رجل يسير بالقرب من حريق مشتعل في خزانات النفط بعد يوم من الضربات الإسرائيلية على ميناء الحديدة الذي يسيطر عليه الحوثيون في اليمن في 21 يوليو 2024. (تصوير: وكالة فرانس برس)
03-08-2024 الساعة 1 مساءً بتوقيت عدن
"كان لافتاً في أعقاب التصعيد الأخير بين الحوثيين وإسرائيل وحتى اليوم، أن وتيرة العمليات الحوثية في البحر الأحمر شهدت حالة من الهدوء النسبي الكبير، وخفضاً لوتيرة التصعيد. إن مسار التصعيد ومآلاته سوف تكون مرتبطة إلى حد كبير بمجموعة من المحددات الرئيسية في المرحلة المقبلة."
مركز سوث24 | محمد فوزي
شهدت الأيام الماضية وعلى وجه الخصوص منذ استهداف مليشيا الحوثي للعمق الإسرائيلي في 19 يوليو الماضي، ولاحقاً الاستهداف الإسرائيلي المباشر لميناء الحديدة اليمني في 20 يوليو الماضي، العديد من المتغيرات على مستوى المواجهة بين جماعة الحوثي وإسرائيل، إلى الحد الذي جعل الإجابة على التساؤل المرتبط بحدود التغير الذي طرأ على معادلات الردع الثنائية وقواعد الاشتباك المنظمة للتصعيد بين الجانبين، شديدة الأهمية، خصوصاً وأن ذلك يأتي بالتزامن مع بعض المتغيرات الإقليمية المهمة، لا سيما في أعقاب الاستهداف الإسرائيلي لضاحية بيروت الجنوبية[1)، وعملية الاغتيال[2] التي تمت لإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في طهران، في هذا الإطار يبدو أن مسار التصعيد الحوثي الإسرائيلي ومدى التصعيد الذي سيشهده سوف يكون مرتبطاً إلى حد كبير بمتغيرات اللحظة الإقليمية الراهنة، وهي اللحظة التي تدفع باتجاه تنامي وتيرة المواجهات بين الجانبين، سواءً بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر.
المتغيرات التي طرأت على التصعيد بين الجانبين
شهد التصعيد الحوثي الإسرائيلي الأخير العديد من المتغيرات المهمة التي تُنذر بالعديد من التداعيات السلبية، وكان من أبرز ملامح هذا التحول في التصعيد:
1- التوجه نحو نمط المواجهة المباشرة: كانت السمة الرئيسية الغالبة على التصعيد الإسرائيلي الحوثي في الأيام الماضية، بل وربما نقطة التحول النوعية، هي الانتقال من مرحلة المواجهات غير المباشرة، إلى مرحلة المواجهات المباشرة، وفي هذا السياق يمكن القول إن التصعيد بين الجانبين خلال الفترة من أكتوبر 2023 وحتى 19 يوليو 2024، غلب عليه طابع الاستهداف الغير مباشر في حالة الحوثيين، من حيث استهداف السفن في البحر الأحمر، واستهداف بعض المناطق الطرفية والساحلية الإسرائيلية، وفي حالة إسرائيل كانت تل أبيب تعتمد بشكل رئيسي على ما يمكن وصفه بـ "سياسة الردع المتبعة من الحلفاء تجاه الحوثيين"، وخصوصاً التحالفات العسكرية الجديدة التي تم تشكيلها في البحر الأحمر لهذا الغرض سواءً تحالف حارس الازدهار[3] الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة في 19 ديسمبر 2023، وعملية "أسبيدس" الأوروبية[4] التي تم الإعلان عنها في 19 فبراير 2024، فضلاً عن الهجمات الأمريكية البريطانية على مواقع متعددة للحوثيين في اليمن.
