غلاف الورقة. الصورة داخل الغلاف: ماندل نجان / AP
27-09-2023 الساعة 8 صباحاً بتوقيت عدن
ورقة تحليلة| أورنيلا سكر
تشكّل صفقة التطبيع بين إسرائيل والسعودية واحدة من أبرز التطورات السياسية والإقليمية في الشرق الأوسط. بينما تبدو هذه الفرصة واعدة لتحقيق التعاون وتعزيز الاستقرار في المنطقة، فإنّها تواجه أيضاً تحديات كبيرة تستدعي اهتماما وتدبيراً ورصدا عميقا لتحولات المنطقة على الصعيد الإقليمي والدولي. إنّ استراتيجية الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط التي اعتمدتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" عام 2010، هي التي دفعت بعض اللاعبين الجدد إلى اقتحام المجال الحيوي لأمريكا في منطقة الشرق الأوسط، والتوغل فيه عبر تحقيق مكاسب وامتيازات نفوذ، عبر عقد صفقات تجعل المنطقة في حالة فوضى، يسود فيها التدمير الممنهج والحصار الاقتصادي والأزمات الإنسانية. لقد كان مشروع نشر الديمقراطية في العالم العربي، بمثابة صفعة القرن التي أخفقت من خلالها الولايات المتحدة بشدة، فضلا عن إخفاقها في علاقاتها مع الحلفاء إلى حين اندلاع الحرب الروسية –الأوكرانية عام 2020، التي فرضت واقعاً جديداً يقود إلى تغيير جذري في منظومة النظام العالمي.
إنّ التحوّل الذي شهدته التحالفات وموازين القوى الجديدة سحبت البساط من تحت أقدام الولايات المتحدة، بالإضافة إلى التمدد والصعود الروسي في إفريقيا والشرق الأوسط. أدى ذلك إلى نتائج سلبية من منظور غربي، تجلّى بالاضطرابات في القارة الإفريقية وقاد بطبيعة الحال إلى انقلابات عسكرية جديدة وتمرُّد على الإرث الاستعماري التاريخي، مع تعزيز التوجه نحو الروس والصينيين، الذين يمكن الوثوق بهم من وجهة نظر بعض قادة الشرق الأوسط وإفريقيا.
هذه التطورات، على الأرجح، دفعت الولايات المتحدة إلى إعادة التفكير في منطقة الشرق الأوسط، والتأكيد على أهمية تلك المنطقة بالنسبة للمصالح الأمريكية؛ وبخاصة بعد استفراد كل من روسيا وإيران والصين في المنطقة من جهة، وما تقوم به إيران من خروقات وتجاوزات في المنطقة العربية من جهة أخرى.
فما هي حدود وتأثير هذه العودة على الشرق الأوسط، وبشكل خاص منطقة الخليج، وما مدى تأثيرها على العلاقات الأمريكية – السعودية؟
مقدمة
اعتمدت الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جو بايدن سياسة مختلفة عن سلفه دونالد ترامب تجاه المملكة العربية السعودية، وذلك عبر هيمنة توجهات الحزب الديمقراطي الذي يدعو إلى تعزيز مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتخفيض العنف العسكري في منطقة الشرق الأوسط، عبر العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران وإعادة النظر في علاقات واشطن بالرياض.
لذلك عكست إدارة بايدن قرارات ترامب في الشرق الأوسط، وأهمها، العودة للاتفاق النووي الإيراني، وإلغاء تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية، وتعليق صفقات الأسلحة القائمة مع السعودية والإمارات، واستغلال مسألة حقوق الإنسان لممارسة مزيد من الضغوط، ما دفع العلاقات مع السعودية، بدرجة خاصة، إلى مزيد من التوتر.[1]
دفع الانشغال الأمريكي بالصين وتفاقم الأزمة الأوكرانية وانعكاساتها على أمن الطاقة وتخلي واشنطن عن التزاماتها بشأن حماية الأمن الخليجي، السعودية والإمارات إلى البحث عن مصادر أخرى من الشراكات؛ بهدف التعاون وحماية أمنهما القومي والاستراتيجي.
يذكر رئيس الوزراء البريطاني "أنتوني إيدن" في مذكراته، أن رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي "نوري السعيد"، وإبان الأزمة بين الرئيس المصري الأسبق "جمال عبد الناصر" من جهة، والمعسكر الغربي من جهة أخرى، عبّر عن امتعاضه من النهج الذي كان يتّبعه الغرب مع عبد الناصر، في إشارة إلى أنّ "عبد الناصر" كان ينال عبر التهديد والوعيد ما يريده من الغرب أكثر مما يأخذ العراق. فهل تولّد لدى الإدارة السعودية ما شعر به العراق إبان عهد الملكية؟ قد تكون الصورة المعبّرة عن ذلك هي استعادة العلاقات السعودية – الإيرانية برعاية صينية، الأمر الذي يهدد مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط.[2]
امتازت العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية بخصوصية فريدة تُميزها عن العلاقات الدولية الأخرى. يعود هذا التميّز إلى عدة عوامل مهمة تجمع بين البلدين: الموقع الجيواستراتيجي المتميز والقدرات الاقتصادية والنفطية والعوامل الثقافية والدينية في العالمين الإسلامي والعربي، والتاريخ العريق لتلك العلاقات في مجالات الأمن والدعم العسكري والتجارة والاستثمارات، فضلاً عن الجهود المشتركة في مكافحة التطرف والإرهاب وتعزيز الأمن والاقتصاد والسياسة بين البلدين.
تحاول هذه الورقة رصد وتحليل تراكمات هذه التناقضات والتجاذبات المعقّدة في الشرق الأوسط، التي تسعى الولايات المتحدة من خلالها إلى إعادة ضبط التوازن وتحجيم بعض الأطراف الدولية بهدف إعادة تشكيل نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، ولكن هذه المرة، وبصورة غير مسبوقة، من بوابة "اسرائيل".
تأثيرات العلاقات السعودية الأمريكية
اختبرت العلاقات الأمريكية – السعودية حالة من المدّ والجزر كتعبير عن مصالح الطرفين القومية، وتطورات البيئتين الإقليمية والدولية. إذ أنّ العلاقات بين الطرفين لا تستند الى حيثيات تتعلق بالنفط من أجل صياغة مفهوم هذه الشراكة، فكثير من الدول المصدرة للنفط لا تتمتع بهذه العلاقة المتميزة مع الولايات المتحدة.
فقد عرفت تلك العلاقات الثنائية بين الرياض وواشنطن أشكالاً من التوتر الشديد في محطات سياسية عديدة، كان أبرزها الحظر النفطي العربي عام 1973، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. وعلى الرغم ، من الهزات التي تعرّض لها التحالف السعودي – الأمريكي[3]، ظلت العلاقة بينهما متماسكة. إلا أنه مع بداية عام 2011، عادت الخلافات الأمريكية – السعودية لتتجدد، نتيجة تباعد الطرفين في تفسير الأحداث والمتغيرات الإقليمية المتتابعة أبرزها: موجة الربيع العربي التي ولّدت عدد من التحديات والفرص على مستوى سياستها الخارجية بحكم أنّ تداعياتها أصبحت تنعكس على أمنها القومي والاستقرار الإقليمي.
من جانب آخر، أثّرت هذه التحوّلات الجيوسياسية على العلاقات الأمريكية – السعودية وتعاملهما مع التغيرات الإقليمية في كل من (البحرين واليمن ومصر وسوريا)، حيث تقاطعت تلك المصالح بشكل متفاوت مع بعض الملفات. كما أثار التقارب الأمريكي مع إيران في عهد الرئيس "باراك أوباما"، من خلال توقيع اتفاق البرنامج النووي الإيراني في 2015، ورفع العقوبات الاقتصادية، الاضطرابات بشكل متزايد في العلاقات الأمريكية - السعودية، والتوجس بشأن الحماية الأمنية للخليج التي تعرضت للاعتداءات الإيرانية بشكل مستمر. لقد عرف عهد أوباما سياسة الانكفاء الأمريكي تجاه الشرق الأوسط، وتراجع اهتمام واشنطن بالمنطقة والتوجه عوضاً عن ذلك نحو آسيا؛ نظراً لنمو هذه القارة الواعدة اقتصادياً، ومواجهة تصاعد النفود الاستراتيجي الصيني، الذي يهدد الوجود الأمريكي في القارة الأسيوية.[4]
يتفاءل البعض، بأنّ الاتفاق السعودي- الإيراني قد يعزز آمال الاستقرار الأمني والاقتصادي، بعيداً عن الخلافات والنزاعات في منطقة الشرق الأوسط. غير أن ممارسات إيران في المنطقة لا تزال كما هي بواسطة سياسة البراغماتية، وتحصيل شروط المفاوضات كما هو حاصل في النزاع حول إقليم الدرّة الحدودي بين الكويت –والسعودية، والتي تسعى إيران من خلاله إلى كسب امتيازات جغرافية ومالية.
هذا الاتفاق يترتب عليه استحقاقات عديدة تلزم الطرف الإيراني بتقديم تعهدات واضحة، قد ينتج عنها مكاسب استراتيجية وانفراجات أمنية واقتصادية في كل من العراق ولبنان وسورية واليمن ومنطقة الخليج، وبخاصة، للمملكة العربية السعودية التي تتهيأ لفتح مشروع نيوم وإيكسبو 2030. الأمر، الذي يتطلب مزيداً من الاستقرار والتعامل في مجالات الأمن والتعاون من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط. ففي تصريح لوزير الخارجية السعودي السابق "سعود الفيصل"، قال ممازحاً في إحدى المرات، "إن السعودية لم تعقد زواجاً كاثوليكياً مع الولايات المتحدة، بل زواجاً إسلامياً يسمح بتعدد الزوجات". فالمملكة لا تريد الطلاق من واشنطن، بل ترغب بإقامة علاقات متعددة مع دول أخرى، منها ما تكلل بإبرام اتفاق مصالحة (تجاري الطابع) بين إيران والسعودية عبر الوساطة الصينية.[5]
كل ذلك ينطوي على خمس تأثيرات بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأمريكية:
أولاً: إن قرار واشنطن بالتوجه نحو المحيط الهادي، فتح المجال أمام الصين وروسيا لملئ الفراغ في المنطقة وتطوير علاقاتها الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية بالدول العربية والخليجية، وتمكين الرياض بتسجيل نقاط بوجه واشنطن ومخالفتها وفق توجهات جديدة لا تشبه التبعية التي سادت خلال مرحلة الحكم القادة السابقين.
ثانيا: تلعب الصين بمهارة في سياستها الخارجية من أجل تمكين وتحقيق مصالحها الدولية. ومن الواضح، أن مصالح الصين تتقاطع بشأن أمن الممرات البحرية في الخليج، ما يحمي الصادرات الهيدروكربونية، ويعد استهلاكها من النفط الخليجي بحوالي 40% الذي تستهلكه من منطقة الشرق الأوسط[6]. وقد عقدت الرياض مؤتمرات عديدة حملت عناوين المؤتمرات العربية –الصينية والخليجية-الصينية، لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارات بين البلدين، مع الإشارة إلى أنّ حجم التبادل التجاري بين الدول العربية والصين؛ بلغ حوالي 1.6 تريليون ريال عام 2022 بنمو 31% مقارنة بالعام 2021 [7].[8]
ثالثاً: إنّ اتفاق الرياض مع طهران يسهم بتسكين الأجواء المتوترة في اليمن، وقد ينظر لها على أنها نقطة تحوّل ايجابية، لكنّ هذه المساعي قد لا ينتج عنها في الأخير حلولًا نهائية. فكل ما نشهده من سياسة تهدئة وتفاهم وحوار بين الطرفين مجرد توجهات مؤقتة سرعان ما تندثر بسبب عدم الثقة بالولايات المتحدة التي تسعى جاهدة لإجهاض هذه الاتفاقية، مع سعي طهران إلى تحسين التفاوض من أجل كسب مزيد من الوقت وتحصيل مكاسب استراتيجية وحيوية في المنطقة، وبخاصة إن المنطقة تشهد تغيرات عديدة على كافة الأصعدة[9].
رابعاً: إن هذه الشراكات في سبيل التعاون الاستراتيجي وتعزيز العلاقات الدبلوماسية والثنائية التي شدد عليها مؤتمر وزراء الخارجية في الرياض، جاءت من أجل التأكيد على مبادرة الأمن العالمي الجديدة التي أطلقها الطرفان، أي السعودية وإيران. فقد سعت الرياض إلى تصوير وتسويق نفسها كطرف مساهم في إرساء الاستقرار الإقليمي بشكل خاص، على اعتبار أنّ مثل هذه الخطوات قد تدفع إلى السيطرة على التسلح النووي والصاروخي لإيران، والحفاظ على العلاقات المستديمة بين واشنطن والرياض وفق تسوية سياسية تخدم الطرفين.
