التحليلات

لماذا غابت المظلوميات في شمال اليمن؟

خلال رقصة شعبية تهامية (الصورة: أندبندنت عربية)

10-03-2024 at 2 PM Aden Time

language-symbol
مطلب الحكم المحلي كان ملحاً بالنسبة لأبناء تعز في المؤتمر الجماهيري، لإنهاء المعاناة التي سببتها المركزية الشديدة للنظام السابق.
عمل اللجنة كان يُواجه بمعارضة شديدة من حزب المؤتمر بقيادة علي عبدالله صالح، الذي كان يعتبر أي نوع من هذا العمل هو عمل انفصالي.
حزب المؤتمر والإصلاح أعلنا عدائهما للمؤتمر الجماهيري ومطالبه في تعز، مما خلق مزيداً من حالة الإحباط لدى المواطنين.
تأثر موقف تعز الوطني والسياسي وتراجعه خلال العقود المنصرمة، وسمح للأحزاب السياسية التابعة للنظام والمقرّبة منه بما فيها الدينية المتطرفة أن تسيطر على أي حركة أو رد فعل.
تهميش التهاميين وعدم ضمهم لسلطة الانتقال السياسي في إبريل 2022 أدى إلى تفكير بالانفصال.
تراجع العمليات العسكرية وتفكك الأجنحة العسكرية للمقاومة التهامية.
الحاجة إلى إدارة المشهد داخل نطاق محافظات تهامة واستنزاع حق إدارة مناطقهم.
في أغسطس 2013، بدأ الحراك السبئي في مأرب للمطالبة بحقوق أبناء المحافظة ومكافحة التهميش والإقصاء.
تشكلت "القضية المأربية" للتعبير عن مظلومية المحافظة في الماضي ومستقبلها المرجو.
ظهرت هذه المكونات الجهوية في شمال اليمن بسبب "ثورة التغيير" في 2011، ولكن تم اختراقها لاحقًا من قبل الأحزاب السياسية التقليدية.
استغلت جماعة الحوثيين نشأتها كأقلية في اكتساب التعاطف الخارجي والدولي والحقوقي، لتبرير أعمالها القمعية اللاحقة.
تأثير تجاهل المطالب الجهوية في شمال اليمن على عملية السلام والاستقرار.
الحاجة إلى مشاركة المكونات الجهوية في صياغة الحلول النهائية وتحقيق السلم الأهلي.
وجود الحلول السياسية العادلة والمنصفة مفتاح لإنهاء العنف وتحقيق السلام.


فريدة أحمد


برزت المظلوميات في المجتمعات الأهلية بشمال اليمن منذ ستينيات القرن الماضي، بعد أنّ ظلّت أصواتها منخفضة لوقت طويل بسبب حكم الإمامة، وبالذات في مناطق تهامة والمناطق الوسطى في اليمن. غير إنّ نبرتها بدأت تعلو شيئاً فشيئاً بعد ما سمُيت بثورة الشباب عام 2011. ورغم شمولية المظلومية في أغلب مناطق الشمال الأسفل، غير إنّ المكوّنات التي ظهرت لاحقاً للمطالبة بحقوقها ظلّت منغلقة على نفسها، واحتفظ كل مكوّن بحمل هموم منطقته فقط. ويختلف وجه مقارنة المظلوميات في الشمال عن قضية جنوب اليمن، التي نشأت نتيجة ضرر مس دولة وطنية بكامل سكانها ومؤسساتها (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، ولم تمس مجموعة واحدة داخل الدولة كما هو الحال في الشمال.


وفي سياق مظلوميات شمال اليمن، برزت كذلك مظلومية أبناء صعدة منذ 2004، بسبب الحروب الست التي خاضتها الجماعة الحوثية مع قوات الجيش اليمني آنذاك، وما تبعها من تداعيات على السكان. غير إنّ سرديتها تحوّلت تدريجياً من مجموعة تعبّر عن مظلومية منطقتها، إلى مجموعة لديها قبضة حديدية وتحكم النطاق على معظم جغرافية الشمال بعد 2014، وكانت سبباً رئيسياً في فتح بوابة النفوذ الخارجي للتدخل في اليمن على مصراعيه جرّاء انقلابها على الدولة المعترف بها في صنعاء واستخدام وسائل قمعية تنتهك حقوق الإنسان لبسط نفوذها. هذا الأمر أسّس في نهاية المطاف إلى مظلوميات أخرى واقعة تحت انتهاكات الجماعة الحوثية التي كانت تعبر عن مظلومية بحد ذاتها في الأمس القريب، واستغلت نشأتها كأقلية في اكتساب التعاطف الخارجي والدولي والحقوقي، لتبرير أعمالها اللاحقة.


من هنا، يمكن القول إن الإشكالية الحقيقية تتعاظم عندما تتحوّل جماعة تحمل سردية الظلم إلى جماعة ظالمة، وتعمل على تصفية حساباتها السياسية مع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية بناءً على تراكمات ثقيلة إما لها علاقة مباشرة بها كجماعة، أو بأطراف خارجية تستفيد من خلالها في مساوماتها الأوسع وفقاً لمصالحها. وهو ما يحدث بشكل فعلي مع الجماعة الحوثية التي تدعمها إيران بشكل صريح، على المستويات المعنوية والعسكرية. وهذا الأمر لم يعد سراً، فإيران ظلّت لعقود تدعم جماعات الإسلام الشيعي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والأمر بات يتعدا ذلك إلى دعمها لجماعات التطرّف السني، وبالذات الجماعات المتطرّفة دينياً في اليمن، مثل تنظيمي القاعدة، والإخوان المسلمين، وقد استطلع مركز سوث24 كثير من هذه الروابط خلال الحرب الأهلية الأخيرة في اليمن.


تُناقش هذه الورقة أبرز الأحداث التي شكّلت هذه المظلوميات خلال العقود الماضية في الشمال، وتُعيد قراءة جذورها، بهدف التشجيع على تحقيق العدالة المجتمعية بين السكان ووجود حلول ورؤية مستقبلية للحد من وجود سيطرة سياسية وعسكرية ذات لون قبلي وعرقي وديني واحد على مستقبل اليمنيين هناك. 


كيف اندثرت بعض المظلوميات؟


1-     مؤتمر تعز الجماهيري

لعل أشهر حدث شعبي قام في شمال اليمن بعد سقوط حكم الإمامة، هو "المؤتمر الجماهيري"، الذي انعقد في تعز بنوفمبر عام 1992. عبّر المؤتمر بشكل واضح عن مظلومية المحافظة للمطالبة بحقوق أبناءها، بقيادة مجموعة من الشخصيات المؤثرة؛ أبرزها عبد الحبيب سالم مقبل، ومنصور أحمد سيف، وسلطان السامعي، وغيرهم كثر ممن حضّروا سلفاً للمؤتمر عبر لجنة عُرفت آنذاك بلجنة إضراب تعز. برز نشاط اللجنة للتعبير عن سوء الأوضاع والإهمال المتعمد من قبل صنعاء لتعز، وهو الوقت الذي كانت تشهد فيه دولة الوحدة الناشئة عام 1990 بين اليمنين الشمالي والجنوبي، عملية اغتيالات واسعة لقيادات جنوبية من الكوادر المدنية والعسكرية، نُفذت بشكل متسلسل خلال الفترة الانتقالية لمعظم من ينتمون للحزب الاشتراكي اليمني، شريك السلطة مع حزب المؤتمر الذي كان يقوده "علي عبدالله صالح" آنذاك. وقد وجهت اتهامات متواترة للأخير إلى جانب حزب الإصلاح الإسلامي، حليفه الأقرب ذلك الوقت، بالتخلص من منافسيهم الجنوبيين الجدد.