ثم جاء الاستهداف الحوثي لتل أبيب في 19 يوليو الماضي، عبر إطلاق صاروخ باليستي و4 مسيرات، نجحت إحداها في اختراق العمق الإسرائيلي، مما أدى إلى مقتل أحد الأشخاص وإصابة 7 آخرين[5]، جنباً إلى جنب مع شن الجانب الإسرائيلي هجمات متزامنة في 20 يوليو الماضي، على ميناء الحديدة، وهو الهجوم الذي ركز على استهداف البنى التحتية وبعض مناطق تخزين الوقود[6]، وقد مثلت هذه التطورات نقطة تحول نوعي في مسار التصعيد الثنائي، خصوصاً على مستوى الانتقال إلى "مرحلة المواجهة المباشرة" بين الجانبين، بمعنى استهداف كلاً منهما للعمق الاستراتيجي للآخر.
2- التأكيد الإسرائيلي على الاستعداد لفتح جبهات متعددة: بتحليل الخطاب الإعلامي لكلا الجانبين في ثنايا التصعيد الأخير، كان لافتاً أن الخطاب الثنائي قد ركز على تصعيد اللهجة السياسية المتبعة، والتأكيد على أن عمليات الاستهداف المباشر سوف تستمر، مع استمرار الحوثيين في ربط هذا التصعيد بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في مقابل تأكيد إسرائيل على أن "أيديها سوف تطال أي مصادر تهديد محتملة قادمة من الجبهة اليمنية"، فيما يبدو أنه رسائل إسرائيلية واضحة مفادها القدرة على فتح أكثر من جبهة في آن واحد.
وفي هذا السياق كان زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي قد أعلن أن "استهداف العمق الإسرائيلي كان بداية للمرحلة الخامسة من التصعيد ضد إسرائيل، وأن هذه المعادلة الجديدة سوف تستمر خلال الفترات المقبلة، وأن العمليات الإسرائيلية لن تردع الجماعة" وفق تعبيره[7)، وفي المقابل ركزت السردية الإسرائيلية على التأكيد على أن هذا الاستهداف الأخير لميناء الحديدة جاء كرد فعل على عملية الحوثيين في قلب تل أبيب، وأكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أن "ميناء الحديدة كان منطلقاً للأهداف العسكرية للحوثيين"، وأن "استهداف ميناء الحديدة يُظهر جدية إسرائيل في الرد على التهديدات، وأنه لا يوجد مكان لن تصل إليه الذراع الطويلة لدولة إسرائيل" وفق تعبيره[8].
3- هدوء نسبي في وتيرة التصعيد الحوثي: كان لافتاً في أعقاب التصعيد الأخير بين الحوثيين وإسرائيل وحتى اليوم، أن وتيرة العمليات الحوثية في البحر الأحمر شهدت حالة من الهدوء النسبي الكبير، وخفضاً لوتيرة التصعيد، وذلك على الرغم من الخطاب الإعلامي والسياسي التصعيدي في أعقاب استهداف ميناء الحديدة، ويبدو أن هذا المتغير يرتبط بمجموعة من الاعتبارات الرئيسية، أولها أنّ الحوثيين ربما منشغلون بشكل رئيسي بمعالجة الآثار الكبيرة التي خلفتها العملية العسكرية الإسرائيلية على ميناء الحديدة، خصوصاً مع الأهمية الكبيرة والاستراتيجية لميناء الحديدة والذي يستقبل 70% من الواردات اليمنية لمناطق سيطرة الجماعة، خصوصا بعد استهدافها الموانئ في حضرموت وشبوة في أكتوبر 2022، وثانيها أن هناك بعض المتغيرات والتطورات المحلية التي ربما يسعى الحوثيون إلى ضمان تحقيق مكاسب كبيرة منها، وعلى رأسها الحديث عن اقتراب عقد صفقة لإعادة تصدير النفط اليمني يحصل بموجبها الحوثيون على نصيب الأسد من إيراداته، وثالثها أن اختلال قواعد الاشتباك الإقليمية في أعقاب التصعيد اللافت بين حزب الله وإسرائيل، وعملية اغتيال هنية، وهي العملية التي تمت في إيران، ما يجعل الحوثيين حالياً في مرحلة إعادة ترتيب الأوراق بناءً على هذه المتغيرات الإقليمية.
