التقارير الخاصة

بين الوطن والقبيلة والمحبوبة: أدوار الشعر اليافعي

مهرجان قلعة القارة في يافع الذي تلقى فيه قصائد شعرية وتقام فيه فعاليات تراثية، 2 يوليو 2023 (نشطاء)

07-11-2023 at 3 PM Aden Time

language-symbol

سوث24| عبد الله الشادلي


تُعَّد قبائل يافع في جنوب اليمن من أكبر وأعرق القبائل العربية التي امتد نفوذها وانتشارها إلى شبه الجزيرة العربية، والهند، في قرون غابرة. إرث تاريخي ثري ومتنوع امتازت به هذه القبائل التي تقطن أجزاء واسعة من محافظتي أبين ولحج، عبَّر عنه الإنسان اليافعي من خلال القصائد والشعر الشعبي الذي تنوَّعت أغراضه وحظي بأهمية خاصة على الدوام.


تصدَّر الهم الوطني والجانب السياسي الشعر اليافعي بشكل ملحوظ، لكن الأغراض الشعرية الأخرى مثل الغزل والفخر والرثاء أخذت حيزًا هامًا من هذا الشعر. وامتدَّت تأثيرات الشعر اليافعي إلى خارج مديرات يافع الثمان في أبين (رصد، جعار، سباح، سرار) ولحج (لبعوس، الحد، المفلحي، يهر)، إلى المحافظات الأخرى في الجنوب التي ارتبطت مع يافع بأواصر قبلية متينة، مثل الضالع وحضرموت.


وتعود بدايات الشعر اليافعي إلى أكثر من 2000 عام خلت، وفقًا للشاعر اليافعي البارز بدر الجهوري الذي اهتم بتوثيق هذا الشعر، وأحد رواده اليوم.


وقال لمركز سوث24: "لقد بدأ الشعر الشعبي اليافعي قبل أكثر من 20 قرنًا، في عصر الدولة الحميرية عندما كانت يافع تُمثل قلب الدولة الحميرية وعاصمتها التي كانت تُسمّى (سرو حمير)".


وأضاف الجهوري، الحاصل على إجازة شاعر المليون في برنامج الشعر النبطي الأول على مستوى الوطن العربي: "لا شك أنّ الشعر اليافعي كان الوسيلة الأولى للتعبير عن الآراء السياسية، والقضايا المدنية، والحالات الوجدانية، والأفراح، والأتراح، والزراعة، وظل الوسيلة الأولى والوحيدة إلى أنّ بدأ العصر الحديث عصر التقنية والعولمة".



جانب من مدينة لبعوس في يافع بمحافظة لحج (نشطاء)


خصائص 


يمتاز الشعر اليافعي بالحيوية والاندفاع، ويحثُّ على التصدي للقمع والظلم. كما يتميز بخصائص عديدة تكمن في جرأة الأسلوب، فضلاً عن الصور الشعرية التي تنقل رؤى الشعراء ورسائلهم. 


ويلفت أستاذ الدراسات الأدبية في جامعة عدن د. حسين نصر اليافعي إلى أن "الاعتزاز بالنفس إلى أقصى حد، وعدم التنازل للخصم، والاهتمام بالأسلوب الإفحامي مع جمال الألفاظ وعذوبتها، مع وجود الحكمة الشعرية التي تزين المعنى وتقويه، هي من أبرز خصائص الشعر اليافعي".


وأضاف لمركز سوث24: "هذا الأسلوب غالباً ما يكون في شعر المساجلات. سر جمال الشعر اليافعي يكمن في تنوّع الإيقاع وخصوبته، مع قدرة مذهلة في استحضار الألفاظ، والاهتمام بالألفاظ ذات الأحرف المتشابهة". "لقد تجلّت هذه الخصائص في قصائد الشاعر الكبير يحيى عمر الجمالي المشألي، مما جعل شعره متنوع الألحان بخلاف النمط اليافعي المتعارف عليه في المساجلات".


وأشار الشاعر بدر الجهوري إلى أنّ تدوين الشعر الشعبي اليافعي "ارتبط بظهور الشاعر والأديب اللبيب والغنائي والروائي، يحيى عمر الجمالي، قبل أكثر من 300 سنة". وتميز هذا الشاعر بعادة فريدة قلده فيها عدد من الشعراء اللاحقين، وهي افتتاح القصائد باسمه ضمن عبارة "يحيى عمر قال". 



الشاعر اليافعي بدر الجهوري 


دور سياسي وطني


منذ القدم، امتاز الشعر اليافعي بالأغراض السياسية والوطنية ابتداءً من حروب يافع مع قبائل الشمال قديمًا، ثم الحروب مع الدولة الإمامية في العصر الحديث، مرورا بمناهضة الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن، ومن ثم مناهضة نظام الوحدة القسري بعد اجتياح جنوب اليمن من قبل الشمال في 1994. ورافق الشعر اليافعي محطات الثورة في الجنوب التي بلغت ذروتها بتشكيل الحراك الجنوبي في 2007.


 وبشكل رئيسي، تجلَّى الدور السياسي والوطني للشعر الشعبي اليافعي في إيقاد حماس الجماهير، والمساجلات والردود مع الشعراء الشماليين البارزين. وفي هذا المجال، تصدر الشاعر الراحل شائف محمد الخالدي، الذي تحتفظ السجلات الشعرية بالعشرات من قصائده المتنوعة التي رد فيها على شعراء شماليين ساندوا الوحدة اليمنية ومجدوا حرب 1994 ضد الجنوب.


ومن أشهر ما يذكر في هذا السياق، قصيدة الشاعر الشمالي الكبير أحمد الحمري الصنبحي التي جاء في مطلعها: 

 

قال الصنبحي من نقم.. دقينا [ضربنا] العند والعنيد

وأحرقنا صواريخكم.. ذي قلتم مداها بعيد


وفي البيتين الشعريين، يشير الصنبحي إلى هويته الشمالية المتمثلة في جبل نقم الشاهق في مدينة صنعاء، وما حدث في حرب 1994 عنما أسقطت القوات الشمالية قاعدة العند الجوية الاستراتيجية في محافظة لحج، أكبر قاعدة عسكرية في جنوب اليمن التي كانت توصف بالتحصين الشديد والعنيد والمنيع أمام العدو.


ويلفت الشاعر إلى أن ترسانة جنوب اليمن الصاروخية التي كان يتم الإشارة إليها وإلى قدراتها الكبيرة إبان دولة الجنوب السابقة تم تدميرها وحرقها. جوابًا على هذه القصيدة، رد الخالدي بأبيات جاء في مطلعها:


قال الخالدي مستعد.. بتحدى العدد والعديد

سم الموت في صارمي.. بقطع فيه عرق الوريد

لو وطيت رأسي خزا [أمر مخجل].. للحمري وما هو نديد

باتزعل رمات السلب.. ويحنق ثميم الجعيد [خصال الشعر الكثيفة]


وفي هذه الأبيات، يؤكد الخالدي على استعداد الجنوب للتصدي للأعداء مهما كانت كثرتهم وعددهم، في إشارة إلى الكثافة السكانية العالية لشمال اليمن. ويقول إن سيفه الذي لقبه بالصارم يحمل الموت وفتاك حيث يقطع أوردة الخصم. وفي البيت الثالث، يرى الخالدي أن الاستسلام للشاعر الحمري [الصنبحي] عار، لأنَّه لا يعتبره ندًا له. ولعله يقصد بذلك ما اعتبره الجنوبيون غدرا في هذه الحرب التي هزموا فيها.


ويضيف: "لو استسلمت، سوف يغضب هذا الرجال الذين يقنصون بالبندقيات، كما أنَّ النساء ذوات خصلات الشعر الكثيفة [سمة جمالية بالنسبة للشاعر] سوف يغضبن أيضًا".



رقصة شعبية يافعية على وقع زامل شعري في مهرجان يافع للتراث، 6 يوليو 2023 (نشطاء)


ويستذكر الشاعر بدر الجهوري بعض الأبيات التي قالها شعراء قدماء في يافع إبان الاستعمار البريطاني للجنوب، مثل الشيخ عبد الله عمر المطري الذي خلد ملحمة الثوار في منطقة ردفان الشهيرة التي انطلقت منها ثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الإنجليز. وقال في قصيدة جاء في مطلعها:


وإن حد تخبر.. عقب الراعد مطر

ردفان ثوّر.. والموج من كل سِيف


وفي هذا البيت، شبَه الشاعر انفجار الثورة بهزيم الرعد الصاخب. وصوَّر الشاعر الثوار في ردفان بالمطر لكثرتهم، مشيرا إلى اندفاع الثورة ضد بريطانيا من كل نواحي ردفان كأنها البحر الذي يقذف بالموج من كل الشطآن، حيث إن كلمة (سيف) بكسر السين تعني شاطئ في اللهجة المحلية اليافعية.