وقد قادت الخصومة الشديدة التي توّلدت لاحقاً بين (شركاء دولة الوحدة) حزب المؤتمر والحزب الاشتراكي، "علي عبدالله صالح" وحلفاءه من القوى الدينية، لاتهام "لجنة تعز"، بأنها مدعومة من الحزب الاشتراكي في الجنوب، وذلك في الطريق لوأدها، كما تمّ وأد شركائهم في السلطة لاحقاً بخوض حرب 1994 على اليمن الجنوبي، خاصة وأنّ كثير من أبناء تعز كانوا مرتبطين عاطفياً بالجنوب، وكثير منهم وجدوا عدن كملاذ آمن لهم قبل ثورة 26 سبتمبر 1962 وما بعدها، حتى أن بعضهم صعد لاحقاً للسلطة في اليمن الجنوبي، منهم الرئيس عبدالفتاح إسماعيل عام 1979. يقول د. عبدالرحمن الأزرقي1، وهو عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني في تعز، "بعد حرب 1994 ظهر تجريف لكل ما له علاقة بدولة الجنوب، باستثناء بعض الشخصيات الملحقة بنظام علي عبدالله صالح آنذاك".


بالنسبة لتعز، فقد تم عقد "مؤتمر تعز الجماهيري"، استكمالاً لخطوات اللجنة، وكانت أبرز مطالبه بأن "تُعطى تعز دوراً في تحصيل مواردها وتعيينات لقادتها، لكنّ المؤتمر فشل فيما بعد بسبب الضغط الذي تعرّض له أعضاؤه، إذ كانوا يُتهمون بالمناطقية والطائفية"، وفقاً للأزرقي. سمح ذلك للرئيس صالح أن يستدعي رجالاته في تعز ليواجهوا تلك الحركة وينشروا الاتهامات حول أعضاءها تباعاً، وبالذات أن صالح كانت بدايات صعوده نحو الرئاسة من تعز. وكان يملك تأثير كبير على طبيعة المجتمع وقبائله هناك عندما كان قائداً للواء تعز في سبعينيات القرن الماضي.


يوضّح عبدالجليل عثمان2، وهو عضو قيادي سابق في الحزب الاشتراكي بتعز، "كان مطلب الحكم المحلي ملحاً بالنسبة لأبناء تعز في المؤتمر الجماهيري، وذلك لإنهاء المعاناة التي سببتها المركزية الشديدة للنظام السابق، واستمرت كذلك بعد الوحدة وهي تفرض السيطرة والاستبداد القبلي على المحافظة". لذا طالب المؤتمر بإيجاد حلول لتعاظم معاناة الناس المعيشية وكذا مكافحة الفساد والرشوة وإهدار المال العام وتحقيق مبدأ المواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص في الوظائف العامة، إلى جانب المطالبة بعدد من القضايا الوطنية، غير إنّ هناك من كان يعمل على جعل هذه القضايا أوراقاً للمساومة السياسية.


مرة أخرى، يوضّح د. عبدالرحمن الأزرقي، بأنّ "عمل اللجنة كان يُواجه بمعارضة شديدة من قبل حزب المؤتمر بقيادة علي عبدالله صالح، وكان الأخير يعتبر أي نوع من هذا العمل هو عمل انفصالي، خصوصاً وأنّ النظام في اليمن كان مركزياً، ولا تُعطى للمحافظات سوى صلاحيات متدنية مجملها يرتبط بالأعمال ذات الطبيعة الإدارية". يتفق عبدالجليل عثمان في ذلك بالقول، "اعتبر حزب المؤتمر الشعبي عدم إخفاء الحزب الاشتراكي تعاطفه تجاه مطالب تعز ومساندته للمؤتمر الجماهيري، عملاً عدائياً موجهاً إليه، وأعلن حزبي المؤتمر والإصلاح حينها عدائمها للمؤتمر الجماهيري ومطالبه في تعز، مما خلق مزيداً من حالة الإحباط لدى المواطنين".


في ديسمبر عام 1992، اندلعت مظاهرات احتجاج كبيرة في تعز بسبب تدهور الأوضاع المعيشية هناك، حيث أخذت طابعاً عنيفاً وتم قتل كثير من المواطنين في الشوارع، وامتدت الاحتجاجات إلى محافظات أخرى لاحقاً في إب وذمار والحديدة وصنعاء. يقول عثمان مرة أخرى، بأنّ "الأحداث اللاحقة بدلاً من أن تكون محطة لبحث حلول للأزمة، باتت عملاً لإظهار الجبروت العسكري عبر استعادة الأجهزة السرية لنشاطها واعتقال عشرات المواطنين والدفع بعصابات "الإرهاب" إلى المدينة والزج بمجاميع قبلية وميليشاوية حزبية إليها، كان عملها توتير الأجواء وتوجيه اتهامات للحزب الاشتراكي اليمني".  


على الرغم من الجهود الحثيثة لإبقاء عمل لجنة المؤتمر الجماهيري في تعز مستمراً من خلال نشر البيانات الدورية، وتحذير المواطنين من عدم الانجراف في قضايا مناطقية ومذهبية ضد بعضهم البعض، إلا أنّ احتداد الأزمة السياسية في حينه بين الشمال والجنوب، أدّت إلى انتهاء عمل لجنة المؤتمر الجماهيري، واستقال ممثلها عبد الحبيب سالم كذلك من مجلس النواب في مارس 1995، بسبب ما آلت إليه الأوضاع في اليمن بعد حرب 1994، وكذا احتداد الموقف بينه وبين حزب الإصلاح اليمني وزعيمه عبدالله بن حسين الأحمر. وقد توفي عبد الحبيب في ظروف غامضة لاحقاً من نفس العام بصنعاء.


لقد تم وأد الأصوات المعارضة من تعز منذ وقت مبكر. فعلى سبيل المثال، بعد اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي في صنعاء عام 1977، اتجه قائد قوات المظلات المقرّب من الحمدي آنذاك "عبد الله عبد العالم" إلى الحجرية في محافظة تعز. اعتبر الرئيس أحمد الغشمي الذي خلف الرئيس الحمدي على أنّ فعل عبد العالم نوعاً من التمرد، واتفق الغشمي مع قائد لواء تعز في ذلك الوقت علي عبدالله صالح، على إرسال مجموعة من المشائخ إلى عبد العالم للتوسّط من أجل التراجع عن قرار التمرد والعودة إلى صنعاء. غير أنّ الوساطة فشلت وتمّ تصفية 19 شيخاً دفعة واحدة عام 78 في نفس المكان، ووفقاً لكثير من الشهود، كان صالح هو من رعى عملية التصفية التي وصفت بالأبشع في تاريخ تعز. توالت بعدها عمليات اغتيال منفردة لما تبقى من المشائخ المؤثرين، وصل البعض منها إلى الدهس حتى الموت، ما اضطر كثير من المشائخ حينها الهرب إلى عدن.


يمكن القول، إنّ مشائخ وقبائل تعز كانوا يشكّلون قوة وتأثير يُكافئ قوة قبائل صنعاء وما حولها في سبعينيات القرن الماضي، غير إنّ عملية تصفية مشائخ "الحجرية" آنذاك، أدّت لتراجع دور المشائخ في تعز، وانصاع ما تبقى منهم للنظام المركزي في صنعاء. هذا الأمر أثّر بالتبعية على موقف تعز الوطني والسياسي وتراجعه خلال العقود المنصرمة، وسمح للأحزاب السياسية التابعة للنظام والمقرّبة منه بما فيها الدينية المتطرفة أن تسيطر على أي حركة أو رد فعل احتجاجي يعبّر عن مظلومية تعز أو حقوقها، وهو ما حدث بشكل دراماتيكي للجنة إضراب تعز ومؤتمرها الجماهيري الذي اندثر شيئاً فشيئاً على يد المشائخ والشخصيات الاجتماعية والمدنية التعزية المنصاعة للنظام في صنعاء.


لم يختلف الحال بعد حرب 2014 بعد الانقلاب الحوثي، فقد باتت تعز مرتعاً لمعسكرات تدريب المليشيات غير النظامية التابعة لحزب الإصلاح الإسلامي "الإخوان المسلمين"، كما أنّ بعض الجماعات فيها انخرطت بصراع الحوثيين والإصلاح ضد الجنوب، وبالذات بعد تصفية اللواء عدنان الحمادي، الذي كان دوره مؤثراً في عملية تحرير مناطق كثيرة في محافظة تعز من الميليشيا الحوثية. كثير من أبناء المحافظة، كانوا يعتبرون الحمادي شخصية مؤثرة كان من الممكن أن تقود تغييراً لصالح تعز على المستوى السياسي والعسكري إلى جانب عدداً من الشخصيات الوطنية الأخرى. 


2-     الحراك التهامي


في 2011، تأسس الحراك التهامي في محافظة الحديدة إبان "ثورة التغيير" اليمنية في الشمال، بدأت الحركة بحراك ثوري شعبي في مناطق تهامة الساحلية، للتعبير عن مظلومية أبناء تهامة وتهميشهم طوال عقود من عهد الجمهورية اليمنية وما قبلها. يشعر التهاميون بالظلم التاريخي نتيجة استبعادهم من قيادة مؤسسات الدولة ومراكز صنع القرار، ذلك على الرغم من أنّه أصبح لديهم جناحاً عسكرياً ممثلاً بالمقاومة التهامية بعد عام 2015، وقادت الحركة عمليات التحرير إلى جانب العمالقة الجنوبية في أجزاء واسعة من محافظة الحديدة، قبل انضمام قوات "حراس الجمهورية"، بقيادة طارق صالح إلى العمليات العسكرية في الساحل بعد مقتل عمه على يد الحوثيين في ديسمبر 2017.


تم تهميش التهاميين مرة أخرى واستبعادهم من مراكز صنع القرار في فترة حكم الرئيس السابق هادي، وبالمثل عدم ضمهم لسلطة الانتقال السياسي في إبريل 2022، أو حتى ضمن هيئاتها التنفيذية الأخرى في نطاق الحكومة. لطالما عبّر أبناء تهامة بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية والثالثة، وهذا الأمر يدفعهم للتفكير بالانفصال وفقاً لكثيرين منهم، كونهم لا يشعرون بأي نوع من الوحدة الوطنية، خاصة وإنهم لم يجدوا عدالة أو مساواة، ودائماً ما تتركّز دائرة الاهتمام على مناطق جغرافية بعينها في الشمال. طرح بعض التهاميين فكرة تقرير المصير منذ أكثر من قرن عبر مطالب بعثها القائد التهامي أحمد فتيني جنيد، إلى عصبة الأمم المتحدة عام 1919، يطالبها فيها الاعتراف بدولة تهامة إثر الاعتداءات المتكررة على أراضيهم من قبل حكم الأئمة في صنعاء، إلا أن الأصوات المطالبة بحق تقرير مصير تهامة اليوم باتت ضئيلة، فيما يبرز بشكل كبير الحراك الشعبي بين التهاميين المطالب بأهمية انتزاع الاعتراف بإقليم كامل لتهامة، مع بقاءه ضمن دولة مدنية فيدرالية في اليمن. ذلك إلى جانب استرداد كافة الأراضي المثبتة ملكيتها لأبناء تهامة والمنهوبة سواءً من الدولة أو من أي مسؤول وبالطرق الشرعية والقانونية.


قد يعود أسباب تداعي الحراك التهامي إلى تراجع العمليات العسكرية بعد عام 2018، وبالذات بعد اتفاق استوكهولم الذي قوّض حركة المقاومة التهامية في الساحل الغربي، وتراجع الدعم الإقليمي للمقاومة في وقت لاحق، ما أدى بالمحصّلة إلى تفكك أجنحتها العسكرية. إضافة لذلك، أدّت الاستقطابات السياسية الشديدة لبعض قادتها، إلى انضمام كثير منهم إلى قوات "حراس الجمهورية" بقيادة طارق صالح؛ التي سُميت لاحقاً بـ (المقاومة الوطنية)، وأنشئ لها مكتباً سياسياً في مارس 2021. ظلّ طارق صالح يحتفظ بقواته ككيان خارج تشكيلة القوات التابعة للحكومة الشرعية، حتى عُيّن كنائب للرئيس في مجلس القيادة الرئاسي عام 2022 إلى جانب 7 نواب آخرين.


كان متوقعاً أن تعاني أجزاء كثيرة من تهامة الواقعة تحت سيطرة مليشيا الحوثي، من مضاعفة التهميش نظراً للنزاع العرقي الذي يتعامل به الحوثيون. إذ يتعرّض التهاميون منذ اجتياح الحوثيين لمناطق محافظة الحديدة في أكتوبر 2014 للقمع والانتهاكات بشكل يومي، وصل بعض تلك الجرائم إلى حد إعدام (9) تهاميين من بينهم قاصر، بحجة تقديمهم معلومات لوجستية ساهمت باغتيال رئيس المجلس السياسي الحوثي السابق، صالح الصماد. غير إنّه تبيّن لاحقاً وفقاً لما نقلته تقارير عن نجل الصماد ذاته، بأنّ عملية الإعدام كانت مسرحية هزيلة، الهدف منها دفن قضية والده وإطلاق سراح القاتل الحقيقي الذي يتجول في صنعاء بحرية مطلقة. ووفقاً لكثير من أبناء تهامة، مثل هذا الحدث يُظهر مدى الاستخفاف بدماء أبناء تهامة عندما تتم محاكمتهم بشكل جائر يفتقد لأدنى معايير العدالة. وهو مثال واحد من أمثلة عديدة لمدى ما يتعرّض له التهاميين على مستوى حقوقهم وفي مقدمتها حرمانهم من حق الحياة.


لا ينبغي النظر إلى حراك أبناء تهامة على أنه ممارسة آنية نشأت في ظل ظروف "ثورة" 2011 أو أثناء الصراع الحالي فقط، بل هو حالة تاريخية نشأت منذ ثورة "الزرانيق" ضد حكم الإمام يحيى في شمال اليمن عام 1919. كما كان التهاميون أوائل من قاوم الحوثيين في الحديدة عام 2014، عندما بدأ مسلحو الحوثي في الانتشار، وهم يرتدون الزي العسكري للجيش اليمني، من أجل السيطرة على السواحل الغربية.


في الوقت الراهن، يعتقد كثير من أبناء تهامة أنّ منحهم حق إدارة مناطقهم سياسياً وعسكرياً أولوية، ويعتبرون أنّ استبعادهم من مواقع التأثير في مناطقهم مظلومية أخرى تُضاف لمظلوميتهم التاريخية. يقول أحد النشطاء التهاميين في لقاء مع مركز سوث24، رفض الكشف عن نفسه خوفاً من الانتقام، بأنّه من المهم وجود قائد للساحل الغربي "من أبناء تهامة نفسها، للاستفادة من دعم الحاضنة الاجتماعية في المنطقة لأي عمليات عسكرية متوقعة، ولإعادة الاعتبار للنضال الطويل والمظلومية التاريخية لأبناء المنطقة". ويضيف، "القائد التهامي على المستوى السياسي والعسكري سيكون لديه الدافع النفسي والوطني لتحرير أرضه، بعكس أن يدير المعركة قائد من منطقة أخرى كانت سبباً في معاناة تهامة". ويؤكد، "الجنوب [جنوب اليمن] تحرّر في وقت قياسي، لأنّ من أداروا المعركة هم من أبناءه وليسوا من خارجه، كما إنّ أحد أسباب عدم الانتصار في المعركة ضد الحوثيين هو الخطأ الذي يحدث الآن في الساحل الغربي ومأرب".


يواجه التهاميون اعتراضات شديدة في مسألة اقناع الأطراف الأخرى بمشاركتهم في إدارة مناطقهم، وهي مسألة مؤجلة راهناً بالنسبة للقوى السياسية اليمنية المؤثرة والتحالف العربي بقيادة السعودية، بحجة زعزعة وحدة الصف. من المثير للاهتمام، أن نفس القوى السياسية – بما فيهم قيادات عليا في الحكومة المعترف بها، مثل رشاد العليمي - إلى جانب السعودية، تتبنى رعاية وتشكيل كيانات سياسية جهوية في مناطق بجنوب اليمن كحضرموت والمهرة وشبوة لإدارة مناطقها، اتضح أنها تهدف لمواجهة نفوذ المجلس الانتقالي الجنوبي، ومحاولة الحد من تأثيره في هذه المناطق. 


