البواخر المتهالكة في سواحل عدن (A24)
30-07-2022 الساعة 10 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | عبد اللطيف سالمين
أعاد تسرب نفطي لوَّث سواحل مديرية البريقة في العاصمة عدن، جنوب اليمن، تسبَّبت به ناقلة متهالكة مطلع يوليو الجاري، قضية التلوث البيئي الوخيم في مياه وشواطئ المدينة إلى واجهة التحذيرات والمخاوف مجدداً من كارثة بيئية وشيكة أطلت برأسها مرات عديدة على مدى الأعوام الماضية إثر حوادث تسرب نفطي محدودة مشابهة.
فبعد عام واحد فقط من غرق السفينة "ديا بوم" [1] في ساحل البريقة وسكبها أطنانا من النفط، تكرَّر المشهد اليوم مع الناقلة "PEARL OF ATHENA"، بعد تسرب كميات أخرى من النفط لاحظها صيادون محليون على شكل طبقة سوداء تطفو على امتداد واسع من سطح البحر حتى الساحل.
لؤلؤة أثينا
في 5 يوليو 2022، كان الخط الساحلي بمديرية البريقة غرب عدن آخر مسرح لحوادث التسربات النفطية في المدينة الساحلية، بعد حدوث تسرّب نفطي بسمك 14 كيلومترًا مرئيًا من الناقلة "PEARL OF ATHENA"، إحدى السفن المهجورة المتهالكة والمهددة بالغرق في المجرى الملاحي لميناء عدن.
تعود ملكية هذه السفينة وبعض السفن الأخرى لشركة "عبر البحار" المملوكة لرجل الأعمال اليمني أحمد العيسي، مثل "ديا بوم" التي غرقت العام الماضي. ووفقاً لمصادر خاصة لـ "سوث24"، كان العيسي يستخدم تلك السفن العائمة في تجارة النفط، قبل أن يتم إهمال البعض، وتأجير البعض لمتنفذين آخرين.
وفي 22 يوليو، كشفت سلسلة تغريدات [2] نشرها رئيس مشروع نزع السلاح الإنساني لمنظمة السلام الهولندية PAX، وين زويننبرج، عبر حسابه الشخصي في تويتر، التسرب النفطي قُبالة ميناء عدن جنوبي اليمن، مُدعماً بصور عبر الأقمار الصناعية، التقطتها محطات تصوير الفضاء الأوروبي.
التسرب النفطي قُبالة ميناء عدن (صورة عبر الأقمار الصناعية، وين زويننبرج)
وأكَّد تقرير رسمي صادر عن الهيئة العامة للشؤون البحرية بالعاصمة عدن، ذات اليوم، حقيقة التسرب النفطي قُبالة سواحل البريقة، إثر تسرب من الباخرة أثينا. لقد انتشرت رائحة قوية لمادة البترول، وتشكلت بقعة من الزيوت المتسربة من الناقلة على سطح الماء في المنطقة الساحلية القريبة من الحادثة.
للتحقيق في الواقعة، قام "سوث24" بنزول ميداني إلى سواحل البريقة. لم نرصد أثراً واضحا للتلوث في مياه البحر، لكنَّنا رصدنا تغيَّرا في رمال الشاطئ في بحر الحسوة.
أيضاً، تمَّت ملاحظة السواد المنتشر على شاطئ البحر بجانب جسر البريقة الذي أشيع أنَّه بسبب الانسكابات النفطية، لكن بعد تتبع مصدره ووجدنا أنَّه عائد إلى تصريف مياه المجاري في البحر. مع ذلك يبقى احتمال اختلاط مياه المجاري ببعض النفط المُتسرب قائماً.
مصب صرف صحي لمياه البحر خلف جسر البريقة (سوث24)
ووفقاً لصيادين في ساحل الحسوة، تحدثوا لـ "سوث24"، ابتدأت آثار التلوث في الظهور منذ الـ 3 يوليو الجاري. قال الصيادون إنَّ آثار التلوث على عادتهم اليومية في الاصطياد استمرت بشكل متفاوت حتى نهاية الأسبوع الثالث من الشهر ذاته. كما عبَّروا عن شكواهم من المعاناة خلال الأسابيع الماضية، وتأثر شباكهم وتلفها بسبب الانسكابات.
مدير مركز التلوث البحري في الهيئة العامة لعلوم البحار والأحياء المائية، عبد الحكيم سعيد، أرجع ما لمسناه في نزولنا الميداني من عدم وجود آثار لحظية ومباشرة للتسرب النفطي في مياه البحر إلى "التيارات المائية والرياح التي قد تشتت أي تلوث عرضي ومفاجئ".
وقال سعيد لـ "سوث24": "الأخطر في التلوث هو التلوث المزمن أي أن تكون المنطقة مُعرضة دائماً للتسرب النفطي. نخشى في المركز أنَّه من الصعب معالجة هذا التلوث إلا إذا توقف مصدر التسريب النفطي على البيئة البحرية بشكل كامل حتى تستطيع البيئة البحرية تجديد الحياة بها".
وأضاف: "التسرب النفطي الأخير تلوث عرضي ومفاجئ. هذه الحوادث لا تقع بشكل يومي وإنما بين فترة وأخرى".
الأضرار البيئية
"عندما يحدث التسرب، لا يمتزج النفط بالماء بل يطفو على السطح لينتشر فوقه خلال فترة زمنية قصيرة"، قال خبير بيئي فضل عدم الإفصاح عن اسمه لـ "سوث24".
وأضاف: "هذا يشكل طبقة رقيقة جدا ويمنع ضوء الشمس من الوصول إلى البيئات المحيطية، مما قد يؤثر بشدة على الكائنات البحرية، وبالتالي على السلسلة الغذائية بأكملها للنظام البيئي".
وحول هذا، قال رئيس مركز التلوث البحري، عبد الحكيم سعيد، "التلوث النفطي يُعد بين الملوثات الخطرة على البيئة البحرية ويلحق الضرر الموارد الطبيعية الحية في منطقة التلوث. استمرار تسرب الزيت إلى مياه البحر بالتأكيد يُلحق الضرر بالبيئة البحرية ومواردها الحية".
وقدم الخبير شرحا للأضرار "التي قد تحدثها الترسبات النفطية بالنسبة للموائل الحية مثل الكائنات المغذية في بداية السلسلة الغذائية مثل الهوائم الحيوانية والنباتية التي قد تنتهي وتموت وهي الأساس في مراحل السلسلة الغذائية".
"أما بالنسبة للكائنات البحرية الأخرى مثل الأسماك وغيرها من الأحياء، فقد يحدث أن تهاجر من تلك المناطق الملوثة بالزيت أو بغيره إلى مناطق خالية من التلوث، أردف الخبير.
من جهته قال مدير إدارة الرصد والتقييم البيئي في هيئة حماية البيئة، وليد الشعيبي، لـ "سوث24": "المواد السامة التي تخلفها هذه التسربات مُضرة جدا على هذه الكائنات وبالتالي فإنَّها تشكل تهديد كبير للحياة البحرية والساحلية لأنَّها عبارة عن مواد حلقية كيميائية يصعب تفكيكها".
إحدى البواخر المتهالكة في سواحل عدن (A24)
وأضاف: "هي تحتاج إلى وقت كبير لعملية مكافحتها خصوصا وأنَّ الهيئة العامة لحماية البيئة والهيئة العامة للشؤون البحرية لا تملكان أي إمكانيات ولو حتى قارب لإتمام عملية المكافحة."
مخاوف
في 17 يوليو، تركت ناقلة "ديا بوم" التي غرقت في سواحل عدن بقعة نفطية امتدت نحو 20 كيلو متر. آنذاك، أكَّد المرصد البريطاني للبيئة والصراع CEOBS [3]، وصول التسرب النفطي إلى الشواطئ المجاورة لمحمية الحسوة، المساحة الخضراء الوحيدة في عدن، بالإضافة إلى مناطق المسطحات الملحية ذات الأهمية الإقليمية للطيور المهاجرة.
الناقلة التي رست في العام 2014 في موقعها مع العديد من السفن المتهالكة [4] كانت بحاجة إلى أعمال الصيانة الطارئة. لقد فشلت السلطات المعنية في منع حدوث كارثة بيئية كان من الممكن تلافيها وتجنّب آثارها على النظام البيئي.
ولا تُعد هذه الحادثة الأولى التي تتعرض لها السفن التابعة لشركة "عبر البحار" المملوكة لأحمد العيسي، فقد جنحت في يوليو 2013، في ذات المنطقة، سفينة "شامبيون1" [5] وهي مُحملَّة بأكثر من 4000 طن من مادة المازوت، مما تسبَّب في تلوث بيئي واسع بفعل تسرب الزيوت من السفينة.
وحول هذا، قال الشعيبي "هذه السفن قد مر عليها ما يقارب 10 سنوات وكلها متهالكة وغير صالحة للاستخدام وتحتوي على كميات متفاوتة من الزيوت والمازوت. إنَّ هذه الشركة تعتبر هي المتسبب الرئيس لهذه الانتهاكات."
وتابع، "التسرب الأخير وتسرب السفينة ديا الذي وقع قبل عام من الآن، ليسا الوحيدين، حيث يحصل تسرب شبه يومي من تلك السفن وخلال الشهر الواحد يتم رصد عدد من هذه التسربات التي يصل مداها إلى سواحل البريقة وسواحل الحسوة."
قنابل بيئية موقوتة
كشفت مصادر في الهيئة العامة لحماية البيئة لـ "سوث24" أنَّ هناك "ما يقارب 25 مركباً وسفينة متوقفة وغير صالحة للاستخدام في ميناء الاصطياد في حجيف بعدن، ما يقرب من 10 منها قد جنحت وغرقت منذ العام 2011".
وأكَّدت الوثائق التي تحصل عليها "سوث24"، واشترطت المصادر عدم نشرها، أنَّ كل هذه السفن تحتوي على بقايا زيوت المحركات وكلها مواد سامة وخطيرة بشكل كبير، إلى جانب السفن الموجودة في المجرى الملاحي التي تعاني من تصدعات في جدرانها المطلية بمواد كيماوية ملوثة وسامة.
إحدى البواخر المتهالكة الغارقة في سواحل عدن (A24)
واعتبر المسؤول في هيئة حماية البيئية الشعيبي أنَّ "هناك جهات مستفيدة من كل هذه الانتهاكات التي تحصل بحق ميناء عدن ومياه بحرها". ويعتقد المسؤول أنَّ تهديد تلك السفن على البحار "أشد خطرا من ناقلة النفط صافر التي يتم المبالغة بمخاطرها واستخدامها كورقة ضغط سياسية".
مسؤولية من؟
وفقاً لقرار إنشاء الهيئة العامة للشؤون البحرية، فإنَّ أي تلوث يحدث في البيئة البحرية يقع على عاتقها. حاول "سوث24" التواصل مع الهيئة لمعرفة الإجراءات المتبعة من قبلها إزاء ما يحصل، لكنَّنا لم نتلق منهم الرد حتَّى لحظة نشر التقرير.
وأمَّا عن دور الهيئة العامة لحماية البيئة، فقد أوضح المسؤول فيها وليد الشعيبي أنَّ هذا الدور يتمثَّل في "رصد أي تلوث أو أضرار أو انتهاك يحصل في البحار والمياه الإقليمية للبلاد." وأضاف: "باشرنا منذ لحظة سماعنا بالتسرب ورؤيتنا لصور الأقمار الصناعية بمتابعة الواقعة وكان وزير المياه والبيئة المهندس توفيق الشرجبي على تواصل معنا أولاً بأول".
وتابع، "تمَّ تشكيل فريق حينها ونزلنا يوم الجمعة إلى السواحل الممتدة من الحسوة إلى البريقة. استمرت عملية الرصد ما يقارب 3 أيام متتابعة وبعدها تم صياغة تقرير فني بحجم الأضرار وإرسالها إلى الوزارة التي بدورها رفعته إلى رئاسة الوزراء والسلطة المحلية، حدَّ ما قيل لنا."
(شاطئ الحسوة بعدن: سوث24)
ووجه الشعيبي رسالة عاجلة: "نتمنى من الجهات الرسمية العليا أن تأخذ بعين الاعتبار كل التقارير التي تم رفعها بخصوص حادثة السفينة ديا والحادثة الأخيرة وكل الانتهاكات البيئة والقانونية الحاصلة في ميناء الاصطياد."
ولم يستبعد الشعيبي أن يكون لهذا الإهمال الحكومي لقضايا التلوث في سواحل عدن وميناء الاصطياد أبعاد سياسية. وأضاف: "الصمت الحاصل من قبل الحكومة ووزاراتها لا يوجد له تفسير على الإطلاق غير أنَّهم يتجاهلون إنقاذ الميناء من هذا التدهور الذي يُهدَّده لحساب نهضة ميناء الحديدة وموانئ أخرى."