4- استمرار التصعيد الغربي ضد الحوثيين: على الرغم من حالة الهدوء النسبي التي شهدتها وتيرة التصعيد الحوثي في مرحلة ما بعد الاستهداف الإسرائيلي لميناء الحديدة حتى وقت كتابة هذه الورقة، إلا أن الولايات المتحدة وبريطانيا استمرتا في عملياتهما التي تستهدف مواقع الجماعة، وفي هذا السياق أعلنت القيادة المركزية الأمريكية في 26 يوليو الماضي أن قواتها نجحت خلال 24 ساعة في تدمير 6 طائرات بدون طيار تابعة للحوثيين المدعومين من إيران، في منطقة تسيطر عليها المليشيا، دون تحديد للمكان[9]، جنباً إلى جنب مع تلميح واشنطن على لسان مبعوثها الخاص إلى اليمن تيم ليندركينغ، إلى أنها تدرس تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية أجنبية من الدرجة الأولى على غرار تنظيم القاعدة[10]، ويبدو أن استمرار هذا النهج التصعيدي خصوصاً من قبل واشنطن يأتي في ضوء بعض الاعتبارات، أولها أن هذه الحالة قد تكون مؤشراً على أن واشنطن ترى أن الحوثيين لا يخضعون لشروطها، وثانيها أن ذلك ربما يكون مؤشراً على انقسام دولي حول النمط الأمثل للتعامل مع الحوثيين، وثالثها أن واشنطن ترى أن هناك ضرورة لاستمرار التصعيد ضد الجماعة اليمنية بما يضمن استعادة الردع المفقود.
دلالات متعددة
على الرغم من هذا التحول الكبير في مسار التصعيد الحوثي الإسرائيلي، إلا أن هذا التصعيد استهدف على ما يبدو تحقيق بعض الأهداف السياسية بعيداً عن محدودية الأهداف العسكرية، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- رسائل سياسية للحوثيين أكثر منها عسكرية: استهدف تنظيم الحوثي من عملية تل أبيب الأخيرة تحقيق مجموعة من الأهداف التي يغلب عليها الطابع السياسي، أولها إيصال رسائل بتنامي قدرات المليشيا العسكرية، وثانيها استمرار حالة التضامن والإسناد مع الفصائل الفلسطينية والفصائل الموالية لإيران في المنطقة، وتعزيز الوزن النسبي للحوثي في إطار المعادلة الإقليمية لإيران، جنباً إلى جنب مع تحقيق مكاسب داخلية في ضوء المركزية التي تحظى بها القضية الفلسطينية في الوجدان الشعبي العربي، وثالثها التأكيد على قدرة الجماعة على استهداف العمق الإسرائيلي، بما يضع حكومة "نتنياهو" في حرج وتحت ضغط كبير من الداخل الإسرائيلي.
2- سعي إسرائيل لاستعادة الردع الاستراتيجي المفقود: على الرغم من "نوعية" الاستهداف الإسرائيلي لميناء الحديدة اليمني، على اعتبار أنه يمثل الاشتباك المباشر الأول لإسرائيل مع الحوثيين، إلا أن هذه العملية استهدفت تحقيق بعض الأهداف السياسية المحددة، أولها حفظ ماء الوجه أمام الداخل الإسرائيلي، بعد حالة السخط إثر فشل الدفاعات الجوية الإسرائيلية في اعتراض المسيرة الحوثية، وثانيها السعي لاستعادة الردع الاستراتيجي المفقود تجاه الحوثيين والفصائل الموالية لإيران في المنطقة، وهو الردع الذي تراجع كثيراً إلى الحد الذي دفع الحوثيين لاستهداف العمق الإسرائيلي، وثالثها أن الهجوم الإسرائيلي ركز على الأهداف ذات الطابع اللوجستي والاقتصادي، بما يضمن من جانب تكبيد الحوثي خسائر اقتصادية كبيرة تضمن زيادة الضغط الشعبي على الجماعة، ومن جانب آخر ضمان عدم توسع حرب الاستنزاف مع الحوثيين، بمعنى أن العملية كانت أقرب إلى نمط "العمليات الاستعراضية".
