الافتتاحية

السجال البنكي بين عدن وصنعاء

أكوام من العملة اليمنية خلال تسليم رواتب في صنعاء في وقت سابق (رويترز)

01-06-2024 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol

عزت مصطفى


لوحظ خلال اليومين السابقين، سجال قرارات وإجراءات بين البنك المركزي اليمني للحكومة المعترف بها في عدن، والبنك الخاضع لسيطرة الحوثيين في صنعاء. وبالنظر إلى الانقسام في السياسة النقدية والإجراءات الاقتصادية وأثرها خلال سنوات الحرب، يُمكن ملاحظة مضي الحوثيين في المقامرة بفرض أمر واقع اقتصادي ومالي بنفس أسلوب التكتيك العسكري الذي يستخدمونه في المواجهات المسلحة. وتفترض هذه المقامرة أنّ طرف الحكومة المعترف بها في الحرب سيتوانى عن رد الفعل تجنبًا لأي مضاعفات تؤثر على زيادة تردي الحالة الإنسانية في البلاد.


ومع كل تردد في جانب الحكومة المعترف بها من اتخاذ ردود فعل على السلوك الحوثي، يرتفع سقف المقامرة الحوثية أكثر، ما قاد إلى نتيجة كارثية أدت إلى استمرار انقطاع مرتبات الموظفين في مناطق سيطرة الحوثيين، الذين استحوذوا على الإيرادات هناك دون إعادة ضخها داخل الدورة الاقتصادية. وفي الجانب الآخر انكماش الإيرادات في مناطق وجود الحكومة نتيجة التهديد العسكري الحوثي بضرب موانئ تصدير النفط ومنشآت اقتصادية أخرى.


كلمة السر في كل ذلك، هي التدفقات الدولارية التي يعتمد عليها القطاع الخاص في فتح اعتمادات مستندية لاستيراد السلع. إذ قبل السجال الأخير كانت هذه التدفقات منقسمة بين صنعاء وعدن، ومعظمها يأتي من تصدير النفط الذي أوقفه الحوثيون باستخدام النار، ومن تحويلات المغتربين التي تذهب معظمها لمناطق الشمال حيث الكثافة السكانية، وكذلك من الهبات والودائع للبنك المركزي في عدن التي تأتي من الدول الشقيقة وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، ومن المساعدات الإنسانية التي تنفقها المنظمات الدولية.


وعلى رغم من أنّ التدفقات الدولارية كانت إلى ما قبل أمس الأول متكافئة نسبيًا بين عدن وصنعاء، إلا أنّ الاعتمادات المستندية في الشمال والجنوب كان يتحمل عبئها البنك المركزي في عدن بينما تخلّى الحوثيون عن هذه المسؤولية تمامًا، مثلما تخلوا عن دفع مرتبات الموظفين في مناطق سيطرتهم رغم الإيرادات الجبائية الكبيرة التي يُحصّلونها.


ساهمت مساعي وجهود التسوية السياسية، في زيادة تردي الأوضاع الإنسانية نتيجة حالة المراوحة الطويلة التي لا هي أفضت إلى تفاهمات موقعة بين أطراف الحكومة المعترف بها والحوثيين، ولا سمحت باتخاذ اجراءات وقائية من قبل مركزي عدن؛ لتضييق الفجوة في السياسة النقدية التي أغرت الحوثيين باستثمارها في سوق سوداء مالية ضخمة عبر شركات تابعة لقياداتهم.


إنّ القرارات الأخيرة للبنك المركزي في عدن، تندرج ضمن الحالة الطارئة التي يستدعيها التدخل العاجل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبالرغم من أنّها قرارات قاسية قد تُلقي بعض الظلال الداكنة على الحالة الإنسانية، إلا أنّ التأخر أكثر في اتخاذها كان سيؤدي في نهاية المطاف إلى انزلاق الحالة الاقتصادية والوضع الإنساني إلى قعر خطير يصعب الخروج منه.


