تاريخ وثقافة

أسرار قصيدة فيليب لاركن بشأن عدن

فيليب لاركن (صورة أرشيفية)

25-06-2022 الساعة 12 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol language-symbol

سوث24 | فاطمة غونسون


لقد كتب الشاعر الغامض فيليب لاركن (١٩٢٢-١٩٨٥) والمولود في كوفنتري قصيدة قصيرة لكنها أنيقة عن عدن. ومن وجهة نظر الشعب البريطاني وغيرهم، فإنّ لاركن هو واحد من أعظم شعراء بني جلدته. صحيفة التايمز البريطانية البارزة  التي تأسست عام ١٧٨٥ ، صوتت له كأفضل شاعر بعد الحرب العالمية الثانية.[١] إن نصبه التذكاري القابع في كنيسة وستمنستر التي شيدت  في العصور الوسطى(تم بناؤها  خصيصا باستخدام  حجر  بوربيك المشتق من الساحل الجوراسي، على امتداد ٩٥ ميلا من المناظر الطبيعية من ديفون حتى دورست وأحد مواقع التراث العالمي لليونسكو) [٢] يجاور نجوما آخرين في عالم الأدب أمثال لويس كارول و دي إتش لورانس. وتحمل  القصيدة عنوان "تحية  إلى حكومة" Homage to a Government. وظهرت القصيدة للمرة الأولى في صحيفة ذا صندي تايمز، شقيقة التايمز في ١٩ يناير ١٩٦٩ [٣] ثم في ديوان يحمل اسم "نوافذ شاهقة" High Windows عام ١٩٧٤.


صياغة القصيدة تعتمد على تكرار الكلمات تحت قالب نصف القافية مما يخلق تأثيرا عميقا للتحرر من الوهم حيث تتسلل كل كلمة كالدودة داخل عقلك: العام القادم سوف نتقبل الأمر بشكل أسهل داخل أذهاننا[٤]. النمط المخدر للقافية ABCCAB يجعل كل مقطع شعري بالقصيدة أشبه بكسور زائدة  . ومن هذا المفهوم، فإنها تشبه قصيدة Poem in Four Cantos (قصيدة الكانتوهات الأربعة) في ديوان "نار شاحبة"Pale Fire للشاعر فلاديمير نابوكوف، والتي ظهرت أيضا  في فيلم "بليد رانر 2049" حيث تسبب استخدام الكلمات داخل خلايا مترابطة في إحداث تأثير مثبط للقارئ/المستمع. الغضب هو الشيء الأول الذي تحس به عندما تقرأ قصيدة "تحية  إلى حكومة". وتبدأ القصيدة بسنة مجهولة(العام القادم) ولم يتم ذكر اسم عدن في القصيدة نفسها ولكن لا أحد في وقت النشر كان يمكن أن يتشكك في أن موضوعها كان يتعلق بعدن. لقد كانت نهاية الحكم البريطاني في جنوب اليمن بعد نحو ١٣٠ عاما بمثابة مصدر صدمة كبيرة لبريطانيا. لقد وصفت عدن في يونيو ١٩٦٧ في البرلمان البريطاني باعتبارها " واحدة من آخر التزامين ملكيين عظيمين" [٥] لبريطانيا (الالتزام الآخر كان هونج كونج). وفي ذات الجلسة التي عقدها البرلمان البريطاني، قام عضو عمالي بالإدلاء باعتراف استثنائي بشأن بريطانيا حيث وصف كريستوفر مايهيو بريطانيا بأنها لا تملك قوة حقيقية، وأنها قادرة فقط على حفظ السلام بشكل نظري، وأنها تتبع سياسة طنانة ومتناقضة تجاه الشرق الأوسط. 


ولم يتبنى لاركن  وجهة نظر مايهيو  الصريحة والبرجماتية بشأن عدن والشرق الأوسط بشكل عام. إن افتتاحية قصيدة "تحية  إلى حكومة" تبدو تهكمية وغاضبة وناقدة حيث قال: العام القادم سوف نعيد الجنود إلى الوطن/ بسبب نقص المال، وكل شيء على ما يرام. ونقل عن لاركن قوله: "إعادة الجنود إلى الوطن ببساطة لأننا لا نستطيع تحمل بقائهم هناك أمر بدا مهانة مروعة"[٦]. ضع هذا  في سياق أن بريطانيا انتقلت من كونها واحدة من القوى العالمية العظمى منذ منتصف الخمسينيات من القرن التاسع عشر إلى دولة تعاني من الفقر المخزي، حيث باتت فقيرة جدا لدرجة عرقلت الوفاء بمسؤولياتها في العالم. وفي مقابلة عام ١٩٥٢، قال الفيلسوف البريطاني الحائز على جائزة نوبل برتراند راسل (المولود عام ١٨٧٢): إن الشعب البريطاني كان يعتبر التفوق البحري الإنجليزي وكأنه أحد نواميس الطبيعة، لا سيما وأن بريطانيا حرفيا دانت لها السيطرة على أمواج كافة البحار، ولم يكن الشعب يعتقد أن ذلك سوف ينتهي.


واحتوت القصيدة على إشارة للهجوم على عدن في ٣ يوليو ١٩٦٧ بقيادة الكولونيل كولن ميتشل (ميتش المجنون) لقمع القومية المتصاعدة في جنوب اليمن، لكنها جاءت على الطريقة الدلفية اليونانية القديمة، حيث رفض لاركن إبداء إدانة أو تسامح تجاه ممارسات ميتشل في عدن واكتفى بقوله: ووفقا لما نسمعهفقد تسبب الجنود هناك فقط في حدوث مشكلة. 


إن تناول لاركن للقومية الجنوب يمنية في القصيدة اتسم بالفقر المعلوماتي إلى حد ما. وتكشف القصيدة أنّ الشاعر بدرجة ما لا يدرك القيمة الاقتصادية والسياسية المرتفعة لعدن والتهديد الذي يجابهها من دول مجاورة انتهازية وعدوانية في الحاضر وكذلك من قوى إمبريالية سابقة خارج بريطانيا (العثمانيون والبرتغاليون). لقد تم التطرق إلى قيمة جنوب اليمن بشكل أكثر ملاءمة عام ١٩٦٧ بواسطة فرانك هولي، السياسي البريطاني المنتمي لحزب العمال حيث قال: 


إن هذا الركن من العالم (جنوب الجزيرة العربية) الذي نناقشه الآن يحمل أهمية هائلة لكل دولة. مجرد حقيقة أنه تم الإبقاء عليه لفترة طويلة جدا كقاعدة عسكرية مهمة يوضح أهميته الإستراتيجية ويشير إلى مدى حيويته من مفهوم علاقات القوة بين دول المنطقة وفي أرجاء العالم. لقد أظهر المجتمع العالمي اهتماما بمستقبله على مدار الأعوام الثلاثة أو الأربعة الماضية[٧].


وفي قصيدته، لم يعترف لاركن بالحقيقة القوية للقومية العربية في شكلها جنوب اليمني. وبدلا من ذلك، اختزل الشاعر عدن إلى مجرد "أماكن قاموا بحراستها أو حفظوا  فيها النظام / يجب أن يحرسوها  بأنفسهم  ويحفظوا  نظامها بأنفسهم ". إن هذا المقطع من القصيدة ينكر الجانب الأكثر إظلاما من العهد الاستعماري- أسباب بريطانيا القائمة على خدمة الذات لتبرير وجودها في عدن بشكل مطلق، الأساليب الوحشية التي استخدمتها الكتائب البريطانية لا سيما عام ١٩٦٧والتكتيك البريطاني للإبقاء على المناطق خارج عدن في جنوب اليمن في حالة من نقص التطوير. وعلى غرار ما كتبه روديارد كيبلينج بعنوان "أعباء  الرجل الأبيض الولايات المتحدة وجزر الفلبين"عام ١٨٩٩، يفترض لاركن صحة وجهة النظر البغيضة  حاليا والتي تزعم أنّ المشاريع الاستعمارية متحضرة وضرورية وحميدة. ما تنكره القصيدة أيضا هو الدور الذي لعبه الجنوبيون حقا في حدوث هذا التغيير الهائل- مثل إطلاق حركة مستقلة، واتخاذ قرار حول اللحظة التي  تنسحب فيها بريطانيا، واستخدامهم الناجح للأسلحة، وقدرتهم على إدارة دولة جديدة تحت مسمى جمهورية جنوب اليمن الشعبية[٨]. مجددا، ننوه أن لاركن كان مختلفا مع القادة السياسيين في ذلك الوقت. وفي يونيو ١٩٦٧، قال وزير الخارجية البريطاني آنذاك جورج براون:


لذلك أتمسك بما سبق لي التفوه به، إذا كان ممثلو جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل أو الجبهة الوطنية للتحرير على استعداد  للحديث، فإن الحكومة الفيدرالية جاهزة للحديث معهم. نحن جاهزون بالتأكيد[٩].


وتمثل القصيدة تحولا كبيرا في أسلوب لاركن كشاعر. وقبل أواخر الستينيات من القرن المنصرم، كان لاركن يدعي أنه "لم يكن أبدا واعظا، ولم يحاول أن يجعل الشعر يفعل الأشياء"[١٠]. ومع ذلك، في قصيدة "تحية  إلى حكومة"، قام لاركن مباشرة بمهاجمة هارولد ويلسون الذي كان رئيسا للحكومة البريطانية في ذلك الوقت  بشأن قضية الوجود البريطاني في عدن التي كانت حديث الساعة بشكل كبير آنذاك، وانحاز الشاعر إلى موقف الجناح اليميني. لقد كانت هي المرة الأولى التي وضع لاركن شعره في بوتقة الساحة السياسية وأوضح انحيازه السياسي . لقد عرضت القصيدة قرار مغادرة عدن كنوع من الغدر [١١] وجاء صوت القصيدة بلسان حال مواطن بريطاني عادي يحاول تفسير ما فعلته حكومته المنتخبة الفاسدة وسط  تدخلات اعتراضية من صوت يمثل صوت لاركن حيث قال: نحن نريد الأموال من أجل أنفسنا في الوطن/ بدلا من العمل، لا بأس في ذلك. 


وبالرغم من أنّ القصيدة ذات الجرعة السياسية العالية أضيفت إلى مجمل أعماله، لم يمتلك لاركن نظرة سياسية متطورة ومحددة بشكل واضح[١٢]. وفي حقيقة الأمر، حاول الشاعر لاحقا إنكار أنّ قصيدته كانت تتعلق بالسياسة، وزعم أنها كانت  "تاريخ حقا" [١٣]، من مفهوم أنها كانت تتعلق بأمر ثابت في الماضي. ورغم ذلك، أوضحت القصيدة  تعصبه للجناح اليميني دون كشف  أسباب واضحة بشأن ذلك.


وقال لاركن: "أنتمي دائما للجناح اليميني، من الصعب تفسير ذلك لكني لست مفكرا سياسيا. أفترض أنني  أربط اليمين بفضائل معينة، واليسار برذائل معينة. كل هذا  ليس عادلا جدا بلا شك[١٤].


ربما هذا المزيج من توجهاته اليمينية والتزامه بالشعر العام[١٥] (والذي انعكس على قضايا معاصرة أثرت على الشعب البريطاني) حفز لاركن ليكتب قصيدة "تحية  إلى حكومة" حتى بالرغم من كونه يتسم بالسطحية السياسية. وفي عام ١٩٥٣، أخبر لاركن شريكته مونيكا جونز (قبل فترة طويلة من خطاب رياح التغيير الذي ألقاه هارولد ماكميلان [١٦] عام ١٩٦٠ في جنوب أفريقيا والذي بث فيه مخاوفه من أنّ "الشعوب الآسيوية بما في ذلك جنوب اليمن سوف يقعون في نهاية المطاف في المعسكر الشيوعي") قائلا لها:


"هل تعلمين أنني بشكل ذكي لا أكترث مطلقا بالسياسة. لقد اكتشفت  ذلك في المدرسة حينما كنا نتجادل  بأن كل ما فعلناه هو تكرار الأشياء التي تعلمناها بالترتيب من كتاب The Worker (العامل)، و The Herald( الهيرالد)، وPeace News (أخبار السلام)، وthe Right Book Club(نادي الكتاب اليميني). (لقد عرفت بالصدفة هؤلاء الطغاة. أستطيع أن أتذكر الآن  كتاب  Marching Spain) ورغم التناقض  بين بعضهم البعض كان كل ما نفعله هو الشعور بالضيق. ولذلك وصلت إلى استنتاج مفاده أنّ هناك حاجة إلى إجراء  قدر هائل من البحث لتشكيل وجهة نظر تجاه أي شيء. ولذلك، هجرت السياسة كليا كموضوع للمحادثة[١٧]."