3- التزامن مع حالة التصعيد الإقليمي: يبدو أن هناك ارتباطاً كبيراً بين ارتفاع منسوب التصعيد الحوثي الإسرائيلي متمثلاً في التوجه نحو نمط المواجهات المباشرة، وبين اللحظة الإقليمية الراهنة وتداعيات وإفرازات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، خصوصاً على مستوى احتدام المواجهات بين عدد من الفصائل بالمنطقة وبين إسرائيل، خصوصاً ما يتعلق بجبهة حزب الله اللبناني، والتي باتت أغلب التقديرات تذهب إلى توقع أنها ستتحول إلى حرب مفتوحة بين الجانبين، ولا يجب هنا إغفال أن اللحظة الإقليمية الراهنة تشهد حالة من السيولة الكبيرة، وحالة من الارتباط بين جبهات التصعيد المختلفة، وبالتالي لا يمكن فصل هذا التحول في مسار التصعيد الحوثي الإسرائيلي، وبين حالة التصعيد التي تشهدها المنطقة بشكل عام.
وختاماً يمكن القول، إن مسار التصعيد الحوثي الإسرائيلي ومآلاته سوف تكون مرتبطة إلى حد كبير بمجموعة من المحددات الرئيسية في المرحلة المقبلة، أولها مدى قدرة مباحثات وقف إطلاق النار الجارية في غزة على حلحلة الملفات الخلافية والتوصل إلى وقف للحرب، وثانيها يرتبط بمسارات التصعيد في الجبهات الأخرى وخصوصاً جبهة حزب الله اللبناني، وثالثها المقاربة الإيرانية للتعامل مع هذه التطورات الإقليمية، وفي ضوء هذه المحددات والمؤشرات البارزة بخصوصها يمكن القول إن السيناريو الأقرب بالنسبة للتصعيد الحوثي الإسرائيلي سوف يتمثل في استمرار ارتفاع وتيرة التصعيد الثنائي بما في ذلك المواجهات المباشرة والاستنزافية، مع حرص الطرفين على عدم الوصول إلى نقطة الحرب المفتوحة والعمليات الكثيفة.
محمد فوزي
باحث مصري متخصص في شؤون الأمن الإقليمي
المراجع:
[1] فؤاد شكر.. تفاصيل استهداف القيادي الكبير في حزب الله بالضاحية الجنوبية لبيروت - BBC News عربي
[2] حقائق-ما نعرفه حتى الآن عن اغتيال إسماعيل هنية - SWI swissinfo.ch
[3] تحالف حارس الازدهار - ويكيبيديا (wikipedia.org)
[4] عملية أسبيدس البحرية الأوروبية: بيان صحفي للممثل الأعلى / نائب الرئيس جوزيب بوريل . زيارة مقر العملية في اليونان | EEAS (europa.eu)
[5] الحوثيون: نفذنا "عملية نوعية" استهدفت تل أبيب | سكاي نيوز عربية (skynewsarabia.com)
[6] غارات إسرائيلية تستهدف ميناء الحديدة باليمن ومقتل عشرات الفلسطينيين جراء تجدد القصف على غزة (france24.com)
[7] ضمن معادلة جديدة .. عبد الملك الحوثي: المرحلة الخامسة من العمليات مستمرة (palinfo.com)
[8] بعد ضربات الحديدة.. نتنياهو: الميناء "ليس بريئًا".. والحوثيون: تل أبيب لا تزال "غير آمنة" - CNN Arabic
[9] خفوت هجمات الحوثيين خلال أسبوع من الضربات الإسرائيلية (aawsat.com)
[10] Red Sea tensions reach new high as US weighs terrorist designation for Houthis - ABC News (go.com)