التحليلات

بين فرضيات السلام وعوائق التنفيذ: ما عقيدة الجيش اليمني القادم؟

الجيش اليمني (كردت: ا ف ب)

27-01-2023 at 5 PM Aden Time

language-symbol

سوث24 | وضّاح العوبلي


كلما برز الحديث عن السلام في اليمن لابد أن تبرز معه تساؤلات وعلامات استفهام مزدحمة ومنطقية. فالحديث عن السلام أو الولوج إلى مرحلة ترتيبات وقف الحرب في اليمن، وإقرار جميع القوى اليمنية بالسلام كخيار رئيسي وحيد، يتطلب كثير من العمل والبحث في جذور وآليات الصراع، كما يتطلب البحث المتعمق في الماضي وانعكاساته المؤدية إلى الصراع الذي يعيشه اليمن طوال العقود الأخيرة. ويتطلب ذلك الوقوف عند المحطات والأحداث التاريخية المحورية التي كان لها الأثر السلبي الكبير في خلق المنحنيات الخطيرة، وكان لها الأثر الفعلي بشكل أو بآخر لتأسيس ووضع نواة هذا النوع من الصراع الممتد لعقود.


إن عملية التحضير للسلام هي العملية الأصعب والأكثر تعقيداً من عمليات التحضير للحرب وخوضها، والعمليتان شبيهتان إلى حدٍ كبير بعمليات الهدم والبناء. فعملية السلام تتطلب جهود لرفع مخلفات الحرب وجبر ضرر مرحلة طويلة من الصراع، كما هي إعادة الإعمار وبناء وهيكلة مؤسسات الدولة وعلى رأسها مؤسستي الجيش والأمن.


عقيدة مذهبية لا وطنية


في الوقت الذي نشهد فيه أنشطة وجولات تفاوض سرية مُحاطة بتعتيم إعلامي واضح، ويحضر اسم جهود السلام في اليمن إلى الواجهة، فأن أول ما يبرز في ذهن أي خبير ومهتم بالشأن الأمني والعسكري في اليمن، هو شكل الجيش اليمني القادم، حيث تشهد مناطق سيطرة الحوثيين في الشمال؛ أكبر وأنشط عمليات التجنيد والتثقيف الطائفي على كل المستويات، فضلاً عن فرض دورات ثقافية طائفية للضباط والصف والأفراد المنتسبين إلى قوام الجيش الأساسي ممن بقوا في مناطق سيطرة الحوثي وأصبحوا جزء من قواته. وهؤلاء أصبحوا في تشكيلات عسكرية موحدة مع القوة العقائدية والأيدلوجية الحوثية، التي تشمل مجندين جدد تم تجنيدهم وتأطيرهم بأفكار مستوردة، كما تمّ عزلهم عن مجتمعاتهم في معسكرات تدريب ومراكز تثقيف مذهبي سرية.


ناهيك عما يفرضه الحوثيون من دورات شملت الموظفين في جميع مؤسسات ودوائر وأجهزة الدولة التي يسيطرون عليها في مناطق نفوذهم، والتي وصلت مؤخراً إلى فرض التوقيع على ما يسمى بـ (المدونة السلوكية) والإقرار والالتزام بما ورد فيها من جميع موظفي الدولة، وهي عبارة عن لائحة وظيفية تلزم الموظفين بضرورة الولاء لزعيم الجماعة الحوثية والاعتراف بمبدأ الولاية والتسليم المُطلق له، واتباع فكر ونهج الجماعة الحوثية والالتزام بما يرد في محاضرات زعيمها وملازم ومؤلفات مؤسسها الأول "حسين بدر الدين الحوثي". 


إن ما تعرّض له الموظفون مدنيون وأمنيون وعسكريون في مناطق سيطرة الحوثي، هو أشبه بعملية تجريف تام لأفكارهم وهويتهم الوطنية والدينية والفكرية، واستبدال كل ذلك بتعاليم ومفاهيم الجماعة الحوثية، التي وصلت حد التجريم والمنع السري للهتاف الوطني (تحيا الجمهورية اليمنية)، واستبداله بشعار الجماعة أو ما يُعرف بشعار (الصرخة الحوثية). كما أن الجماعة ألغت القسم العسكري الدستوري المتعارف عليه في القانون العسكري، وهو قسم يؤديه العسكريون ويتلوه المتخرجون من الكليات الأمنية والعسكرية وفرضوا عوضا عنه قسم الولاية لزعيم الجماعة الحوثية.


الحقيقة أن الحوثيين قاموا بتغييرات شملت اللّوائح والنُظم والقوانين، ووصل حد التغيير الواسع إلى المناهج التعليمية وطقوس العبادات وخطب الجمعة، وفرض مواد ذات طابع طائفي ومذهبي في الجامعات والمعاهد والكليات المدنية والمدارس الخاصة. كما تمّ إعطاء الأولوية في تلك المؤسسات والجهات للحوثيين، بهدف إخضاع الشعب، وحتى يصبح ذلك مع الوقت جزءً أساسياً من الثقافة السائدة بين نسبة كبيرة من السكان يتقدمهم الموظفون المدنيون والعسكريون.


ذلك أسس لانقسام مذهبي وثقافي وفكري خطير في المجتمعات وبين النخب والقبائل اليمنية، كما أن ما قام به الحوثيون بمثابة خوض معركة موازية لمعارك الجبهات، ذلك من خلال تسخيرهم الإمكانات الضخمة لهذه الأنشطة وتحويلها إلى خطط أساسية التزموا بتنفيذها بشكل مستمر ومتواصل على مدى الثمان السنوات الماضية، وهو أهم استثمار من جانبهم لإطالة زمن معاركهم الناعمة والصلبة. 


بين الممكن واللاممكن


المؤكد أنّ أي عملية سلام قادمة أو مستقبلية تتطلب بناء جيش نوعي متشبع عسكرياً ووطنياً، يمثل القوة الضامنة وصمام الأمان لمسار السلام وتنفيذ التسويات، ويلتزم جميع منتسبوه بالولاء المطلق للوطن وعدم الانحياز لأي حزب أو جهة أو مكون أو جماعة. قد يكون هذا ممكناً بجهود وخطط يتم تنفيذها على المدد القصيرة والمتوسطة والطويلة، وهذا في حالة التسويات بين القوى المتصارعة سياسياً؛ والتي تزول وتنتهي صراعاتها واحتقاناتها بزوال المسببات.


وعلى العكس من ذلك، في حالة الصراع ذو الطابع الطائفي والمذهبي تستعصي وتستحيل فيها تنفيذ مثل هذه الحلول أو التسويات، وأمامنا نماذج ماثلة وعملية لهذا النوع من الصراع في لبنان والعراق، التي فشلت فيهما جهود دمج القوى الطائفية الشيعية في الجيوش الوطنية، إذ تتواجد فيهما جيوش وقوى مسلحة طائفية وموازية للجيش الرسمي، وهي أقوى منه تسليحاً وفاعلية، بالرغم من التسويات السياسية التي انخرطت فيها جميع القوى بمختلف توجهاتها سواءً في العراق أو لبنان. على سبيل المثال، وبالرغم من مرور عقود على توقيع الأطراف اللبنانية لاتفاقية الطائف 30 سبتمبر 1989، والتي التزمت فيها جميع القوى والطوائف اللبنانية بالوفاق والاندماج في دولة وطنية لبنانية موحدة، إلا أنه وبعد مرور 33 عاماً على الاتفاقية، لا يزال الجناح المسلح وغير الرسمي لحزب الله اللبناني منفرداً وموازياً لمؤسسة الجيش اللبناني الرسمي.


وكذلك الحال في العراق، حيث لا تزال قوى الحشد الشعبي وفيلق بدر وجيش المهدي وعصائب أهل الحق وحزب الله العراقي ولواء أبو الفضل العباس، تحتفظ بقواتها وهياكلها رغم صدور قرار من رئيس الوزراء العراقي السابق "عادل عبدالمهدي" في 1 يوليو 2019، بضم واعتماد هذه الفصائل ذات التوجه الشيعي إلى قوام قوات الأمن والجيش العراقيين، إلا أن هذه الفصائل طبقت الانضمام مالياً فقط، وذلك بما يحقق لها انتظام استلام رواتب منتسبيها ومخصصاتها المالية من وزارة الدفاع العراقية، بينما لا تزال مستقلة عنها عملياتياً وقيادياً، إذ تخضع لقرارات المراجع الدينية الشيعية ذات الارتباط بإيران.


متطلبات مسار التهيئة وإعادة التأهيل


أمام هذه الحالة المستعصية من التنافر الفكري والثقافي والعقائدي، وتضارب المفاهيم والمسميات بين المكونات المتصارعة، فإن العبور الآمن إلى مرحلة مقبولة من الأمن والسلام، يتطلب اعترافاً وإقراراً صريحاً من الجماعة الحوثية بما أحدثته وتسببت به خلال المراحل الماضية على كافة الجوانب التي استعرضناها في هذه الورقة. وبالتالي إقرارها بأهمية تحقيق مبدأ المواطنة المتساوية وتجريم الاستعلاء السلالي أو الديني أو المذهبي أو العرقي، والتزامها بإعادة تأهيل قياداتها وأنصارها ومحو المعتقدات والمفاهيم المتشددة التي علقت بأدمغتهم، وترويض مفاهيمهم المتشددة. وهذا لن يتم إلا عبر عملية إعادة تأهيل واسعة وطويلة الأمد يقودها ويشرف عليها خبراء محليون وعرب وأجانب متخصصون في التنمية البشرية، وبما يحقق التهيئة المطلوبة لدمج هذه العناصر والتشكيلات بعد نبذ التشدد ومحو المعتقدات والأفكار الدخيلة والمذهبية.


لكن هناك كثير من الجدل يثير معه تعقيدات وموانع عديدة تحول دون وصول الجماعة الى هذا الاعتراف بما أحدثته، وأمام هذا التصلب في موقفها تصبح كل سيناريوهات توحيد ودمج القوات بالشكل المطلوب ضرباً من ضروب المعجزات. ولهذا فإن اللاعبين الدوليين والإقليميين في الملف اليمني؛ يعتمدون على بناء سيناريوهات هشة في هذا الاتجاه، أملأ منهم في إنجاز اختراق ممكن، ويعتقدون أنّ هذه السيناريوهات ستستمد عوامل الترابط والصمود والمتانة بشكل تصاعدي يترافق مع تنفيذ خطواتها المستقبلية المتسلسلة، بيد أن جميع المعطيات والدلالات تؤكد أننا أمام عملية مستعصية على التنفيذ. وفي كل الأحوال، من المتوقع أن هذه السيناريوهات ستكون معرضة للانهيار والانتكاسة على المدى القريب، وهذا ربما ما سيعايشه الفاعلون في الملف اليمني خلال الفترة القليلة القادمة.


ذات صلة: تجييش المليشيا: مكوّن الحوثيين الهجين (ورقة تحليلية)


في المحصّلة، يتطلب بناء عقيدة عسكرية لأي جيش قادم، بضرورة اتفاق جميع القوى على وجود عدو مفترض لهذا الجيش. فبينما ترى مكونات بأن العدو الذي يجب أن تبنى عقيدة الجيش على معاداته هو إيران، يرى الحوثيون أن العدو لليمن هي المملكة العربية السعودية ومن معها في تشكيلة التحالف العربي، ويذهبون أبعد من ذلك بوصفها في خطاباتهم بأنها العدو التاريخي لليمنيين. أضف إلى ذلك انقسام المكونات بين من يعتبر أن ما جرى في اليمن عام 2014 هو "انقلاب" الحوثيين على الحكومة الشرعية وسيطرتهم على مؤسسات الدولة، بينما يعتقد الحوثيون أن ما حصل هو عدوان وغزو سعودي لليمن، ويحاولون تكريس هذه التسمية في مناهج التاريخ ووعي الأجيال.


في نهاية المطاف، تعدّ كل هذه متناقضات بين المكونات التي يفترض أن يتشكل منها مزيج قادة البلد عقب الوصول إلى تحقيق السلام المفترض، وهو ما يعني وجود انقسامات عميقة تؤسس لمزيد من دورات العنف والصراع، في حال تم إقرار السلام بطريقه ارتجالية يتم بموجبها القفز على هذه المعطيات التي تمثل جزءً بسيطاً من تفاصيل متشعبة تقف دون التمكن من بناء مؤسسات الدولة في أي عملية سلام قادمة.




العقيد وضاح العوبلي

باحث غير مقيم لدى مركز سوث24 للأخبار والدراسات، خبير عسكري ومحلل استراتيجي 

Shared Post
Subscribe

Read also