القصيدة المذكورة  تتكون من  مقاطع شعرية كل مقطع أنيق منها  يتألف من ٦ سطور. وفي هذه المقاطع السداسية، قام لاركن بدقة بوضع انتقادات لاذعة ضد الحكومة البريطانية عام ١٩٦٧ وأعضائها بسبب تفكيكهم المؤثر للدول التي كانت لا تزال في حوزة الإمبراطورية البريطانية كممتلكات إمبريالية من أجل ما اعتبره أسبابا غير شريفة تماما قائلا: العام القادم سوف نعيش في دولة/ أعادت جنودها إلى الوطن بسبب نقص الأموال.


لقد استخدم الشاعر كلمة "أموال" أربع مرات على نحو يفيد بعدم الموافقة. لاركن كان غير مدرك للمشكلات الاقتصادية التي كانت تعاني منها بريطانيا (محاولة الحفاظ على الجنيه الاسترليني عند قيمة تم تثبيتها عام ١٩٤٩[١٨]. منذ منتصف الستينيات فصاعدا تسبب بشكل جزئي في إجبار بريطانيا على نقل السلطة إلى قوميين جنوبيين يمنيين. إنّ مقت لاركن لسياسات حزب العمال البريطاني واضح خلال القصيدة: سياسات توفير الأموال التي سوف تسمح بقدر أكبر من الإنفاق العام داخل بريطانيا نفسها، واسترضاء النقابات التجارية التي كانت تسعى لأجور أكبر للأعضاء النقابيين، والإبقاء على المنح المالية للبريطانيين العاجزين عن العثور على وظيفة. إنّ الأوضاع الأيديولوجية في بريطانيا وجنوب اليمن في ذلك الوقت استفزت حساسياته اليمينية، وكان ذلك كافيا بالنسبة له ليقول في القصيدة إنّ مغادرة عدن من شأنها أن تحوّل بريطانيا إلى الأسوأ، إلى دولة مختلفة، إلى بلد غير عفيف يقوم هويته فقط على  المال. 


إنّ قصيدة "تحية إلى حكومة" تمثل إنجازا ملحوظا. إنها قصيدة تمثل عملا تاريخيا بارعا. إنها تخلّد عدن على المستوى الحضاري. حيث قال لاركن خلال مقابلة: "عندما تقرأ قصيدة، فقد حققت الهدف. من الواضح تماما أنّ هذا كل  ما تعنيه"[١٩].


فاطمة غونسون

صحافية بريطانية. درست التاريخ في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية، زميلة غير مقيمة في مركز سوث24.

المراجع: 


[1] thetimes.co.uk

[2] jurassiccoast.org

[3] Philip Larkin – Life, Art and Love, James Booth, Bloomsbury, New York, 2014, p288

[4] Philip Larkin – Life, Art and Love, James Booth, Bloomsbury, New York, 2014, p288

[5] api.parliament.uk

[6] The Poet’s Plight, James Booth, Palgrave Macmillan UK, Hampshire, 2005, p136

[8] Lloyd, 2001, as cited in Belonging and Estrangement, 2016, p130
[10] Philip Larkin: A Writer’s Life, Andrew Motion, Faber and Faber, London, 2019, p559
[11] Philip Larkin, Stephen Regan, Macmillan Education Ltd, Hampshire, 1992, p124
[12] The Poet’s Plight, James Booth, Palgrave Macmillan UK, Hampshire, 2005, p136
[13] The Poet’s Plight, James Booth, Palgrave Macmillan UK, Hampshire, 2005, p136
[14] Philip Larkin: A Writer’s Life, Andrew Motion, Faber and Faber, London, 2019, p560
[15] Philip Larkin, Sisir Kumar Chatterjee, Atlantic Publishers and Distributors, India, 2014, p250
[17] Philip Larkin – Life, Art and Love, James Booth, Bloomsbury, New York, 2014, p151
[18] Philip Larkin, Stephen Regan, Macmillan Education Ltd, Hampshire, 1992, p124
[19] Philip Larkin – Life, Art and Love, James Booth, Bloomsbury, New York, 2014, p177
شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا