفة الغربية التي تخضع لولاية السلطة الفلسطينية. كما أن السلطة الفلسطينية لم توافق بعد على تشكيل حكومة وحدة وطنية واحدة في الضفة الغربية وقطاع غزة تضمن مدّ ولايتها القانونية والإدارية على القطاع، تنفيذًا لاتفاقات المصالحة الداخلية وآخرها "إعلان بكين".


وحاولت الحكومة الإسرائيلية في مرحلة تالية فرض تصوراتها لإدارة شؤون القطاع في اليوم التالي للعدوان، وبما يضمن إنهاء حكم "حماس"، وذلك من خلال التواصل مع بعض العائلات والقبائل ومنظمات المجتمع المدني ومنحها التفويض كإدارة بديلة يجري تمكينها عبر تسليمها مواد الإغاثة والمساعدات الإنسانية الموردة إلى القطاع، غير أن هذا التصور وُوجه بالمعارضة والرفض القاطع من فلسطينيي القطاع ولم يُكتب له التطبيق على أرض الواقع، رغم الإعلان المتكرر من المستوى السياسي الإسرائيلي عن خطط لإدارة شؤون القطاع بالاتفاق مع قوى إقليمية ودولية.     


وبهذا المعني فإن إدارة شؤون القطاع مفتوحة على كل الاحتمالات والتصورات الفلسطينية والعربية والدولية في حال استمر العمل باتفاق وقف إطلاق النار إلى المرحلة الثالثة، وأبرزها:


-  حكومة توافق وطني في الضفة الغربية وقطاع غزة: يستدعي تشكيل هذه الحكومة موافقة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية واتفاقها مع الفصائل والقوى السياسية وضمنها حركة "حماس"، تطبيقًا لاتفاقات المصالحة الداخلية، الأمر الذي يتطلب موافقة "حماس" والتزامها بتسليم إدارة القطاع في النواحي الخدمية والأمنية والشرطية. ومن المتوقع أن تلجأ السلطة الفلسطينية إلى هذا الخيار خشية من تغييبها عن مشهد إدارة القطاع، ما يستدعي تحقيق المصالحة بين قطبي حركة فتح الرئيس محمود عباس والنائب محمد دحلان، رئيس تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح الذي يحظى بشعبية واسعة ويقوم بدور إغاثي حيوي ومهم في القطاع بدعم وتمويل من دولة الإمارات العربية المتحدة.    


-  لجنة الاسناد المجتمعي لإدارة شؤون قطاع غزة: ستكون لجنة الاسناد المجتمعي أحد أهم خيارات إدارة شؤون القطاع في حال لم توافق السلطة الفلسطينية على تشكيل حكومة توافق وطني موحدة في الضفة وغزة، وسوف تستمد هذه اللجنة حضورها وقوتها من الدعم العربي والدولي بما هي لجنة تتألف من شخصيات وطنية مستقلة قادرة على القيام بمسؤولياتها تجاه سكان القطاع.  


-  قوات عربية ودولية مؤقتة لإدارة شؤون القطاع: في حال استمر التنازع بين الأطراف الفلسطينية وخصوصًا "فتح" و"حماس"، فإن مشهد إدارة القطاع سيتطلب وجود قوة عربية دولية للاطلاع بدور إنهاء مظاهر الإنفلات الأمني وإغاثة السكان وإعادة إعمار القطاع على أن تعمل هذه القوات لفترة معلومة ومؤقتة ريثما تتفق القوى السياسية على شكل إدارة القطاع وتسليمه لسلطة فلسطينية منتخبة.     


 كاتب وباحث متخصص في الشأن الفلسطيني وقضايا حقوق الإنسان

[1] يوآف زيتون، فرض حصار على جباليا وتقسيمها: نظرة على العملية البرية الطويلة في جباليا، يديعوت أحرونوت، 3/11/2024.
[2] "مصر تُصّعد ضد تهجير الفلسطينيين إلى سيناء"، جريدة الشرق الأوسط، 18 أكتوبر 2023.
[3] "إدارة بايدن تعارض تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 29 نوفمبر 2023.
[4] "الاتحاد الأوروبي: يجب منع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة"، جريدة المصري اليوم، 12 ديسمبر 2023.
[5] "الحكومة الإسرائيلية توافق على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة"، قناة الشرق الفضائية، 18 يناير 2023.
[6] وللمزيد يمكن الاطلاع على "بيان حركة حماس بشأن اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل"، روسيا اليوم، 15 يناير 2025.
[7] "مظاهرات في إسرائيل للمطالبة بإنجاز صفقة رهائن في غزة"، روسيا اليوم، 5 يناير 2025.
[8] "عائلات جنود إسرائيليين تناشد نتنياهو إنهاء الحرب في غزة"، جريدة الشرق الأوسط، 9 يناير 2025.
[9] "ترامب يتدخل شخصيًا للتوصل إلى صفقة لإطلاق النار"، قناة القاهرة الإخبارية.
[10] "مقابلة مع دياب أبو جهجة مؤسس ورئيس مؤسسة هند رجب"، وكالة الأناضول، 16 يناير 2025.
[11] "نتائج استطلاع الرأي العام رقم 93"، فلسطين: المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، 17 سبتمبر 2024.
شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا