التقارير الخاصة

ندوب السرطان على خارطة الامتيازات: إرث شركات النفط في حضرموت

تصميم: مركز سوث24 (طفل حضرمي من منطقة غيل بن يمين مصاب بسرطان البلعوم + سكان محليون يعاينون المياه التي ظهرت ممزوجة بملوثات نفطية بمديرية ساه بمحافظة حضرموت)

Last updated on: 14-05-2025 at 8 PM Aden Time

تحقيق استقصائي (عبد الله الشادلي - مركز سوث24)


في إحدى القرى الواقعة ضمن مديرية ساه بمحافظة حضرموت، كانت الطفلة ليلى تمضي أيامها في اللعب حول المزارع القريبة، حيث كانت العائلة تعتمد في ريّ أرضها وشربها على بئر ماء لا تبعد كثيرًا عن مواقع الشركات النفطية العاملة في المنطقة. لم تكن العائلة، مثل غيرها من العائلات القروية، تملك وعيًا بيئيًا يسمح لها بطرح تساؤلات حول ما قد تحمله تلك المياه من مخاطر. كل ما كان يعنيهم هو أنها وفيرة، متاحة، وطعمها لا يوحي بأي خطر.


لكن ذات صباح من أواخر سبتمبر 2024، سقطت ليلى مغشيًا عليها. دخلت في غيبوبة لم يعرف أحد تفسيرًا لها. وبعد سلسلة من الفحوصات، جاء التشخيص الطبي الصادم: سرطان حاد في الدم. الحاجة إلى علاج عاجل خارج البلاد كانت واضحة، لكن الأسرة لم تكن تملك لا الوسائل ولا الوقت. لم يكن ذلك سوى بداية مأساة ما تزال فصولها تتكرر في مناطق الامتياز النفطي بمحافظة حضرموت، حيث تتقاطع مأساة السكان مع نتائج غير منظورة لأنشطة استخراج النفط.



تقرير طبي للطفلة ليلى – 30 سبتمبر 2024، (لمركز سوث24 بواسطة ذوي الطفلة)


في حديثه لمركز سوث24، قال سالم، شقيق ليلى: "كنا نشرب من البئر نفسها التي نشرب منها منذ سنين. لم يكن أحد من الجهات المعنية، لا الدولة ولا الشركات، قد أخبرنا بأن تلك المياه قد تكون ملوثة أو أن القرب من المنشآت النفطية قد يعني التعرض لخطر الموت البطيء." 


المسألة لم تعد مقتصرة على حالة فردية، بل باتت تأخذ شكلًا ممنهجًا. حالات مشابهة لليلى تظهر في مديريات أخرى كغيل بن يمين والضليعة، حيث تُسجل إصابات بأنواع مختلفة من السرطان لدى أطفال ونساء ورجال من مختلف الأعمار. في الوقت ذاته، لا توجد بنية صحية قادرة على الاستيعاب، ولا تدخلات طبية وقائية، ولا رقابة بيئية تواكب حجم النشاط النفطي. كل ذلك يعزز سؤالًا مركزيًا بات مطروحًا بإلحاح: هل تسببت عمليات استخراج النفط في حضرموت، عبر ما تنتجه من تلوث مائي وهوائي وتربة ملوثة، في تحويل هذه المناطق إلى بؤر صحية مهددة؟


على مدى 6 أشهر بين نوفمبر 2024 – أبريل 2025، عمل الصحفي عبد الله الشادلي على هذا التحقيق لمركز سوث24. 


خلفية عامة


تحتل محافظة حضرموت موقعًا محوريًا في خريطة إنتاج النفط في جنوب اليمن، إذ تحتضن أكبر الحقول النفطية في البلاد ضمن ما يُعرف بـ حوض المسيلة الرسوبي، الذي يمتد في الجزء الشرقي من حضرموت. هذا الحوض يُعد من أغنى الأحواض الجيولوجية بالهيدروكربونات في البلاد، ويغطي جغرافيًا نطاقًا واسعًا يشمل عدة مديريات، أبرزها: غيل بن يمين، رُخية، الديس الشرقية، الشحر، ووادي العين، ويتداخل جزئيًا مع مديريات مثل تريم وساه. وتضم هذه المناطق الامتيازات التشغيلية المعروفة باسم الكتل الإنتاجية، مثل بلوك 14 (المسيلة)، بلوك 32 (هواريم)، بلوك 51 (شرق الحجر)، وبلوك 53 (شريوف).




بدأ الاكتشاف النفطي الحقيقي في المسيلة عام 1991 على يد شركة Nexen الكندية، وشهد الحقل إنتاجه الأول عام 1993 عبر خط أنابيب يمتد نحو 138 كم إلى محطة الشحر (الضبة)، وهو المنفذ الرئيسي لتصدير النفط الخام من حضرموت إلى الأسواق العالمية. خلال ذروة نشاطه في أوائل العقد الأول من القرن 21، وصل إنتاج بلوك 14 وحده إلى نحو 225,000 برميل يوميًا، ما جعله أكبر كتلة إنتاجية في البلاد. وتضم الكتلة حقولًا متعددة أبرزها: السنة، الحجة، والكمال، وهي تتميز بخام متوسط إلى خفيف يعرف باسم "مزيج المسيلة".


نطاق حوض المسيلة ليس جغرافيًا فقط، بل يمتد فنيًا ليشمل شبكة من البنى التحتية المتقدمة، منها محطات فصل ومعالجة، ومرافق تخزين، وخطوط أنابيب تربط بين الكتل المختلفة (14، 10، 32، 53، وغيرها) باتجاه الشحر. كما يُعد الحوض محركًا اقتصاديًا حيويًا للبلاد، إذ كانت صادراته تمثل قبل الحرب نحو 80% من إجمالي صادرات النفط الوطنية، ولا يزال يشكل الشريان الوحيد المتبقي لتصدير النفط الخاضع للحكومة اليمنية.


السياق الديمغرافي


تُعد محافظة حضرموت أكبر محافظات اليمن من حيث المساحة، حيث تمتد على أكثر من 187 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل ثلث مساحة البلاد، وتضم 28 مديرية إدارية. وتتميز بتنوعها الجغرافي بين الساحل، والوادي، والصحراء، ما يمنحها أهمية استراتيجية واقتصادية بالغة. يبلغ عدد سكان المحافظة، في إحصاء لعام 2022، أكثر من 1.55 مليون نسمة، يتوزعون بين 725,885 إناثًا و825,461 ذكورًا، مع تركز ملحوظ في المديريات الحضرية ومناطق الوادي، مقابل كثافة منخفضة في المديريات الصحراوية الشاسعة.




تتصدر مدينة المكلا قائمة المديريات من حيث عدد السكان، إذ تضم 289,334 نسمة، وتُعد المركز الإداري والاقتصادي الأبرز في حضرموت. تليها مديريتا سيئون وتريم في وادي حضرموت بعدد سكان يناهز 160 ألف نسمة لكل منهما، حيث تلعبان دورًا دينيًا وتجاريًا محوريًا في المنطقة. أما مديرية القطن فتتميّز بمساحة واسعة تبلغ 3,135 كيلومترًا مربعًا وسكان يزيدون على 100 ألف نسمة، بينما تُعرف شبام بكثافتها العالية ضمن مساحة لا تتعدى 118 كيلومترًا مربعًا. وفي الساحل، تبرز الشحر وغيل باوزير بأهميتهما التاريخية والزراعية، مع عدد سكان يفوق 75 ألف نسمة لكلٍ منهما.


في المقابل، تمتد مديريات مثل رماه، ثمود، وزمخ ومنوخ على مساحات ضخمة تتجاوز في بعضها 20 ألف كيلومتر مربع، لكنها لا تضم سوى بضعة آلاف من السكان، ما يعكس التحديات التنموية التي تواجه هذه المناطق النائية. هذا التفاوت في الكثافة السكانية والتوزيع الجغرافي يُبرز الحاجة إلى سياسات تنموية متوازنة، تعزز استثمار الموارد وتُعيد توزيع الخدمات العامة بما يواكب الأهمية الاستراتيجية لحضرموت كعمق اقتصادي، ومركز سكاني متنوع، ونقطة توازن حاسمة في خارطة البلاد.


الشركات والإنتاج 


شهدت محافظة حضرموت تحولات كبيرة في خارطة الشركات النفطية العاملة فيها منذ بدء الإنتاج النفطي مطلع التسعينيات وحتى اليوم. بدأت القصة عام 1987 حين حصلت شركة Canadian Occidental Petroleum، التي تحولت لاحقًا إلى Nexen الكندية، على امتياز بلوك 14 (المسيلة). وفي عام 1991، أعلنت عن أول اكتشاف تجاري ضخم في حقل "سونا"، مما شكل انطلاقة حقيقية لقطاع النفط في حضرموت.