خامساً: إن هذا التناقض والالتباس الذي تمارسه الولايات المتحدة في علاقاتها الدولية يجعل من الصين وروسيا لاعبين ناشطين في الشرق الأوسط، وبخاصة أنهما لا يملكان إرثاً استعمارياً كما هو الحال لدى الولايات المتحدة الأمريكية، ما قد يجعل هذه الدول تستفيد من وساطتها في المنطقة، لتعزيز علاقاتها في مجالي التجارة والطاقة والاقتصاد في الشرق الأوسط.
في المقابل، يبقى التحدي هنا إلى أي مدى سوف تلتزم إيران والسعودية بهذا الاتفاق؟ وما موقف الصين في حال تم انتهاكه؟ إذ من الصعب إيجاد أجوبة مطلقة حول مدى إمكانية نجاح أو فشل هذه الاتفاقات لأنها مشروطة ببنود لا يمكن الجزم بمدى التزام الأطراف المتصالحة بها. وبالتالي، لا بد هنا أن نشير إلى أنّ المعطيات التي تتفاعل بشكل ضبابي، مازالت غير حاسمة حتى الآن، وبخاصة أنّ الطرف الإيراني لا يعترف بأنّ الاتفاقية التي ترعاها الصين تتضمن على بند ينص على إلزام إيران بعدم التدخل في شؤون الدول العربية.
علاوةً على ذلك، أدت ممارسات إيران في الأمن الخليجي على خلفية حقل الدرة، إلى توتر العلاقات الإيرانية مع السعودية والكويت. ذلك على الرغم من كل التطمينات التي تؤكدها إيران عبر الدبلوماسية الناعمة والتصاريح الرسمية بالدعوة إلى جعل المفاوضات بشأن إقليم الدرة سرياً، كي لا ينعكس سلباً على المصالحة الإيرانية –السعودية. وإلى جانب حقل الدرة، يُعد هجوم الحوثيين في 25 سبتمبر 2023 ضد قوة دفاع البحرين المتواجدة في الحدود الجنوبية للسعودية،[10] تذكير صارخ بحجم التحديات التي تواجه هذا الاتفاق، فضلا عن المخاوف التي تهدد بتقويض المحادثات السعودية الحوثية بوساطة سلطنة عُمان، بشأن الأزمة اليمنية. [11]
ويبقى هناك هاجس من أن يعيد التاريخ نفسه، بأن كل ما تريده إيران هو تحقيق مصالحها وتعزيز شروط مطالبها، خاصة أنها تعاني أزمة عزلة دولية وعقوبات اقتصادية تؤرقها منذ أشهر بسبب الاحتجاجات المناهضة للحكومة، ولا شك سيسهم هذا الاتفاق في التخفيف من عزلة طهران، ويضفي شرعية على نظامها ويعزز نفوذ الصين إقليمياً على حساب الولايات المتحدة. بالمقابل، تأمل السعودية، أن يكون هذا الاتفاق بمثابة درع صيني يحصنها ضد أي اعتداء إيراني.
إعادة تشكيل السياسات الإقليمية وفقاً للتحوّلات العالمية
إن تحوّل النظام العالمي من أحادي القطب نحو نظام متعدد الأقطاب، يخضع السياسة الخارجية الأمريكية لتحديات وفرص عديدة وتحولات غير مسبوقة، من أبرزها: أنه في يونيو 2022، أصدرت منظمة حلف شمال الأطلسي- الناتو، وثيقة جديدة للمفهوم الاستراتيجي، سلطت الضوء على استعداد المنظمة لمناخ أمني دولي جديد تحدده المنافسة المذكورة.[12] فقد شكلت الحرب الباردة، تنافسا ً شديداً بين واشنطن والاتحاد السوفياتي الولايات المتحدة، ادى إلى تكتلات متوائمة استراتيجياً، تعتمد استراتيجيات احتوائية انطلاقاً من رؤى أمنية مختلفة للنظام الدولي[13]. بينما تعكس الأوضاع الراهنة التكتيكات نفسها لكن وفق انعدام الرؤى.
تبين زيارات الرئيس الأمريكي جو بايدن، والرئيس الروسي فلادمير بوتين، والمستشار الألماني أولاف شولتز إلى الشرق الأوسط في عام 2022، تداعيات تصاعد تنافس القوى العظمى على الساحة العالمية. بدأت هذه الزيارات على خلفية الصراع المحتدم في أوكرانيا، وتشير إلى كيفية تأثير هذا التنافس على توجهات وسياسات الدول في منطقة الشرق الأوسط. تتعلق هذه الزيارات بأمور متعددة منها التنافس على النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة، بالإضافة إلى السعي لبناء التحالفات والشراكات الإقليمية التي تدعم مواقف هذه القوى العظمى في أزمة أوكرانيا. ومن المهم أيضًا التأكيد على كيفية تأثير هذا التنافس الجيوسياسي على قرارات الشرق الأوسط المتعلقة بالاقتصاد والطاقة والتكنولوجيا، وكيف يتجلى هذا التأثير في توزيع القوى والاستقرار في المنطقة.
في هذا السياق، يظهر تغير في الديناميات العالمية بعد نهاية الحرب الباردة، حيث سادت فكرة الاندماج الاقتصادي والتقدم التكنولوجي كمحركين للسياسة الدولية. ومع ذلك، يشير التحليل الحالي إلى عودة الاهتمام بالجيوسياسية والتنافس العظمى كعوامل أساسية في توجهات الدول الكبرى تجاه المنطقة، وهو ما يلقي بظلاله على الأوضاع والقرارات في الشرق الأوسط .
إن ما يجري في النظام العالمي اليوم يشكّل تنافس جيوسياسي وفق تعددية قطبية تفتقر إلى الرؤى والمشروع، بعكس فترة الحرب الباردة حيث ساد فيها صراعاً يقوم على تقديم مشروع تنافسي واضح يقوم بالاحتواء الأمريكي الأوروبي للاتحاد السوفياتي، واعتناقها مهمة أكثر عالمية لنسج روابط بين أمن منطقة اليورو- أطلسية من جهة، وآسيا والمحيط الهادئ من جهة أخرى. بحيث تنص الوثيقة المناطة باستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لإدارة ترمب،[14] على اعتبار روسيا والصين خصمان يمثلان تهديداً استراتيجياً ومنهجياً وجيوسياسياً، مما يخلق بيئة عالمية، جعلت الحرب في أوكرانيا لغة تنافس للقوى العظمى ومنتشرة في المناقشات المتعلقة بالشؤون الدولية، علماً أن هذا التنافس سبق أن حدد روحية وجوهر الكثير من الوثائق الاستراتيجية المتعلقة بالأمن القومي الأمريكي في فترة ما قبل الحرب الصادرة في العام 2017[15] ، واستراتيجية الدفاع الوطني للعام [16]2018.