وأضاف: "أقل ما يمكنهم فعله هو إخراج هذه السفن من أماكنها، ثم محاسبة المالكين ورفع قضايا وإحالتهم للنيابة وتشكيل لجنة فنية وقانونية ومحاسبتهم بموجب القانون. بعدها يجب العمل على معالجة هذه الأضرار وتحميل المتسببين كل التكاليف التي تحتاجها العملية."
وطالب الشعيبي بإعطاء أمر قضائي "يتيح للجهات المعنية الصلاحية لسحب وقطر السفن المتهالكة وعرضها في مزاد للبيع وتقطيعها خردة تحت إشراف الهيئة العامة للشؤون البحرية، والاستفادة من قيمتها في دفع الديون المتراكمة على مالكيها نتيجة وقوفها في المجرى الملاحي وكذلك كتعويض لقيمة الأضرار التي خلَّفتها".
وأمَّا عن دور مركز التلوث البحري في الهيئة العامة لعلوم البحار والأحياء المائية، فقال رئيس المركز عبد الحكيم سعيد: "ليست من مهام المركز توثيق التجاوزات أو حتى محاسبة مرتكبيها. بحسب اعتقادي فإنَّ الهيئة العامة لحماية البيئة هي الجهة المعنية بالتجاوزات إذا استطاعت أن ترصد الحوادث وكان لديها تقارير إثبات وإدانة بأي واقعة تحدث".
وأضاف: "تعدد الجهات أدَّى إلى تشتيت المهام، نحن في المركز يفترض أن تكون لنا صلاحيات صفة الضبط القضائي باعتبارنا جهة معنية بدراسة الملوثات والحفاظ على البيئة البحرية وحمايتها من التلوث".
تلوث يعزَّزه الصمت
وقال مدير مركز تلوث البحار، عبد الحكيم سعيد: "البيئة البحرية في منطقة ميناء عدن عادة ما تكون مناطقها أقل نظافة من المناطق البحرية الأخرى والسبب في ذلك يعود إلى حركة السفن ورمي مخلفاتها أحيانا أو ما يحدث من تفريغ مياه التوازن داخل حرم الميناء دون مراعاة الضوابط".
آثار مياه الصرف صحي على ساحل البريقة (سوث24)
وأضاف: "يحدث أيضاً غسل للسفن داخل حرم الميناء وهذا بحد ذاته يعتبر من المخالفات لأنَّه يؤثر على نظافة مياه البحر ومع المدى البعيد يمكن أن تصبح منطقة الميناء منطقة ملوثة إذا استمرت تلك المخالفات".
وتواصل "سوث24" مع نائب المدير التنفيذي لمؤسسة موانئ خليج عدن اليمنية، المهندس عبد الرب الخلاقي، للاطلاع على سياسة الميناء المٌتبعة لمراقبة السفن، لكنه تحفَّظ عن الرد.
مسببات أخرى للتلوث
على مقربة من جسر البريقة، حيث يمكن رؤية الميناء والسفن المتهالكة ترسو بجانبه، تفوح من مياه البحر رائحة مياه الصرف الصحي، وتبرز على رمال الشاطئ، مخلفات الصرف الصحي المختلطة بالأكياس المتكدسة، والمخلفات الآدمية التي تجرفها مياه البحر نحو الشاطئ.
المكان الذي يرتاده المئات من أبناء عدن وسكانها، بات منظره الجمالي اليوم مُشوهاً ومُهدَّداً بالتلوث، كل ذلك أمام أنظار وصمت وتجاهل الجهات المعنية.
وحول ذلك، قال عبد الحكيم سعيد: "ما يحدث يعد مشكلة بيئية تعاني منها محافظة عدن لأنَّ تصريف المجاري إلى البحر دون أي معالجة مسبقة يشكل خطر على البيئة البحرية وخاصة الشاطئية منها، مما يُسبب مع مرور الزمن حدوث تلوث بكتيري خطير لهذه السواحل".
ووجه الخبير رسالة عاجلة للجهات الحكومية والمعنية بوجوب حماية البيئة البحرية من مخاطر التلوث سواء كان داخل حرم الميناء أو على الشواطئ أو في أي مكان.
قبل 3 أشهر