3-     مأرب والقبائل


في أغسطس 2013، انطلق ما يُعرف بالحراك السبئي لأبناء مأرب، المكوّن من مشائخ وشباب ونشطاء ومنظمات مجتمع مدني للمطالبة بحقوق أبناء المحافظة، في ظل التهميش والإقصاء واستغلال ثروات محافظتهم لصالح السلطة النافذة في صنعاء. كما نشأ مكوّن "القضية المأربية" الذي عبّر عن مظلومية مأرب في الماضي وما ينبغي أن تكون عليه في المستقبل. شجعّت "ثورة التغيير" في 2011، على ظهور مثل هذه المكونات الجهوية في شمال اليمن، وبالذات في المحافظات التي لديها ثروات نفطية وغازية كمأرب. غير إنّ هذه المكونات تم اختراقها لاحقاً من قبل الأحزاب السياسية التقليدية (حزبي المؤتمر والإصلاح) وتوارى دورها بشكل تدريجي. يقول خالد بقلان3، وهو باحث ومحلل سياسي من مأرب، "لقد دَعونا في فترات متعددة لخلق مكون يعبّر عن أبناء مأرب بعيداً عن الاستقطابات الحزبية، لكن دعواتنا قوبلت بالرفض وتم التعامل معها على أنّها تأتي في سياقات لغرض خاص، وهذه طبيعة القوى التي تحكم، فهي تشوّه أي دعوات أو عمل من منطلق هدفه نبيل وسامي".


في 18 سبتمبر 2014، شكّل تأسيس ما يُعرف بـ "مطارح نخلا والسحيل"، النواة الأولى لباقي مطارح مأرب في المحافظة، وكان هدف تشكيلها الأساس هو حماية مأرب من زحف الميليشيا الحوثية بعد أن سيطرت على مناطق كثيرة بالقرب من صنعاء. ساهم التوافق والتآلف بين القبائل المأربية على بناء المطارح. حدث ذلك قبل أن يتم السيطرة على المحافظة من قبل حزب الإصلاح الإسلامي وإدارة شؤونها من هناك سياسياً وعسكرياً، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى تفتيت القبائل وإثارة النعرات بينها، ثم خسارتها في كثير من المعارك القتالية ضد الحوثيين.


وكان جمع من أبناء محافظة مأرب قد دشنوا في أكتوبر 2017، وقفات احتجاجية ضد ما قالوا أنّه إقصاء لأبناء المحافظة، وطالبوا برحيل حزب الإصلاح "الإخوان المسلمين" من أرضهم، بعد أن سيطروا على أكثر من (195) منصباً رسميا لشخصيات من خارج المحافظة وينتمي معظمها للحزب، بما فيها مدراء إدارات وبنوك وأجهزة أمنية وألوية عسكرية. قبل سيطرة الحوثيين على صنعاء وبعدها مباشرة، كانت مطالب أبناء مأرب أكثر وضوحاً، غير إنّ كثير من مطالبهم تأجلّت بسبب ما آلت إليه الأوضاع العسكرية في المحافظة، حتى باتوا يبحثون عن أولويات العيش الأساسية في ظل فقدهم أبسط مقومات الحياة، كما إنّ تواجد آلاف النازحين من محافظات شمالية تحت سيطرة الحوثيين إلى مأرب ساهم من مفاقمة الأزمة الإنسانية بصورة تصاعدية.


في سياق ما آلت إليه الأوضاع بسبب الاجتياح الحوثي لأجزاء كبيرة من محافظة مأرب، يقول خالد بقلان، "مأرب بطبيعتها وتركيبتها الاجتماعية ضد حكم الإمامة في الشمال، ومثلها مثل باقي محافظات شمال اليمن عانت من الظلم إبان الحكم الإمامي وما بعده، كما كان نظام صنعاء بقيادة علي عبدالله صالح، يتعامل مع مأرب وكأنها مزرعة خاصة به، وكان سكانها بالنسبة له يشكلون تهديداً وجودياً". حتى هذه اللحظة، يرى بقلان وكثير من أبناء مأرب، أنّهم على الرغم من تشكيلهم ثقلاً وطنياً في محافظتهم، مازالوا مهمشين، ويتم التعامل معهم فقط من خلال حزبي الإصلاح والمؤتمر.


قد يكون سبب تراجع دور الحراك الشعبي في مأرب إلى جانب الأسباب الأخرى المذكورة أعلاه، هو التعقيدات القبلية المتأصّلة في المحافظة والتي يصل البعض منها إلى الثأر أحياناً. على سبيل المثال، عندما تمّ تأسيس الحراك السبئي ومكون القضية المأربية، لم تقف القبائل المأربية ضد هذه الحركات كونها حملت هوية محلية في بادئ الأمر تعبّر عن حقوق ومظلومية مأرب، لكن كثير من القبائل أيضاً وقفت على الحياد، نتيجة التراكمات القبلية البينية لبعض قادة هذه الحركات، وكذا بسبب الاختراقات اللاحقة التي طالتها. يمكن القول هنا، إنّ الفرق بين الوضع في مأرب وبين قبائل تهامة، هو انضمام قبائل تهامة إلى الحراك التهامي، كما كان كثير منهم يتصدرون الحركة، وهو ما خلق زخماً كبيراً للحراك التهامي مقارنة بالحركات الشعبية في مأرب. إنّ حساسية الخلافات المسبقة أحياناً بين القبائل في مأرب تؤثر على مساندة الحركات الشعبية، لأنّها مسألة لا ترتبط بالأشخاص فقط، بل بالقبائل نفسها ومدى عمق الخصومة الداخلية بينها.


يعّول أبناء مأرب ومنهم مجلس شباب سبأ وفقاً لبقلان، على أن تكون مأرب "حاضرة في أي عملية سياسية أو معادلة وطنية مقبلة، من شأنها أن تعبّر عن رؤية مأرب ومصالح أبناءها وشراكتهم السياسية مع مختلف الأطراف، تحت سقف الدولة الوطنية والمواطنة المتساوية والعدل الاجتماعي". 


ماذا بعد؟


من الأهمية بمكان، أن نطرح تساؤلاً مشروعاً عن مدى إصرار القوى السياسية المحلية والإقليمية على وأد المطالب الجهوية في الشمال، مقابل إحيائها وتشكيلها في الجنوب. إنّ تجاهل هذه الأصوات في مناطق شمال اليمن قد يؤدي إلى تداعيات أوسع نطاقاً، وقد يشكّل عائقاً محتملاً أمام عملية السلام، خصوصاً إذا لم تتضمن الحلول النهائية أو صياغتها مشاركتهم كممثلين عن مناطقهم. من المهم القول، إنّ وحدة الصف التي تزعم القوى السياسية اليمنية بأهميتها راهناً، في حين تعمل بعكسها في مناطق أخرى، ستؤسس إلى مظلوميات جديدة ناشئة عن المظلوميات الأساسية، لا سيّما إذا تم الإبقاء على إدارة المناطق من قبل أشخاص لا ينتمون لها، وهو ما سيشكل بالمحصّلة عقبة أمام إنتاج أي حل وطني للسلام.


الأهم من ذلك، ستكون هناك أسئلة جادة حول مدى قدرة المكونات الجهوية في شمال اليمن على إدارة المشهد داخل نطاق محافظاتها، وفيما إذا ستنجح قبل أي شيء بانتزاع حق إدارة مناطقها واقتناص الفرص المتاحة. إذ تؤكد الغالبية العظمى من أدبيات الحركات السياسية التي نشأت في اليمن سواء المذكورة أعلاه أو غيرها، على أن موارد الحركة وقدرتها على التنظيم والحشد والتعبئة تعد سبباً رئيسياً في نجاحها أو فشلها في تحقيق أهدافها. سوف يُنظر لذلك باعتباره نجاحاً من الناحية النفسية والسياسية، وفي الوقت نفسه سيحقق حلولاً استراتيجية من شأنها أن تحقق سلماً أهلياً في نهاية المطاف. فقد ثبت مراراً وتكراراً أنّ الحلول السياسية العادلة والمنصفة للجميع؛ هي وحدها من ستنهي دائرة العنف وتقود إلى السلام.




المديرة التنفيذية لمركز سوث24 للأخبار والدراسات


هوامش:

[1] لقاء خاص مع مركز سوث24 للدراسات
[2] لقاء خاص مع مركز سوث24 للدراسات
[3] لقاء خاص مع مركز سوث24 للدراسات
Shared Post
Subscribe

Read also