الغزل


يحظى الغزل بحضور كبير في قصائد الشعر الشعبي اليافعي، ومن بين أكثر القصائد الغنائية الغزلية اليافعية شهرة هي قصيدة "مركب الهند"، للشاعر يحيى عمر، التي ذاع صيتها في الآفاق وتغنى بها فنانون في اليمن والخليج العربي. ومن أشهر الأبيات في القصيدة: 


يحيى عمر قال قف يا زين.. سالك بمن كحل أعيانك

وشكلك في الحلا شكلين.. وشكل لولك ومرجـانك

من علمك ياكحيل العين.. من ذا الذي خضب ابنانك [أصابعك]

لي شهر في شهر لي شهرين.. وأنا مناظر لبستانك

لا ذقت حبة ولا ثنتين.. من قطف خوخك ورمانك

يامركب الهند أبودقلين.. يا ليتني كنت ربانك


وفي هذه الأبيات، يعبر الشاعر عن حبه لمحبوبته لما رآه من الجمال فيها. وفي البيت الأول، يطلب الشاعر من المحبوبة الوقوف والانتباه لما سيقوله، ويستحلفها بالإله الذي خلق سواد عينيها وأضفى الجمال عليها أن تفعل ذلك. ويشير الشاعر إلى مدة انتظار قضاها لوصال المحبوبة، إلا أن الوصل لم يتم. 


 في البيت الأخير، يطلق الشاعر تلك الأمنية بأن يكون ربان للمركب البحري الذي اعتاد ركوبه إلى الهند، فهو كما عرف عنه كثير الترحال بين موانئ عدن وحضرموت والبحرين والهند. وهذا يفسر انتشار قصائده الغنائية في منطقة الخليج العربي. ووصف "أبو دقلين" يشير إلى المراكب الخشبية التي كانت تصنع في البحرين والإمارات، ودقل يعني صارية المركب أو السفينة.


ولا تتوقف أغراض الشعر الشعبي اليافعي عند السياسة والغزل، فقد استخدم على نطاق واسع في إصلاح ذات البين والأدوار الاجتماعية المختلفة بما في ذلك الحث على فعل الخير وتقديم الصدقات وأداء العبادات الإسلامية ونبذ الصفات غير الحميدة، وتشجيع الترابط الأسري والقبلي بين مناطق يافع. كما استخدم خلال الأعوام الأخيرة للمناصرة وحشد الدعم المجتمعي لأعمال شق الطرق وحفر الآبار وغيرها من المشاريع المجتمعية.


ويعد الشاعر ثابت عوض اليهري أحد أبرز رموز الشعر الشعبي اليافعي اليوم. وحظي الشاعر بتكريم كبير في عدن قبل أشهر لدوره الوطني والسياسي عبر قصائده التي ملئت الفراغ الذي خلفه الخالدي. كما يعد المؤرخ والكاتب د. علي صالح الخلاقي أكثر من ألف ووثق وكتب في الشعر الشعبي اليافعي أيضًا. وإلى جانبهما، يأتي الفنان علي صالح اليافعي الذي صدح بصوته بكثير من قصائد الخالدي وثابت اليهري وغيرهما من الشعراء. 



الشاعر ثابت عوض اليهري (محمد الزهر) 


خفوت؟


يرى د. حسين اليافعي أن الشعر الشعبي اليافعي يمر بما يمكن تسميته "حالة خفوت وتراجع" في الوقت الراهن. مضيفًا: "ما تمرُّ به البلاد من أزمات متواصلة أشغلت الجمهور ودفعته إلى البحث عن قوت يومه أحد أسباب خفوت الشعر اليافعي".


وأردف: "لكن هناك مئات الشعراء الشعبيين الذين يكتبون بشكل مستمر في نقد الأوضاع الراهنة التي يمر بها البلاد. كما أنَّ الشعر اليافعي حاضر في المشهد السياسي بقوة، وهناك عادات متأصلة في البيئة الاجتماعية اليافعية لقول الشعر في المناسبات والمسابقات التي تقام بين الحين والآخر".


وبالنسبة للشاعر بدر الجهوري، "هناك عوامل ساهمت في خفوت الشعر اليافعي، أولها: التقنية الحديثة في وقت كان الشعر هو الوسيلة الوحيدة في التعبير والتواصل. ثانياً: التقليد والتأثر بالشعر الخليجي وما يسمى بـ (الشيلات)، واستخدامها بدلا من الأراجيز والزوامل اليافعية الأصيلة، والطرب اليافعي". 


وأضاف: "عندما كان الشعر على الفطرة اليافعية السليمة، كان الفلاح يتغنى به في مزرعته، والراعي يتغنى به في رعي غنمه، والمرأة تتغنى به أثناء القيام بأعمالها، هُنا كان الشعر اليافعي مزدهراً وفي أفضل حالاته، على مختلف الأصعدة المجتمعية أو حتَّى السياسية".




صحفي ومحرر لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات


Shared Post
Subscribe

Read also