تكشف هذه المقاربة التاريخية افتقار التنافس الحالي لأي رؤية بعكس الحرب العالمية الثانية، حيث تنافست واشنطن وموسكو على النفوذ في المنطقة من خلال محاولة تنمية الدول غير الغربية وفق نظريات كبرى حول النظام العالمي، تقوم على المنافسة بين النظام الرأسمالي الذي يقوده العالم الحر أي الولايات المتحدة والغرب لمناهضة الشيوعية الذي كان يقودها الاتحاد السوفياتي آنذاك. مقابل، مناهضة الإمبريالية أو الرأسمالية من جهة، والتي أنتجتها سياسات احتوائية تجاه بعضها البعض من خلال تكتلات وتحالفات إقليمية يستطيع الغرب استقطابها وجذبها وتأكيد ولائها بعكس واقع اليوم.[17].
إن التنافس بين القوى العظمى على خلفية الحرب في أوكرانيا، هو الذي دفع إلى إعادة تشكيل النظام العالمي من جديد، لأن المخاوف الدولية الناجمة عن الحرب الروسية -الأوكرانية شكّل الدافع الأساس وراء تفسير موقف المملكة العربية السعودية بقيادة سمو الأمير "محمد بن سلمان" من إدارة بايدن، على خلفية التعاون أكثر في مواجهة أزمة الطاقة العالمية التي سببها الاجتياح الروسي. كما عززت الحرب في أوكرانيا منطق التنافس الاستراتيجي وراء سعي أوروبا إلى تنويع مصادر الطاقة والابتعاد عن روسيا[18].
ففي العام 2021، كشفت المفوضية الأوروبية عن استراتيجيتها الصناعية الجديدة للحد من اعتمادها على الصين في التكنولوجيات والمواد الخام الإستراتيجية. غير أن الحرب الأوكرانية غيّرت كل تلك الحسابات. يقول جوزيف بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي، "إن دور المنافس أصبح محورياً في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين وفق رسم سياسات أوروبا وشؤونها الإقليمية على حساب اللاعبين الدوليين".[19] والأمر نفسه حدث في الشرق الأوسط، ففي كل صراع إقليمي، يتجلى إصرار القوى الإقليمية على فرض استقلاليتها. فتركيا وإيران وإسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة جميعها في صراعات إقليمية، تهدف إلى تأكيد استقلاليتها في وجه القوى العالمية، وخير مثال على ذلك تجاهل الدول الخليجية لإدارة "بايدن". فعلى الرغم من اعتماد الخليج على المظلة الأمنية الأمريكية، بادرت الجهات الفاعلة الخليجية، لاسيما السعودية بقيادة الأمير "محمد بن سلمان"، والإمارات بقيادة الشيخ "محمد بن زايد"، إلى إرساء توازن بين روسيا والغرب ولم تستجب لمطالب الولايات المتحدة بضخ المزيد من النفط إلى أسواق الطاقة العالمية.
هذا الأمر بحد ذاته، دفع الجميع إلى تعزيز الشراكات والتعاون الاقتصادي والأمني بشكل هائل، عبر تكثيف الحضور الصيني والروسي بشكل خاص في الاقتصادات الإقليمية[20]، وتبدل موقع القوى الأساسية في النظام الإقليمي. ففي شهر يوليو 2019، قدمت موسكو رؤيتها من أجل إطار أمني جماعي لمنطقة الخليج[21]،[22]، تحت عنوان اقتراح روسيا الاتحادية بشأن الأمن الجماعي في منطقة الخليج العربي، فضلاً عن دور الصين الذي حاول اللعب على خطوط الصدع في المنطقة، وذلك عبر طروحات قدمتها الصين[23]، واستضافت مؤتمرات واجتماعات حول الأمن الإقليمي والصراعات في الشرق الأوسط. على سبيل المثال عقدت المملكة العربية السعودية في أغسطس 2023 مؤتمرا دوليا في جدة، لبحث حل أزمة الحرب في أوكرانيا.[24]
التطبيع مع إسرائيل
إنّ النهج الإيراني تجاه السعودية الذي يقوم على سياسة استعداء دول الخليج والعرب بشكل متواصل منذ القدم إلى يومنا هذا على خلفية مشروع تفريس المنطقة والتشيع وولاية الفقيه، الذي يتغذى من الحرس الثوري الإيراني ذات العقيدة القومية الفارسية، أحد أبرز الأسباب التي تدفع دول عربية مثل المملكة العربية السعودية نحو خيارات التطبيع مع إسرائيل. ولو أنّ هناك انقسام عمودي حول هذه الأسباب الموضوعية لكن الثابت الوحيد أنّ المشروع الفارسي في المنطقة لم يخدم الوجود العربي ولا القضية الفلسطينية.
قد يعزّز من خطوة التطبيع مع اسرائيل، أي فشل للتفاهمات مع إيران حول تحقيق أمن واستقرار منطقة الخليج، التي تعرضت حتى وقت قريب للقصف الجوي من قبل المسيّرات الحوثية المدعومة من طهران، واستهداف المنشآت النفطية في أرامكو بالسعودية وكذلك المنشآت الحيوية في دولة الإمارات. فالرياض باتت تقترب "كل يوم أكثر فأكثر من تطبيع العلاقات مع إسرائيل"، وفقاً لتصريحات ولي العهد السعودي الأخيرة لقناة فوكس نيوز الأمريكية. [25]
إضافة إلى أن مسألة التطبيع مع إسرائيل تتضمن شروطاً فرضتها السعودية بالمقابل، من بينها أن تصبح السعودية دولة نووية للدفاع عن أمنها الاستراتيجي. ومن المتوقع أيضاً أن ينص الاتفاق على تقديم اسرائيل تنازلات بشأن القضية الفلسطينية. إذ إنّ كل ما يجري من تصعيد في غزة والضفة الغربية، مناط برفع سقف المفاوضات بعدة اتجاهات متعلقة بداخل وخارج إسرائيل. إنّ هذه الصفقة تهدف من جهة الولايات المتحدة إلى عدم ترك منطقة الشرق الأوسط ساحة سائبة للنفوذ الصيني المتزايد، فضلاً عن منع تكوّن صورة ضعيفة لإدارة الولايات المتحدة في المنطقة. كما إن نجاح هذه الصفقة التي تدفع بها الولايات المتحدة مع السعودية؛ مقروناً بمدى التزام إسرائيل والولايات المتحدة بإعطاء ضمانات أمنية لحماية أمن السعودية.
في السياسة الأمريكية، لطالما شكلت العلاقات مع إسرائيل ضغطاً على حكومة البيت الأبيض. فمن ناحية، كان على الحكومات التي تشعر بالحاجة إلى ممارسة الضغط على إسرائيل في عملية السلام أن تثبت أنها لم تعرّض أمن إسرائيل للخطر، إذ لا يمكن القول إن هناك حكومة يمكنها تحقيق هذا التوازن. فعندما حاولت حكومة "أوباما" الضغط من أجل منع بناء مستوطنات جديدة أثناء محاولتها التوصل إلى اتفاق مع إيران، عارض "نتنياهو" علناً واشنطن، وهذا يدل على مدى تأثير اسرائيل على السياسية الامريكية وليس العكس. والأمر نفسه تكرر مع سياسة الرئيس دونالد ترامب المؤيدة تماماً "للصهيونية"، على افتراض أن إسرائيل تستطيع التطبيع مع الدول العربية دون حل القضية الفلسطينية، والتي لم تحرز تقدماً في هذه القضية فحسب، بل نقلت السفارة الأمريكية إلى القدس واعترفت بها عاصمة لإسرائيل. ومع ذلك، وإن كانت العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية تبدو مضطربة، غير أن ذلك لا يعني بأن سياسة واشنطن لا تخدم الكيان الاسرائيلي. فالمسألة متعلقة بالوقت لا بالمواقف. وقد قال "بايدن" إن الوقت لم يحن بعد لدعوة "نتنياهو" إلى واشنطن، مشيراً إلى مخاوف تتعلق بقيم الديمقراطية.[26] كما أنّ الرئيس بايدن تراجع عن تحقيق مكاسب لإسرائيل بهدف تحسين شروط التفاوض مع إيران[27].
تشير التجارب إلى أنّ إسرائيل لا تلتزم بالعهود والمواثيق. فمثلاً تشير مذكرات الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، إلى أنّ المفاوضات من أجل عملية السلام في أوسلو كانت تتزامن مع التوسع المنهجي للمستوطنات وتعزيز سياسة التهويد والعنصرية بحق الشعب الفلسطيني[28] .
إذ بالرغم من تلك المفاوضات ومساعي تطبيع العلاقات مع تل أبيب، بقت القضية الفلسطينية هامشية وبقي الحل بشأن قضية الصراع تقليدياً. ويعزز ذلك الخطاب السائد في أدبيات الإعلام العربي، بشكل خاص، الذي بدأ يغيّر في نهج سياسته تجاه اسرائيل والمصطلحات التوصيفية للواقع هناك[29]. إنّ الفشل في ممارسة ضغوط كافية على إسرائيل لتحقيق السلام، يوحي بأنّ القضية الفلسطينية لم تعد أولوية قصوى بالنسبة للإدارة الأمريكية، التي توقفت عن الضغط على إسرائيل بشأن عملية السلام، ولم تعد تبذل نفس الجهد لوقف المستوطنات الإسرائيلية الجديدة في الضفة الغربية. وأصبح النقاش أكثر بروزاً حول كيفية استمرار إسرائيل كدولة ديمقراطية في ظل واقع الاحتلال. وإذا أردنا استخلاص العبر من اتفاقيات أوسلو للعام 1993، والاتفاق الإيراني عام 2015، فلا بد من أخذ الحيطة والحذر حيال مدى تأثير واستمرارية اتفاقات السلام التي تبرم بين خصمين.
إنّ مشكلة الولايات المتحدة اليوم، هي أنّه لم يعد لديها حلفاء إقليميين ملتزمين، كما كان سائداً أيام الحرب الباردة. حتى لو اعتبرنا أن الهدف من عودة الأساطيل الأمريكية إلى البحر الأحمر يهدف إلى احتواء إيران من خلال تطوير شراكة عربية - إسرائيلية متكاملة بدعم من الولايات المتحدة، فإنّ هذا الإطار يميل بشدة إلى إسرائيل أكثر منه إلى الدول العربية والاستقرار في الشرق الأوسط. بدليل أنّ الصفقة التي عُقدت بين الولايات المتحدة وإيران لا تهدف إلى تحقيق حل أو تغيير جذري في المنطقة والحد من القوة والعبثية القائمة، بقدر ما تهدف لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية بين إيران والولايات المتحدة من أجل أن يختم الرئيس الديمقراطي "جو بايدن" عهده بإنجاز يقدّمه للناخب الأمريكي. لذلك جاءت صفقات الإفراج عن الأسرى الأمريكيين، مقابل رفع التجميد عن الأموال الإيرانية في كوريا الجنوبية وغيرها من الدول. هذا الأمر قد يريح إسرائيل، إذا ما خفضت إيران نسب تخصيب اليورانيوم.
من هنا، فإن البحث في مفهوم ومستقبل الهيمنة الأمريكية، يطرح جدالاً حول تيارين في العلاقات الدولية يتعاملان مع مفهوم الهيمنة الأمريكية بشكل مختلف، الأول: يروج لفكرة استمرار الهيمنة الأمريكية وتمكينها من الحفاظ على دورها الرائد في النظام الدولي، بينما الثاني: يعتبر أن الولايات المتحدة تواجه تحديات وتراجعًا في هيمنتها. ويرجع ذلك إلى:
• تأثير الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على السياسة الخارجية. فقد كان لديه نهج مختلف مقارنة بسلفيه، وهو يعارض الالتزام الكامل بمفهوم الهيمنة الأمريكية ويشكك في النظام الليبرالي الدولي. هذا النهج أثار تساؤلات حول مستقبل الهيمنة الأمريكية.
• تغييرات في سياسة بايدن، الذي تولى الرئاسة بعد ترامب، إذ بدأ بتطبيق نهج أكثر تقاربًا مع النظام الليبرالي الدولي والتعاون مع حلفائه التقليديين. هذا يمكن أن يؤثر على مفهوم الهيمنة الأمريكية ومكانتها في النظام الدولي.
• تحول مفهوم الهيمنة من الاعتماد على المبادئ القائمة على القوة إلى توازن القوى. هذا التغيير يمكن أن يعكس تحولًا في السياسة الخارجية الأمريكية نحو تفضيل التعاون وتحقيق التوازن في العلاقات الدولية.
باختصار، مفهوم الهيمنة الأمريكية في مجال العلاقات الدولية تطور مع مرور الوقت وتأثر بالزعماء والتغيرات في السياسة الخارجية الأمريكية. [30]
إن التحوّل الجذري في السياسة الخارجية الأمريكية التي اعتمدها بوش الابن في أحداث 11 أيلول 2001، التي تقوم على استراتيجية الحرب على الإرهاب واتخاذ منحى الضربة الاستباقية والحروب الوقائية، لم تعد ذي جدوى اليوم، بسبب اختلال موازين القوى وبروز نظام دولي متعدد الأقطاب.
ويمكن تفسير عودة الاهتمام الأمريكي بالمنطقة، اليوم، على أنه دليل لإخفاق سياسي مارسته واشنطن في المنطقة منذ غزوها العراق في 2003، ودعمها "ثورات" الربيع العربي، ودعم الإسلاميين في المنطقة، فضلاً عن تخليها عن حلفائها في أوج حاجتهم إليها. لذلك، لا بد من تقييم هذه العودة تقييًما موضوعياً لأنّ أسس جوهرية قد تغيرت، ولو أنّ الظاهر هو اقتصادي، غير أنّ الدول العربية تفتحت وأصبحت معادلاتها ليست مناطة بالتبعية للولايات المتحدة بقدر العمل على بناء شراكات وتعاون من أجل المصالح القومية والاستراتيجية.
لقد شكّلت سياسات ترامب خلال فترة حكمه السابقة، تحدياً غير مسبوقاً لعلاقات واشنطن الخارجية، دفع بالحكومة الأمريكية العميقة إلى افتعال أزمة الوثائق السرية ومحاسبته قضائياً وعزله عن المشهد السياسي الأمريكي، للحيلولة دون عودته إلى المنصب مجدداً. وعلى اعتبار أن "ترامب" لا يؤمن بسياسة أمريكا القائمة على دورها القيادي العالمي، ولا يعتبرها ضرورة. فمن وجهة نظره، علاقات واشنطن مشروطة بتحقيق مصالحها، وهي أشبه بعلاقات تجارية وعلى الجميع الدفع، وليس التعاون وفق شراكات استراتيجية وبناء تحالفات.
على عكس ذلك، جاءت سياسات الرئيس بايدن لتؤكد على الدور القيادي للولايات المتحدة والقائم على الشراكة مع الحلفاء، وذلك من خلال العودة إلى الاتفاقات الدولية التي أطاح بها "ترامب". وقد تعهّد "بايدن"، بعقد اتفاقيات جديدة أساسها المصلحة الأمريكية، عبر توظيف الوسائل الدبلوماسية و الدعوة الى الحثّ على نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. غير أن الإرث السابق لترامب، فرض عقبات كان من الصعب على إدارة بايدن تجاوزها. فداخلياً تمثلت بصعوبة مواجهة الشعبوية في المجتمع الأمريكي التي ترفض العولمة والانفتاح على السوق، وتبني عدم المساواة الاقتصادية من أجل مساعدة الفئات المتضررة بهدف التكيف مع المتغيرات الاقتصادية. أما خارجياً، فتمثّل الأمر بمعالجة تبعات سياسات "ترامب" مع الدول العربية، والاتحاد الأوروبي وملف الاتفاق النووي الإيراني.[31].
وقد ظلت تلك العلاقات التي حاول بايدن ترميمها وتحسينها، تواجه عراقيل عديدة. إذ أن موقف واشنطن من الغزو الروسي لأوكرانيا، ترتب عليه توجّهات دولية جديدة وإعادة رسم خارطة التحالفات، صب في مصلحة أعضاء مجموعة "بريكس" وقاد لتوسيعها مؤخرا لتشمل السعودية وإيران ومصر والإمارات والأرجنتين وأثيوبيا[32].
إن التناقضات التي أخفق فيها الرئيس "دونالد ترامب"، وتجاهله لفكرة "زيبغنيو بريجنسكي" القائمة على فكرة مفادُها: "أن قوة الدولة العظمى تتقلص إذا توقفت عن خدمة فكرة ما"، شكلت مرحلة يسودها العجز لدى الولايات المتحدة في القدرة على الحسم والهيمنة، رافقها أسئلة عديدة ،[33] فصّلتها هذه الورقة:
o هل نجحت سياسة بايدن في إعادة الهيبة الأمريكية، أي الدولة القيادية الأحادية للنظام العالمي؟
o ما حدود عودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، دورها، وأهدافها؟
o ما هي الآثار التي ترتبت على النظام العالمي وأي نظام عالمي جديد ينتظرنا؟
o ما هي السيناريوهات المحتملة التي تنتظر مستقبل الهيمنة الأمريكية، وأثر كل ذلك على مسألة التطبيع الإسرائيلي في المنطقة؟
لا شك، أن تأثير التغيرات الإقليمية والدولية على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه دول وقضايا المنطقة، جعلت الولايات المتحدة تعيد حساباتها وتعيد إحياء مبداً التوازن على أكثر من صعيد، سواء لجهة الصراع الإسرائيلي –الفلسطيني، أو الإسرائيلي -العربي، عبر المطالبة بالتطبيع مع إسرائيل وما تحمله من مشروع اقتصادي للمنطقة يقوم على تحالفات جديدة بهدف التنمية المستدامة وإعادة الإعمار وتعزيز الشراكات في مجالات حيوية تعنى بالأمن والدفاع والتكنولوجيا والاقتصاد وحقوق الإنسان والطاقة.
إنّ أهم الملفات والقضايا الشائكة في ظل إدارة "بايدن" وتأثيرها على العلاقات الأمريكية- السعودية، تتمثّل في: البرنامج النووي الإيراني، والأزمة اليمنية، وملف حقوق الإنسان، ومسألة قيادة النظام العربي.
السيناريوات المحتملة
إن أزمة الثقة التي شهدتها علاقات واشنطن بحلفائها خلال الأعوام الماضية، أسهمت بتخفيض عدد من القوات في الخليج والانسحاب من العراق والانسحاب المربك من أفغانستان عام 2021، بعد أطول حرب خاضتها أمريكا في تاريخها، وانتهت بعودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان. ذلك دفع الصين إلى النجاح بتحقيق اختراق كبير في منطقة الخليج العربي، معقل النفوذ الأمريكي، من خلال الوساطة التي قامت بها بكين لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران بعد عقود من النزاعات والقطيعة. وبخاصة، أنّ الأمن السعودي ظل ولايزال مهدداً من قبل الحوثيين بهجمات صاروخية[34]، ومسيّرات تستهدف مناطق حيوية في السعودية، وبشكل خاص الممرات المائية ومنشآت الطاقة. قاد بالمحصلة إلى تعميق الشك الخليجي -السعودي بالذات؛ بالحليف الأمريكي، نتيجة عدم التزام الولايات المتحدة بعهودها تجاه الخليج والسعودية.
وبالتالي أصبح الوضع في الشرق الأوسط اليوم مناط بخيارين:
1-خيار التهدئة: في مقال لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق "مئير بن شبات" نشره موقع الأناضول[35]، اشترطت السعودية في أكثر من مناسبة، أنّ حل القضية الفلسطينية هو بمثابة أولوية قبل أي عملية تطبيع مع تل أبيب، ووصفه بالغاية المهمة لكن ليس بأي ثمن. ونتيجة لذلك، ستستطيع الولايات المتحدة إبعاد السعودية عن المحور الصيني الإيراني الروسي، وإمكانية رسم معالم النظام العالمي الجديد. كما يرى الجانب الإسرائيلي أن التطبيع مع السعودية يشكّل مصلحة واضحة من أجل تعزيز العلاقات وإبرازها، لكونها الدولة العربية الرائدة اليوم، وبسبب مكانتها كحارسة الأماكن المقدسة للإسلام، الأمر الذي يساعد إسرائيل على شرعنة نفسها ومواجهة النزاعات العقائدية الدينية في العالم الاسلامي، فتصبح أقل حدة. خاصة، أن المنطقة تتوق إلى الحلول الاقتصادية نتيجة الحروب والنزاعات المسلحة والعسكرية وغياب الاستقرار السياسي في عدد من الدول العربية، كالعراق وسوريا وإيران وليبيا واليمن.
2-خيار التصعيد: قد يُستبعد هذا السيناريو، لكن لا بد من التأكيد على أحقية القضية الفلسطينية التي تواجه تحدياً كبيراً، ذلك على الرغم من مساعي المملكة العربية السعودية الحريصة على تأكيد حضور الطرف الفلسطيني في هذه المفاوضات بشأن التطبيع. فضلا عن تعيينا سفيرا لها فوق العادة لأول مرة لدى فلسطين[36]. كما إنّ تصريحات نتنياهو في القنوات الغربية والإسرائيلية، تؤكد أن القضية الفلسطينية مجرد خانة اختيار مضمونة، نظراً لقوة وسيطرة نتنياهو على القرار الإسرائيلي الداخلي بالرغم من أزمته الداخلية.
علاوةً على ذلك، فإنّ كل ما جرى في جنين والضفة الغربية، يهدف إلى رفع سقف المفاوضات الأمريكية –الإسرائيلية والسعودية في أكثر من اتجاه، خاصة الشق المتعلق بأمن الخليج بقيادة "محمد بن سلمان" الذي شدد على المبادرة العربية التي عقدت في بيروت عام 2002، والتي أُجهضت بسبب أنّها لم تحقق شيء. كما إن فتح سفارة سعودية في القدس، تعزّز من شروط المملكة التي تسعى إلى أن تصبح قوة نووية في الشرق الأوسط مثل إيران، وتضمن معاهدة أمن متبادل شبيهة باتفاقية حلف شمال الأطلسي، تُلزم الولايات المتحدة بالدفاع عنها إذا تعرضت الأخيرة للهجوم؛ فضلا عن القدرة على شراء أسلحة أكثر تطوراً من واشنطن، مثل نظام الدفاع الصاروخي المضاد للصواريخ الباليستية (ثاد)[37]. لكن هذا النهج الجريء الذي يعتمده الأمير محمد بن سلمان يطرح علامات استفهام كثيرة حول مدى إمكانية نجاح الأوراق التي يراهن عليها؛ وبالذات مشروع "بريكس" المحفوف بتحديات عديدة. وما الذي يدفع أمريكا أن تغض النظر عن ممارسات الرياض إلى اليوم؟ وما هو الدور والمواقف المنتظرة من إيران في حال أقدمت السعودية على التطبيع، خصوصاً بعد تصريحات ولي العهد السعودي الأخير لقناة فوكس نيوز الأمريكية[38]".
وختاما، عنونت صحيفة نيويورك[39] تايمز مقالة للصحافي الأمريكي "توماس فريدمان": "بايدن يوازن صفقة كبيرة في الشرق الأوسط،" قال فيها بأنّ هذه الخطة نحو تحقيق السلام في الشرق الأوسط، قد تكون محفوفة بالتحديات والفرص. إذ يبدو أن الطرف الأمريكي بات أكثر عقلانية بعد الحرب في أوكرانيا، كما بات يُدرك مدى الأهمية التي تلعبها الرياض بالنسبة لأمن واستراتيجية الولايات المتحدة.
ومع ذلك من غير الواضح حتى اللحظة المآلات التي يمكن أن تقود إليها هذه التطورات، خاصة في ظل وجود حكومة يمينية متطرّفة بقيادة "نتنياهو". وهي بلا شك – أي فكرة تطبيع الرياض مع تل أبيب - مرتبطة بعدة عوامل قد تنُجحها أو تفشلها، تتعلق بمدى الأثر الاستراتيجي من انضمامها لتحالف "بريكس"، فضلاً عن مدى التزام الطرف الإيراني بتعهداته، وهو الأمر الذي من الممكن أن يترتب عليه تأثيرات تلقي بظلالها سلباً وإيجاباً على عملية التطبيع السعودية الإسرائيلية، وبالتالي على علاقة الرياض نفسها مع الولايات المتحدة الأمريكية.
المراجع:
[1] العلاقات الأمريكية -السعودية في ظل إدارة بايدن : معضلة تحقيق التوازن بين المبادئ والمصالح - المركز الديمقراطي العربي (democraticac.de)
[2] مذكرات انتوني إيدن، ترجمة خيري حماد، القسم الثاني، مكتبة الحياة للطباعة والنشر، بيروت، 1965، ص230.
[3] مايسة محمد محمود مرزوق , “العلاقات الأمريكية –السعودية في ظل المتغيرات الإقليمية (2011-2016),” رسالة ماجستير , معهد الدراسات والبحوث الأسيوية , جامعة الزقازيق , مصر , ديسمبر 2019,ص2
[4] Julian E. Barnes and Eric Schmitt. Trump orders withdrawal of U.S Troops from Northern Syria .New York Times,October13,2019(accessed February 26,2021):http://nyti.ms/388ECm7
[5] كيف يستقرئ خبراء كارنيغي تأثير الاتفاق السعودي الإيراني على مجالات تخصّصهم؟ - مركز كارنيغي للشرق الأوسط - مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي (carnegie-mec.org)
[6] المصدر السابق: بتاريخ 16 أذار/مارس 2023 كارل يونغ، معهد كارنجي ، كيف يستقرى خبراء كارنجي تأثير الاتفاق السعودي-الايراني على تخصصهم
[7] فالنتين كاتسونوف: بريتون وودز: الأحداث المفصلية في التاريخ المالي الحديث، ترجمة: عبدالله أحمد، دار أوغاريت للتأليف والترجمة والنشر، 2020.
[8] أورنيلا سكر، هل يقبل نتانياهو الوساطة الصينية،صحيفة الدستور الاردنية، العدد20089، تباريخ 6 تموز 2023
[9] كيف يستقرئ خبراء كارنجي الاتفاق السعودي –الايراني، مصدر سابق
[10] تنديد سعودي وأميركي بالهجوم على "دفاع البحرين" والحوثيون "يأسفون" لانتهاكات الهدنة | أخبار | الجزيرة نت (aljazeera.net)
[11] الهجوم "الحوثي" جنوبي السعودية.. نهاية محادثات وقف حرب اليمن؟ | أخبار DW عربية | أخبار عاجلة ووجهات نظر من جميع أنحاء العالم | DW | 26.09.2023
[12] Nato 2022 strategic concept,’Nato, “ june 2022, https:\www.nato.int/strategic-concept/.
[13] منافسة القوى العظمى في الشرق الأوسط: سباق من دون رؤية؟ (mecouncil.org)
[14] علي الجرباوي، الرؤى الاستراتيجية لثلاثي القطبية الدولية: تحليل مضمون مقارن، سياسات عربية ، العدد31،آذارمارس 2018،ص11.
[15] National Stae of America,’ The White House, December 18, 2017, https://trumpwhitehouse.archives.gov/wp-content/uploades/2017/12/NSS-Final-12-18-2017-18-0905.pdf
[16] Since the document itself is classified, the following is an unclassified summary: Summary of the united states of America Militiry’s competitive Edge,”US Departement of Defense, January 20,2018, Http;//defense.gov/portals/1/Documents/pubs/2018-National-Defense-strategy-summary.pdf.
[17] For an overview of NDS, see: Mara Karlin, How to Read the 2018 National Defense Strategy, (Washington, DC, US: Brookings Institution, January 21, 2018), https://www.brookings.edu/blog/order-from-chaos/2018/01/21/how-to-read-the-2018-national-defense-strategy/. Plus, for an overview of both NSS and NDS, see: Becca Wasser, Howard J. Shatz et al., Crossroads of Competition: China, Russia, and the United States in the Middle East, (Santa Monica, US: RAND Corporation, 2022).
[18] المصدر نفسه
[19] Daniel w. Drezner, “counter-hegemonic strategies in the global economy, security studies, vol .28, no.3, 2019, p.530
[20] Mohammed Soliman, The GCC, US-China Tech War, and the next 5G Storm, (Washington, DC, US: Middle East Institute), September 1, 2020, https://www.mei.edu/publications/gcc-us-china-tech-war-and-next-5g-storm.
[21] Permanent Representative of the Russian Federation to the United Nations, “Letter Dated 26 July 2019 from the Permanent Representative of the Russian Federation to the United Nations Addressed to the Secretary-General,” July 26, 2019. https://www.securitycouncilreport.org/atf/cf/%7B65BFCF9B-6D27-4E9C-8CD3-CF6E4FF96FF9%7D/s_2019_604.pdf
[22] Maxim A. Suchkov, “Intel: Why Russia Is Calling for Rethinking Gulf Security,” Al-Monitor, July 24, 2019, https://www.al-monitor.com/originals/2019/07/intel-russia-proposal-gulf-security-iran-tensions.html#ixzz7gqSHef7e.
[23] Wang Yi Attends the Second Middle East Security Forum,” Ministry of Foreign Affairs of People’s Republic of China, September 21, 2022, https://www.fmprc.gov.cn/mfa_eng/wjb_663304/wjbz_663308/activities_663312/202209/t20220923_10770221.html.
[24] روسيا وأوكرانيا: مؤتمر دولي في جدة لبحث مبادئ تسوية سلمية للحرب - BBC News عربي
[25] محمد بن سلمان: ولي العهد السعودي يقول إن الرياض أصبحت "أقرب" إلى التطبيع مع إسرائيل - BBC News عربي
[26] غادير استون ، نحو تطبيع سعودي –اسرائيلي، موقع سيتا التركي، 19اب 2023
[27] المصدر نفسه
[28] جيمي كارتر، مذكرات جيمي كارتر، دار النفائيس، 2020،ص 200
[29] متابعة المؤلفة الدقيقة لنشرات الأخبار الاعلام العربي وبشكل قناتي العربية والجزيرة.
[30] نور الدين حشود، الاسترايجية الامنية الامريكية بعد الحرب الباردة، من النتفرد الى الهيمنة 1990-2012، دفاتر السياسة والقانون، العدد 9 حزيران=يوليو 2013، ص380.
[31] لورد حبش، "الهيمنة في العلاقات الدولية ومراجعة للمفهوم في ضوء الحالة الامريكية" ، مجلة سياسات عربية ، مركز العربي للابحاث ودراسة السياسات ، العدد 48، كانون الثاني/ يناير2021.
[32] المصدر نفسه
[33] مرو عبد العاطى ,”السياسة الخارجية للمرشح الديمقراطى جو بايدن تجاه الشرق الأوسط :الروئ والتوقعات “, مركز الإمارات للسياسات , 1 نوفمبر 2020.
[34] برجا، فرانسوا وآخرون: “اليمن والعالم تفاعل اليمن والعالم في العقد الأخير من القرن العشرين”، مركز دراسات المستقبل والمركز الفرنسي للدراسات اليمنية، ص 256
[35] عبد الرؤوف ارناؤوط، أحد مهندسي "اتفاقيات إبراهيم": التطبيع مع السعودية "مهم لكن ليس بأي ثمن، موقع الاناضول، العدد 2934248"
[36] من رام الله.. السفير السعودي بفلسطين يدعو لإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس (alarabiya.net)
[37] تقرير: السعودية تخشى التطبيع الكامل مع إسرائيل، أو إجراء صفقة مع حكومة نتنياهو الحالية - تايمز أوف إسرائيل (timesofisrael.com)
[38] Special report to fox news, interviews with MBS on September 20, 2023.by providing insight on his relationship with the U.S and Israel.
[39] Opinion | A Biden Peace Deal Between Saudi Arabia and Israel? - The New York Times (nytimes.com)
قبل 3 أشهر