وفي التسعينيات، توسعت خارطة الشركات العاملة في حضرموت. برزت شركة Total الفرنسية عبر امتياز بلوك 10 في شرق شبوة، والذي يُدار فنيًا كبنية مرتبطة بحقول المسيلة. اكتشفت الشركة عدة حقول منها خرير وعتوف ووادي طريبة، وتم ربط إنتاجها بالبنية التحتية للبلوك 14. وفي عام 1999، انضمت شركة DNO النرويجية إلى المشهد النفطي بعد اكتشافها في بلوك 32 (هواريم)، وبدأت الإنتاج في عام 2001. كما شاركت DNO في تطوير بلوك 43 وبلوك 53 (شريوف)، بالتعاون مع شركة Dove Energy البريطانية التي أدارت حقل الشريوف بدءًا من 2002.




في المقابل، دخلت شركة Calvalley Petroleum الكندية إلى بلوك 9 (مالك) في المنطقة الغربية من حضرموت، وتمكنت من بدء الإنتاج في أواخر عام 2005. وقد أدارت هذه الشركات عملياتها وفق نظام اتفاقيات المشاركة في الإنتاج (PSA) مع الحكومة اليمنية.


مع حلول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بدأت الحكومة اليمنية تتجه نحو استعادة السيطرة على أهم الأصول النفطية. ففي نوفمبر 2011، رفضت تجديد عقد شركة Nexen بعد 20 عامًا من تشغيل البلوك 14، وأسندت تشغيله إلى شركة وطنية جديدة هي "بترو مسيلة"، التي باتت منذ ذلك الحين المشغل الرئيسي لأكبر حقول اليمن النفطية.


جاء عام 2015 والأعوام التالية بموجة اضطرابات غير مسبوقة بعد اندلاع الحرب ، مما دفع معظم الشركات الأجنبية إلى إعلان "القوة القاهرة" ومغادرة البلاد. وشملت هذه الشركات: Total، Calvalley، DNO، وOMV. توقفت أغلب عمليات الإنتاج والتصدير، وتم إخلاء الطواقم الأجنبية، بينما تراجعت معدلات الصيانة والإشراف الفني.


وفي مايو 2017، وبعد استعادة ميناء الشحر من تنظيم القاعدة بدعم من قوات النخبة الحضرمية والتحالف، استأنفت شركة PetroMasila إنتاج النفط تدريجيًا. وبحلول عام 2017، كانت الشركة قد سيطرت فعليًا على تشغيل بلوكات 14، 10، 51، و53، بينما ظلت DNO وCalvalley تمتلكان حقوق امتياز اسمية فقط دون تشغيل فعلي. وكانت بترومسيلة تتعاون أحيانًا مع الشركاء السابقين كشركاء تقنيين. 


مخالفات جسيمة


منذ بدء الإنتاج في بلوك 14 (المسيلة) عام 1993، اعتمدت الشركات المشغلة على تقنيات حفر تقليدية باستخدام آبار رأسية ومنحرفة بعمق يتراوح بين 1500 إلى 2500 متر، تستهدف خزانات رملية من العصر الطباشيري (تكوين "كيشن") فوق صخور المصدر الجوراسية. خلال السنوات الأولى، كانت الآبار تتدفق ذاتيًا، لكن بحلول منتصف العقد الأول من القرن 21، بدأت علامات النضوب بالظهور.


بحلول 2008، سجلت شركة Nexen الكندية نسبة مياه مصاحبة تتجاوز 95% من إجمالي الإنتاج في بعض آبار المسيلة، وهو ما يعني أن من بين كل 100 برميل يتم ضخه، لا يزيد النفط الصافي عن 5 براميل فقط. وقد وصلت كمية المياه المعالجة يوميًا في بعض منشآت المسيلة إلى أكثر من 2 مليون برميل، ما فرض ضغطًا هائلًا على مرافق الفصل والمعالجة.



ملوثات نفطية يتم تصريفها بشكل مخالف، منطقة الغبيرة، أسفل وادي المسيلة بمحافظة حضرموت، فبراير 2014 (صورة حصرية لمركز سوث24)


وفي سياق التحقيق حول الأثر البيئي لصناعة النفط في حضرموت، برزت شهادات متطابقة تؤكد وجود انتهاكات جسيمة ارتكبتها الشركات العاملة في قطاع النفط، وعلى رأسها شركة "كنديان نكسن". 


في هذا الصدد، قال المهندس الجيولوجي عماد بامسدوس، الذي عمل مشرفاً لدى منظمة اليونيسف في مشروع حفر آبار مياه ارتوازية بمديرية الضليعة التي ينحدر منها في العام 2018، إن شركة "كنديان نكسن" نفذت قبل مغادرتها اليمن بسنوات قليلة عملية حقن حمضي (ACID INJECTION) في آبار النفط بمنطقة المسيلة. وأوضح أن الهدف من هذه العملية كان رفع إنتاج النفط، إلا أن الكمية الكبيرة من الحمض المستخدمة "أدت إلى زيادة مؤقتة في الإنتاج، ثم تسببت بتدمير الآبار وخلفت آثاراً بيئية جسيمة".


وتحدث  بامسدوس لمركز سوث24 عن الانبعاثات السامة الناتجة عن إسالة النفط الخام على التربة، مؤكدًا أن هذه العمليات تطلق غازات خطرة مثل الميثان والإيثان والبروبان، إلى جانب مركبات عطرية متعددة الحلقات (BTX) التي ترتبط مباشرة بسرطانات الجهاز التنفسي. وأشار أيضًا إلى أن غاز كبريت الهيدروجين المنبعث من هذه العمليات قد يؤدي، في حال استنشاقه بتراكيز مرتفعة، إلى شلل في الدماغ أو حتى الوفاة، فضلًا عن تلوث المياه الجوفية بعناصر مشعة ومالحة.




وللتعمق في المخاطر البيئية المرتبطة بعمليات استخراج النفط، استعان معد التحقيق بالمهندس الكيميائي عامر أحمد، الذي شغل مهام مشرف مشاريع في عدد من المنظمات الدولية، من بينها برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، كما عمل سابقاً في شركة بترومسيلة. وقد أوضح المهندس عامر لمركز سوث24 أن أحد أبرز مصادر التلوث النفطي في مناطق الاستخراج هو الاستخدام غير المنضبط للسوائل والمواد الكيميائية المساعدة في عمليات الحفر.


وشرح أحمد أن هذه المواد تشمل بشكل رئيسي سوائل الحفر وكربونات الكالسيوم ومواد التشحيم، وكلها تُعد من الملوثات البيئية الشائعة في مواقع العمل النفطي. وأشار إلى واقعة ميدانية حدثت في إحدى قرى مديرية تريم، حيث تم التخلص من تلك المواد بطريقة غير آمنة عقب عمليات الحفر الاستكشافي، قائلاً: "بدلاً من التعامل معها بطريقة آمنة، تم وضعها في حفر غير مهيأة لعزل هذه المواد، مما أدى إلى تسربها إلى التربة والمياه".


وأضاف المهندس عامر أن هذه المواد الكيميائية الخطرة، ونتيجة لغياب إجراءات العزل والمعالجة البيئية، بدأت بالظهور خلال الفترة ما بين عامي 2012 و2018 على أعماق تتراوح بين 40 إلى 60 متراً تحت سطح الأرض، مسببةً تلوثاً ملحوظاً في المياه الجوفية. ويقول: "في البداية، ظن البعض أن هذه المخلفات هي نفط، ولكن اتضح أنها ناتجة عن مخلفات الحفر".


وقدم الخبير البيئي عبدالقادر الخراز، صورة أكثر شمولًا حول الأثر الممتد لهذه الأنشطة في مناطق الامتياز النفطي. وأوضح لمركز سوث24 أن عمليات إعادة الحقن غير الآمنة، تعد واحدة من أبرز مصادر التهديد البيئي في مناطق الامتياز النفطي، لا سيما في محافظة حضرموت. مشيراً إلى أن "بالنسبة للمياه المصاحبة للنفط، فإنها تظهر في إنتاج آبار حضرموت، حيث يأتي النفط عادة مصاحباً للمياه، على عكس مناطق أخرى مثل مأرب التي تكون فيها المصاحبات غازية". 


وأعرب الخراز عن قلقه من استمرار استخدام طريقة خاطئة في التعامل مع هذه المياه، موضحاً أنها "كانت تعتمد على أساليب قديمة، ولكنها أصبحت غير صديقة للبيئة".


تتفاقم هذه الإشكالية، بحسب الخراز، نتيجة احتواء المياه المصاحبة على "مكونات هيدروكربونية خطرة، بالإضافة إلى نفايات الحفر والمواد الكيميائية المستخدمة في عمليات الحفر"، وهو ما يخلق مشاكل كبيرة للتربة والمياه. ويضيف بأن "في بعض الأحيان، كان يتم تصريف هذه المياه مباشرة إلى التربة، مما أدى إلى تلوث كبير في العديد من مناطق حضرموت".



ملوثات نفطية تتدفق مع إحدى العيون المائية، بالقرب من قطاع 10 النفطي – منطقة الغبيرة، أسفل وادي المسيلة بمحافظة حضرموت، أكتوبر 2014 (صورة حصرية لمركز سوث24)


تأثيرات هذه الممارسات تمتد إلى القطاع الزراعي والمائي، إذ يشير الخراز إلى أن التلوث الناتج "يؤثر سلباً وبشكل طويل الأمد على التربة والمياه الجوفية، مما يؤدي إلى تضرر الأراضي الزراعية والمحاصيل"، مؤكداً أن "المياه المستخدمة في الزراعة في تلك المناطق تتعرض لتغير خصائصها وللتلوث، مما يؤثر على جودة المياه المستخدمة في سقي الأراضي الزراعية". ولا يقتصر الأثر على المزروعات، إذ يُستخدم الماء ذاته في أحيان كثيرة لـ "إطعام الحيوانات، مما يسبب أضراراً للمواشي التي تُربى في تلك الأراضي"، بحسب قوله.


وعند الحديث عن الأثر الصحي المباشر، يلفت الخراز إلى ملاحظة "انتشار أمراض سرطانية في مناطق إنتاج النفط، مثل حضرموت وشبوة ومأرب"، موضحاً أن هذا "يرتبط بشكل مباشر بالصناعة النفطية، التي تُعتبر المصدر الرئيسي لمثل هذه الأمراض في هذه المناطق". ويخلص إلى أنه "لا توجد منشآت صناعية أخرى تؤثر بهذا الشكل، مما يبرز الحاجة الملحة لمعالجة المخلفات النفطية بشكل مسؤول".


ومن الناحية العلمية، هناك ما يدعم هذا الربط بين النفط والسرطان من حيث الأدلة العلمية والآراء الفنية. ففي أبريل 2021، نشرت المكتبة الوطنية للطب في الولايات المتحدة دراسة للباحث F.M. Onyije بعنوان “معدل الإصابة بالسرطان والوفيات بين العاملين في صناعة البترول والمقيمين في مجتمعات إنتاج النفط”. خلصت الدراسة إلى أن القرب من منشآت إنتاج النفط يرتبط بارتفاع خطر الإصابة بسرطان الدم، لا سيما لدى الأطفال. كما  رصدت الدراسة نسبًا مرتفعة من الوفيات في المناطق التي تشهد نشاطًا نفطيًا متواصلاً. 



ملوثات نفطية صلبة، بالقرب من قطاع 10 النفطي – منطقة الغبيرة، أسفل وادي المسيلة بمحافظة حضرموت، فبراير 2014 (صورة حصرية لمركز سوث24)


قصص ضحايا


في مديرية غيل بن يمين، الواقعة شرق مدينة المكلا، كانت مروى، الطفلة ذات الستة أعوام، تقف أمام مرآتها الصغيرة عندما لاحظ والدها انتفاخًا غير طبيعي في أحد جانبي رأسها. في البداية، ظنّ أن الأمر مجرد التهاب عابر، لكنها سرعان ما بدأت تعاني من صداع حاد ونوبات قيء. في أغسطس 2014، وبعد سلسلة من الفحوصات التي أجريت في مستشفى بالمكلا، تبيّن أن مروى مصابة بورم سرطاني خبيث في الدماغ. بدأ والدها، عمر محمد، رحلة طويلة من العلاج الكيماوي لجعل حياة ابنته أقل ألمًا، لكن الاستجابة للعلاج كانت بطيئة.


 لم تكن الأسرة تملك تأمينًا صحيًا، ولم تكن هناك جهات رسمية تعنى بتغطية التكاليف الباهظة، فاضطر الأب إلى بيع ممتلكات صغيرة كانت تملكها الأسرة لتغطية النفقات. لم يتردد عمر في تحميل المسؤولية المباشرة للشركات العاملة في محيط المنطقة، وعلى رأسها DNO النرويجية، نكسن الكندية، وجزء من قطاع توتال الممتد بين حضرموت وشبوة، مؤكدًا أن الانبعاثات والتسريبات الناتجة عن عملياتها هي السبب وراء إصابة ابنته ومعظم الحالات التي ظهرت في المنطقة، على حد قوله لمركز سوث24.



تقرير طبي للطفلة مروى – 24 أغسطس 2014، (لمركز سوث24 بواسطة ذوي الطفلة)


القصة ذاتها تتكرر في الضليعة، حيث يعيش محمد باقطيان، أب لطفل يُدعى هاشم، يبلغ من العمر خمسة عشر  عامًا. في ديسمبر 2021، لاحظ تغيّرات في حركة ابنه وصعوبات متكررة في النطق والتوازن. لم تمضِ أسابيع حتى أكدت تقارير طبية محلية أن هاشم مصاب بورم في الدماغ. لم تُقدَّم لهم أي مساعدة من أي جهة حكومية أو نفطية، رغم وجودهم ضمن منطقة الامتياز النفطي. 


يقول باقطيان إن الأسرة اضطرت إلى بيع منزلها ومجوهرات نسائها وكل ما تمتلكه لتوفير تكاليف العلاج والتنقل بين سيئون وعدن. ويضيف أن ما يزيد المأساة هو الشعور بالعزلة، حيث لا يوجد أي دعم نفسي أو طبي أو قانوني يُقدَّم لأسر المصابين، وكأن السرطان الذي جاءهم من تحت الأرض لم يكن مسؤولية أحد.



تقرير طبي للطفل هاشم – 15 ديسمبر 2021، (لمركز سوث24 بواسطة ذوي الطفل)


وفي حالة موثقة أخرى من غيل بن يمين، يظهر تقرير طبي صادر عن أحد المستشفيات الحكومية، في يوليو 2024، لطفل يبلغ من العمر ثماني سنوات، يؤكد إصابته بسرطان في البلعوم والجهاز اللمفاوي. 


لم يتسنّ لمعد التحقيق، التصريح بهوية الطفل بناءً على رغبة الأسرة التي تواصلنا معها في الحفاظ على الخصوصية، لكن الوثيقة الطبية تكشف مدى تفشي المرض في الفئة العمرية الأضعف. لم يكن الطفل يعاني من مشاكل صحية سابقة، ولم يكن هناك تاريخ عائلي مع المرض، ما يعزز فرضية ارتباط المرض بعوامل بيئية خارجية.



تقرير الطفل المصاب بسرطان البلعوم والجهاز اللمفاوي – 17 يوليو 2024 (لمركز سوث24 بواسطة ذوي الطفل)


الأرقام 


تشير البيانات الرسمية التي حصل عليها مركز سوث24 من المركز الوطني لعلاج الأورام بوادي حضرموت إلى تصاعد مقلق في عدد الإصابات بالسرطان خلال الفترة الممتدة من عام 2013 حتى أغسطس 2021. ففي عام 2013 سُجّلت 161 حالة، لكن الأرقام ارتفعت تدريجيًا خلال الأعوام التالية، لتبلغ 189 حالة في 2014، ثم قفزت إلى 259 حالة في 2015، قبل أن تصل إلى 312 حالة في عام 2016. هذا التسارع في وتيرة الإصابة يثير علامات استفهام جدية حول الأسباب البيئية والصحية، خصوصًا مع توسع النشاط النفطي في المنطقة خلال العقود الأخيرة.



جدول يوضح حالات السرطان الجديدة للأعوام من 2013م حتى أغسطس 2021، وفقًا للتوزيع الجغرافي، بحسب إحصائيات المركز الوطني لعلاج الأورام – حضرموت الوادي والصحراء


رغم هذا التصاعد، شهد عام 2017 انخفاضًا طفيفًا في عدد الحالات إلى 259، ثم ارتفعت مجددًا في 2018 إلى 274 حالة، قبل أن تتراجع إلى 236 في 2019. إلا أن هذا الانخفاض لا يبدو مؤشراً على تحسن حقيقي، بل قد يعكس ضعف إمكانيات التوثيق والفحص المبكر، أو ظروف النزاع وتأثيراتها على الخدمات الصحية.


مع حلول عام 2020، عادت الأرقام إلى الارتفاع بوضوح، إذ سجل العام وحده 343 حالة إصابة، فيما بلغت الحالات المسجلة خلال الأشهر الثمانية الأولى من 2021 نحو 351 حالة، ما يمثل الذروة خلال الفترة كلها. 


أما التوزيع الجغرافي للحالات فيكشف أن مديريات سيئون (551 حالة)، وتريم (436)، والقطن (330)، وشبام (239)، وساه (95) تصدرت معدلات الإصابة، وهو ما يرتبط جزئياً بكثافة السكان، لكنه يطرح أيضاً تساؤلات حول قرب هذه المناطق من مواقع الامتيازات النفطية وعمليات التخلص من النفايات. ويبدو لافتاً أن عدد الحالات الواردة من خارج الوادي بلغ 427، ما يعكس استقطاب المركز لحالات من محافظات أخرى، ويزيد من الضغط على قدراته المحدودة.


وتُظهر البيانات الرسمية الصادرة عن المركز الوطني لعلاج الأورام في وادي حضرموت والصحراء لعام 2019، التي تحصل عليها مركز سوث24، أن السرطانات في المنطقة تتوزع بنمط يسلط الضوء على فجوات الرعاية الصحية وأولويات التدخل. ووفقاً للإحصائية، تصدّر سرطان الثدي قائمة أنواع السرطان المسجلة، بـ 36 حالة، ما يجعله الأكثر شيوعاً، لا سيما بين النساء. هذا الرقم يعكس غياب برامج الفحص المبكر المنتظمة، ويفتح باب التساؤل حول مستوى الوعي المجتمعي وضعف التغطية الصحية الوقائية في المديريات الريفية على وجه الخصوص.



الحالات السرطانية المسجّلة لعام 2019م بحسب النوع والمديريات، وفقًا لإحصائية المركز الوطني لعلاج الأورام – حضرموت الوادي والصحراء 


يحتل سرطان الدم (اللوكيميا) المرتبة الثانية، بـ 20 حالة، وهو ما يشير إلى مخاطر صحية مزدوجة، خصوصاً في صفوف الأطفال والشباب. ويُعد انتشار هذا النوع مؤشراً حساساً على احتمالية وجود عوامل بيئية أو تلوث مزمن في مناطق الامتياز النفطي أو المناطق المجاورة لها، خاصة أن دراسات بيئية تربط بين التعرض طويل الأمد لمخلفات الحفر والغازات السامة وبين سرطانات الدم.


كما تكشف الإحصائية أن سرطان القولون والمستقيم يأتي في المرتبة الثالثة بـ 18 حالة، تليه سرطانات الرأس والعنق بـ 13 حالة، والبروستاتا والرحم بـ 10 و11 حالة على التوالي. ويُلاحظ تزايد في معدلات سرطانات المعدة، العظام، والمثانة، في حين تسجَّل حالات أقل في أنواع مثل الكبد، الكلى، والجلد. هذا التنوع في الإصابات، وتوزعها الجغرافي، يطرح تساؤلات عميقة حول أنماط التغذية، وجودة المياه، ومدى تأثير النشاط الصناعي والنفطي على صحة السكان.




الإحصائية توزعت على 13 مديرية في وادي حضرموت، وكان النصيب الأكبر من الحالات في مديريات سيئون وتريم وشبام، ما يعكس حجم الكثافة السكانية من جهة، وربما أيضاً قرب بعض المناطق من مواقع الأنشطة الصناعية أو مناطق التخلص من النفايات النفطية.


ويعتقد مختصون تحدثوا لمركز سوث24، مثل أخصائي علاج الأورام محمد عوض الشنيني الذي ينحدر من منطقة غيل بن يمنين النفطية، أنَّ أرقام الإصابات بالسرطان والأمراض الأخرى الخطيرة في وادي حضرموت على وجه التحديد أكبر بكثير مما تعلنه مراكز علاج الأورام التابعة لوزارة الصحة. وأشار إلى أن الأرقام قد تكون أكبر بسبب غياب الفحص المبكر، وسفر بعض المرضى للعلاج خارج المحافظة دون تسجيل رسمي، أو وفاتهم قبل الوصول إلى المراكز المتخصصة. 


ويوضح الطبيب أن السرطان لا يُشخَّص في كثير من الحالات إلا في مراحل متأخرة، ما يجعل الإحصاء الرسمي مرآة باهتة لحجم الأزمة.\



سكان محليون يعاينون المياه التي ظهرت ممزوجة بملوثات نفطية بعد حفر بئر ارتوازي – مارس 2018، غيل عمر، مديرية ساه بمحافظة حضرموت  (المصدر: نشطاء)


عدالة غائبة


في حضرموت، لا تتوزع المسؤولية البيئية بين الفاعلين بشكل عادل، بل يغلب عليها الصمت والتواطؤ. الشركات النفطية التي راكمت أرباحًا يومية طائلة من باطن الأرض، كانت تغادر مواقعها مساءً دون أن تترك خلفها سوى مخلفات مجهولة المصير. لا بيانات بيئية تصدر بانتظام، ولا تقارير شفافة توضّح أساليب التخلص من النفايات أو طبيعة المواد المستخدمة في الحفر والإنتاج.


وعلى المستوى الرسمي، تعاقب على وزارة النفط اليمنية في السنوات الأخيرة أكثر من وزير، بعضهم من أبناء حضرموت أنفسهم، دون أن يصدر عن الوزارة أي موقف أو تقرير يتناول التدهور البيئي في مناطق الامتياز. هذا الصمت الرسمي لا يكشف فقط عن ضعف في الرقابة، بل يعبّر عن غياب الإرادة السياسية في فتح هذا الملف أو مجرد مناقشته علنًا. ويعلّق المهندس الجيولوجي عماد بامسدوس قائلًا: "لا أتصور أن ثلاثة وزراء من حضرموت مرّوا على وزارة النفط دون علمهم بالممارسات البيئية غير المسؤولة في مناطقهم. هل كانوا يجهلون أم كانوا يتجاهلون؟".



مجرى للسيول بالقرب من القطاع 10 النفطي - منطقة الغبيرة، أسفل وادي المسيلة بمحافظة حضرموت، فبراير 2014 (صورة حصرية لمركز سوث24)


أما الخبير البيئي الدكتور عبدالقادر الخراز، فيؤكد أن المنشآت النفطية في حضرموت لم تتخذ أي إجراءات بيئية فاعلة خلال السنوات الماضية. ويشير إلى أن النفايات تُدفن مباشرة في الأراضي المحيطة، وتُصرف المياه الملوثة في الحقول، بينما تُترك الغازات تتسرب في الهواء دون معالجة أو رقابة. ويضيف أن هذه الشركات "لا تتحمل أي مسؤولية أخلاقية أو اجتماعية تجاه السكان، بل تتعامل مع المناطق وكأنها مجرد مواقع تشغيل، لا تتطلب التزامًا أو ردًّا على ما تسببه من ضرر دائم".


وضمن إطار التحقق المهني والبحث عن الرأي الآخر، خاطب مركز سوث24 للأخبار والدراسات عدة جهات حكومية ونفطية في سياق إعداد هذا التحقيق حول الآثار البيئية والصحية لعمليات استخراج النفط في محافظة حضرموت. وشملت هذه المخاطبات الرسمية وزارة النفط اليمنية، ووزارة الصحة اليمنية، وهيئة حماية البيئة، وهيئة استكشاف وإنتاج النفط، وشركة بترومسيلة، إضافة إلى محافظ حضرموت، حيث تم إرسال خطابات رسمية في منتصف أبريل 2025 تتضمن طلبات مقابلة وتوضيحات بشأن ما وثّقه فريق التحقيق من أدلة على تلوث بيئي وارتفاع ملحوظ في معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية في مناطق الامتياز النفطي.


الرسائل الموجهة إلى هذه الجهات ركزت على دور كل منها في الرقابة والمعالجة. وقد منح مركز سوث24 أسبوعًا من تاريخ الاستلام عبر البريد الإلكتروني وعبر الواتساب لمسؤولين في هذه الجهات، لتلقي الردود، مؤكداً التزامه بنقل وجهات النظر الرسمية بكل شفافية، غير أن الجهات المعنية لم تبادر بإرسال أي رد حتى موعد النشر.


أيضًا، خاطب معد التقرير ثلاثاً من أبرز الشركات النفطية الدولية التي عملت في وادي حضرموت، وهي شركة DNO النرويجية، وشركة نكسن الكندية (Nexen)، وتوتال الفرنسية (TotalEnergies)، وذلك في الفترة ذاتها، بهدف الحصول على ردود رسمية بشأن الاتهامات والمخالفات البيئية المنسوبة إلى أنشطتها السابقة في المنطقة. وحتى لحظة نشر هذا التحقيق، لم نتلقَ أي رد من هذه الشركات.


صحفي ومحرر لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات


Shared Post
Subscribe

Read also