صورة للشخص (وهب عمر أحمد جواس) الذي اتهمه تنظيم القاعدة بالتجسس، 17 نوفمبر 2024 (اقتطاع مركز سوث24)
05-12-2024 الساعة 9 مساءً بتوقيت عدن
"يهدف التنظيم من خلال هذه الاستراتيجية إلى التأثير على التوازن الاجتماعي وزرع الشكوك داخل النسيج القبلي، مع السعي لخلق صورة تُظهره كطرف يحمي مصالح المجتمع المحلي."
سوث24 | إبراهيم علي
شهدت محافظة أبين، جنوب اليمن، تحولاً نوعياً في طبيعة الصراع بين تنظيم القاعدة والقوات المسلحة الجنوبية، إذ بات الطابع الاستخباراتي يطغى على الأحداث، مع تصاعد المواجهات الميدانية وحملات الحرب الإعلامية. هذا التحول يعكس بوضوح استراتيجية جديدة من التنظيم، تهدف إلى التأثير على المشهد الأمني والاجتماعي في المنطقة.
الحرب الإعلامية: أداة للتضليل والتأثير
في خطوة تهدف لتعزيز روايته الإعلامية، نشر تنظيم القاعدة مؤخراً فيديو مصور يعرض ما يدعي أنها اعترافات "جاسوس" يعمل لصالح دولة الإمارات والقوات الجنوبية. وفقاً للتنظيم، فإن هذا الشخص كان مسؤولاً عن تقديم معلومات أدت إلى مقتل قياديين بارزين، هما سعيد بن أحمد بن خميس الكازمي وشاكر بن صالح بن شعيب الكازمي. هذا الفيديو يشكل جزءاً من حملة التنظيم لتشويه صورة خصومه، واستقطاب مزيد من المؤيدين، مع استهداف الحاضنة الشعبية للقوات الجنوبية في أبين.
هذه الخطوة تحمل في طياتها أبعاداً نفسية واستراتيجية. فمن جهة، يحاول التنظيم ترسيخ فكرة أن خصومه يعتمدون على شبكة من العملاء المحليين، مما يعزز الشكوك داخل المجتمعات المحلية. ومن جهة أخرى، يسعى إلى مواجهة أي تعاون شعبي مع القوات الجنوبية، عبر تصوير العملاء كخونة معرضون للعقاب.
وفي تطور ميداني لافت، أعلن التنظيم مسؤوليته عن استهداف ما وصفه بـ"مركز لإدارة الطائرات المسيرة" في مديرية مودية. وفقاً لروايته، استند هذا الهجوم إلى "بلاغات" شعبية، وهو وصف يحمل دلالات تشير إلى سعي التنظيم لتصوير نفسه كجهة قريبة من المجتمع المحلي، في محاولة لاستمالة القبائل والتخفيف من ردود فعلها المحتملة.
ويرتبط هذا الهجوم بشكل وثيق بإعدام التنظيم لمواطن يُدعى وهب جواس، بتهمة التجسس لصالح القوات الجنوبية. يبدو أن هذه الخطوة تهدف إلى ربط عملية الإعدام بعمليات التنظيم الميدانية، لتبريرها أمام القبائل وضمان عدم تأجيج التوتر الاجتماعي. ومن خلال هذا النهج، يسعى التنظيم إلى تحقيق توازن بين تصعيد عملياته الإرهابية والسعي لتحقيق حد أدنى من القبول الشعبي.
تشويه الحقائق والتلاعب بالروايات
في مقطع الفيديو الأخير الذي نشره تنظيم القاعدة، يتضح أنه يستغل الاعترافات المزعومة كأداة لتعزيز روايته، خاصة في ظل العلاقات المعقدة التي تربطه مع أبناء قبائل محافظة أبين. ويهدف التنظيم من خلال هذه الاستراتيجية إلى التأثير على التوازن الاجتماعي وزرع الشكوك داخل النسيج القبلي، مع السعي لخلق صورة تُظهره كطرف يحمي مصالح المجتمع المحلي.
ورغم أن المشاركة المزعومة لأحد أبناء المنطقة في التجسس لصالح القوات الجنوبية المناوئة للتنظيم يمكن تفسيره كرغبة في التخلص من سيطرة القاعدة، إلا أنّ التنظيم عمد إلى تشويه هذه الصورة عبر تصوير الشخص كخائن. فوفقاً لروايته، كشف أحد المواطنين عن المخبر أثناء محاولته زرع عبوة ناسفة، في مسعى إعلامي واضح للتنظيم أراد من خلال تصوير أنّ التعاون مع التنظيم شائع في أوساط المجتمع المحلي.
وإلى جانب عرض "الاعترافات"، سعى التنظيم إلى توسيع دائرة التهديد ليشمل أمن السكان المحليين، وذلك من خلال اتهامه المواطن جواس بزرع عبوات ناسفة في مناطق عامة. يحاول التنظيم بذلك تصويره كخطر مباشر على المجتمع بمجمله، وليس فقط على تنظيم القاعدة. هذه الرواية تهدف إلى تبرير عملية الإعدام واعتبارها إجراء ضروري لحماية السكان، وتعزيز خطاب "التضامن المشترك" بين التنظيم والمجتمع المحلي ضد ما يُصور كتهديد مشترك. كما إنّ الربط بين تصفية "المخبر" وحماية المجتمع يعكس محاولة التنظيم استباق أي رد فعل قبلي قد ينجم عن عملية الإعدام.
حملة مضادة
كان من الملاحظ من خلال التسجيل الذي بثه التنظيم، محاولة اتهامه للإمارات بالتعاون مع الحوثيين، من خلال حديث المواطن جواس. وهي محاولة إعلامية أخرى لتوجيه الرأي العام وتجنب ردود أفعال عنيفة من قبل القبائل. فمن خلال ربط عملية التجسس بخصمين إقليميين، مثل الإمارات والحوثيين، يسعى التنظيم إلى تحويل القضية من كونها صراعاً محلياً إلى صراع إقليمي أوسع.
وتأتي الاتهامات التي يروج لها تنظيم القاعدة في سياق حملة دعائية مضادة تهدف إلى تشتيت الانتباه عن التقارير الأممية الأخيرة التي أكدت تعاون التنظيم مع الحوثيين في الجنوب، بتنسيق مع إيران. هذه العلاقة المتنامية قد تفتح المجال أمام الحوثيين لاختراق بنية القاعدة الأمنية وتوجيه عملياتها بما يخدم أجندات سياسية وإقليمية بعيدة عن المواجهة المباشرة بين الطرفين.
ويبرز في هذا السياق التوقف الملحوظ لعمليات القاعدة الهجومية ضد الحوثيين منذ عام 2022، كما أشارت الباحثة المتخصصة في الجماعات المسلحة، إليزابيث كيندل، بالإضافة إلى الانسحاب المفاجئ للقاعدة من مناطق نفوذها في البيضاء لصالح الحوثيين في العام نفسه. هذه المؤشرات تعكس تحولا استراتيجياً في العلاقة بين الطرفين، وقد تشير إلى وجود مصالح مشتركة تتجاوز الخلافات الأيديولوجية.
لطالما حاول تنظيم القاعدة في اليمن استغلال الانقسامات الطائفية، مقدماً نفسه كمدافع عن المناطق الجنوبية ضد تمدد الحوثيين. ومع ذلك، فإن المعلومات المتزايدة عن علاقاته المشبوهة مع إيران تتناقض بشكل صارخ مع هذه الصورة التي يسعى إلى ترسيخها. وفي محاولة منه لتغطية هذه التناقضات، لجأ التنظيم إلى اتهام دولة الإمارات بالتنسيق مع الحوثيين، بهدف ضرب مصداقية القوات الجنوبية المدعومة من التحالف العربي. كما يسعى التنظيم من خلال هذه الادعاءات إلى تشويه سمعة خصومه وتقويض مكانتهم لدى السكان المحليين، مع تصعيد الخطاب الطائفي والسياسي لإثارة الفوضى واستعادة نفوذه في ظل التحديات المتزايدة التي يواجهها.
وبغض النظر عن مصداقية التسجيل المرئي الذي نشره التنظيم من عدمها، فإن حقيقة تعرض القاعدة لاختراق من جهات متعددة تعد مسألة مؤكدة. فالإشارة إلى إحباط عمليات تجسس واعتقال جواسيس تعكس اعترافاً ضمنياً بوجود ثغرات أمنية عميقة داخل التنظيم، مما يثير تساؤلات جادة حول قدرته على حماية أسراره وضمان أمنه الداخلي، كما أنه يعكس بوضوح النتائج التي قادت إليها العمليات الأمنية والعسكرية والحراك المجتمعي للقوات الجنوبية ضده في محافظتي أبين وشبوة.
معضلة التنظيم
يواجه تنظيم القاعدة في اليمن معضلة استراتيجية متزايدة تعكس تغييرات جذرية في طبيعة القوات التي تقاتله اليوم. ففي الماضي، استغل التنظيم الانقسامات القبلية والشكوك تجاه الجيش المركزي التابع للنظام اليمني في صنعاء، لتعزيز نفوذه وترسيخ حضوره، لكن ظهور القوات المسلحة الجنوبية، التي تتكون بشكل رئيسي من أبناء المناطق التي ينشط فيها التنظيم، شكل تحولاً حاسماً في هذا السياق. فهذه القوات، التي تتمتع بقبول اجتماعي واسع نتيجة انتمائها المحلي، أضعفت قدرة التنظيم على استغلال الخلافات القبلية والتوترات المحلية لصالحه.
ورداً على هذا التحدي، اعتمد القاعدة على تكتيكات إعلامية وسياسية تهدف إلى زعزعة التماسك الاجتماعي للقوات الجنوبية وإثارة الفتنة داخل القبائل. كما يستخدم التنظيم دعايات ممنهجة تستهدف شرعية القوات الجنوبية وأهدافها، عبر اتهامات متكررة بأنها أداة أجنبية في يد الإمارات "مرتزقة الإمارات"، تهدف إلى القضاء على "المشروع الإسلامي". وفي الفيديو الأخير، زعم التنظيم أن القوات الجنوبية تنسق مع الحوثيين وتنفذ أعمال تخريبية، منها استهداف المساجد، كما جاء على لسان المواطن جواس في الفيديو الأخير.
تهدف هذه الاتهامات، رغم افتقارها لأدلة ملموسة، إلى تشويه صورة القوات الجنوبية وتقويض مكانتها في أوساط المجتمع المحلي المحافظ وخلق انقسامات مجتمعية تقود إلى تقليل فعالية هذه القوات التي تقاتله على الأرض وألحقت به خسائر كبيرة خلال السنوات الماضية.
تاريخ من الاختراق
بالعودة إلى الحديث عن فيديو التجسس، من المهم الإشارة إلى أن الاختراق الأخير لتنظيم القاعدة في اليمن يمثل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من العمليات الاستخباراتية الناجحة ضد التنظيم. فقد شهدت السنوات الماضية تتابعًا ملحوظًا لعمليات نوعية استهدفت قيادات التنظيم على مختلف المستويات، بدءًا من القيادات العليا ووصولًا إلى القيادات الوسطى والدنيا.
هذه العمليات الدقيقة، التي غالبًا ما نُفذت بعيدًا عن العمليات المسلحة التقليدية، كشفت عن قدرة الأجهزة الاستخباراتية الدولية على اختراق أكثر دوائر التنظيم تحصينًا والوصول إلى دائرته الصلبة. ونتيجة لهذه الضربات المتتالية، خسر التنظيم جزءًا كبيرًا من قياداته المتمرسة، ما أضعف قدرته على التخطيط والتنفيذ وأثر بشكل مباشر على تماسكه الداخلي.
ذات صلة: التجسس الإلكتروني: سلاح الولايات المتحدة السري في مواجهة تنظيم القاعدة في اليمن
ويشير هذا التحول في مسار الصراع إلى أن الحرب مع تنظيم القاعدة باتت استخباراتية بالدرجة الأولى، وأن القاعدة في المقابل يحاول إدارة نشاطه من خلال العمليات الإرهابية والحرب الإعلامية، ما يجعل القوات الجنوبية أمام تحدٍ مزدوج: مواجهة تهديدات التنظيم ميدانياً، والعمل على تعزيز ثقة المجتمع المحلي، لقطع الطريق أمام محاولات القاعدة لاستغلال أي فراغ أمني أو اجتماعي.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن تنظيم القاعدة ربما سعى من خلال هذا الادعاء إلى تحقيق عدة أهداف، منها:
تخويف السكان: يسعى التنظيم إلى بث الرعب في نفوس السكان المحليين، بهدف منعهم من التعاون مع القوات المناوئة له، من خلال تصوير أي تعاون على أنه خيانة تستوجب العقاب.
تشويه صورة الخصوم: يهدف التنظيم إلى إضعاف صورة القوات الجنوبية المناوئة له، بتصويرها كجهات لا تحظى بدعم شعبي، بهدف تقويض مصداقيتها.
صرف الأنظار عن علاقته بإيران: يسعى التنظيم إلى توجيه التهم نفسها لخصومه المحليين والإقليميين، في محاولة للتشويش على حقيقة علاقاته المتكشفة مع إيران ومليشيات الحوثيين.
إبراهيم علي