الآن، وبعد عام ونصف من استهداف عسكري حوثي لموانئ تصدير النفط، استخدمت الحكومة المعترف بها ورقة الضغط التي بيدها، وهي التزامها بتوفير حصيلة دولارية للاستيراد. وبينما كانت تقوم بتوفير هذه الحصيلة حتى للبنوك والقطاع الخاص في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، أدخلت الحكومة متطلب جديد وهو القيام بما كانت تقوم به وفق قواعدها المنظمة، وذلك من خلال إلغاء الانقسام النقدي بين عدن وصنعاء ومرور التدفقات الدولارية عبر البنك المركزي في عدن، طالما أنّها هي من سيقوم بتغطية المبادلة بين الريال والدولار.


وعلى أساس ذلك، ستضطر البنوك من الآن وصاعدًا إلى شراء الدولار بالعملة المطبوعة بعد 2016، الصادر عن الحكومة المعترف بها دوليا في عدن. ويفترض أن تُحصّلها من التجار الذين لن يستطيعوا توفيرها إلا بالبيع للمستهلك بنفس هذه العملة.


الكرة الآن في ملعب الحوثيين، فلا يكفي إلغاء الإجراءات الانقلابية التي سبق واتخذوها في السياسة النقدية، بل أيضاً الاعتراف بالممثل الشرعي للسياسة النقدية وهو البنك المركزي في عدن وكل ما يصدر عنه، مالم فإنّ الوضع الإنساني في مناطقهم سينهار أكثر، خاصة إذا ما سعوا لمصادرة أي نقود شرعية يحاول الناس مبادلتها بالسلع، أو قيامهم بالتضييق على المستوردين، الذين لن يكون أمامهم سوى خيار البيع في السوق اليمني بالعملة الشرعية ليستطيعوا مبادلتها لاحقًا بالدولار.


في مقابل كل ذلك، ردّ الحوثيون على الحكومة المعترف بها بإعلان استعدادهم مبادلة الريال القديم المتداول في صنعاء بريال جديد متداول في عدن (رغم أنّهم ما زالوا يصادرونه من مقتنييه)، وهذا إجراء وإن بدا كرد فعل عدائي على قرارات عدن، إلا أنّه اعتراف غير معلن واضطراري بالريال المتداول في مناطق الحكومة المعترف بها.


المفارقة، أنّ الحوثيين سيستمرون بمنع تداول الريال (الجديد) في صنعاء رغم أنهم سيقومون بمبادلته بالقديم. وهذا الإجراء الحوثي المتخبط مفاده أنّهم لا يملكون حلولًا عملية ضد قرارات الشرعية، وما سيلبث أن يبدأ بعض النافذين الذين استفادوا من اقتصاد الحرب في مناطق الحوثيين، والذين خزّنوا مبالغ كبيرة بالريال القديم أن يتخلصوا منها وتحويلها إلى الطبعات بعد 2016؛ القابلة للتبادل مع الدولار عبر مركزي عدن. هذا الأمر سيغرق السوق في مناطق سيطرة الحوثيين بعملة توشك مهلة انتهاء مشروعيتها على الاقتراب، وكلما اقتربت المهلة سيهرع القادة الحوثيون، ممن راكموا ثروات ضخمة بالريال القديم، إلى مبادلتها بالريال الجديد.


ذاتياً، سيتحوّل السوق إلى الاعتراف بالريال الذي تعتمده الحكومة المعترف بها، خاصة وإنّ إجراءات مركزي عدن ضد ستة من البنوك التجارية التي ما زالت خاضعة للسياسة النقدية الحوثية ستفقد تدفقاتها بالدولار والريال السعودي، ولن تستطيع تغطية الاعتمادات المستندية للقطاع الخاص. كما إنّ كثير من البنوك المراسلة في الخارج ستوقف التعامل معها؛ مالم تعمل على توفيق وضعها مع اشتراطات مركزي عدن.


الخلاصة، ستنشأ الأزمة إذا ما استمرت مليشيا الحوثيين بعدم اعترافها بالطبعات النقدية المتداولة في عدن، وهي أزمة خطيرة يخوضها الحوثيون مراهنةً على تراجع الحكومة المعترف بها عن اجراءاتها الأخيرة، رغم إنّ الحل يكمن في أن يخضع الحوثيون للأمر الواقع، ويقبلون في نهاية المطاف بإنهاء سياساتهم النقدية الأحادية التي استمرت لسنوات.




عزت مصطفى 

باحث سياسي. يقدّم تعليقات لمركز سوث24 حول القضايا المتصلة بالصراع في اليمن.

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا