التقارير الخاصة

السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي «روسيا» تجاه اليمن الجنوبي (2)

24-08-2020 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol

سوث24| د. حسن بن عقيل


مقدمة لفهم العلاقات السوفيتية اليمنية

قدّم
الاتحاد السوفيتي والصين وحلفاؤهما الدعم للحركات الوطنية في جنوب شبه الجزيرة العربية، من خلال انتقاد السياسة البريطانية والقوى المحافظة في المحافل الدولية وبتزويد المقاومة بالسلاح عبر مصر واليمن الشمالي. ومع ذلك، لا يوجد وضوح حول مدى الروابط "الأيديولوجية أو التنظيمية" بين الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل وهذه الدول المذكورة قبل عام 1967. المعروف فقط أنّ مندوبًا واحدًا زار الصين في أوائل عام 1967. والغرض من الزيارة ليس التعرف على النسختين السوفييتية والصينية للفكر الماركسي. لأنّ ذلك كان في متناول تنظيم الجبهة القومية من خلال ترجمات وإصدارات تقدمها شبكة حركة القوميين العرب في بيروت واليمن الشمالي.


في 30 نوفمبر 1967، غادر البريطانيون عدن، وأصبحت الدولة الجديدة تسمى "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية 1967-1970" وأصبحت أقرب حليف للاتحاد السوفيتي في العالم العربي، خاصة بعد أن استولى الجناح اليساري من الجبهة القومية على السلطة في 22 يونيو 1969. اعترف الاتحاد السوفيتي بالدولة الجديدة في 3 ديسمبر 1967. وكان أوّل رئيس للجمهورية زعيم الجناح المعتدل للجبهة القومية، الرئيس قحطان الشعبي، والمناضل الثوري التكنوقراطي فيصل عبد اللطيف كرئيس للوزراء. كلاهما ينتمي إلى الجناح المعتدل للجبهة القومية. اتخذ الجناح المعتدل قرارات متساهلة ومنهجية كانت مهمة للمرحلة التي تمر بها الدولة الفتية.


بشكلٍ عام، نذكر فيما يتعلق بالسياسة الخارجية لممثلي هذا التيار المعتدل، كانوا يدعون إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب والكتلة الاشتراكية وتطويرها. أمّا سياستهم الداخلية فتدعو إلى مواقف معتدلة مع كافة فئات الشعب. ورفض مصادرة الممتلكات والعقارات الخاصة ونهب الأراضي وتأمين البنوك، ورفض شعار تطهير الجيش وإلغاء الجهاز الإداري الموروث. ولهذا كانت مواقفهم ضد قرارات المؤتمر الرابع للجبهة القومية 1968. التي كانت قراراته الأكثر راديكالية، بل متطرفة مثل تطهير الجيش الاتحادي الوطني والمهني وحلّ المؤسسات القائمة.


من المؤكد أن الرئيس قحطان الشعبي كان على علم بأنّ الحكومة البريطانية لم تتخل عن فكرة الحفاظ على جنوب اليمن وإعادته والسيطرة عليه بشكل مباشر أو غير مباشر، معتبرة أنّ الدولة الجديدة ليست قابلة للعيش وغير قابلة للبقاء، لأنها نالت الاستقلال في ظروف صعبة للغاية. كان بقاءها موضع شك منذ البداية، لأنها سوف تواجه مشاكل اقتصادية.


انهار اقتصاد عدن مع إغلاق قناة السويس بعد هزيمة الدول العربية في يونيو 1967. ثانياً، خروج القاعدة البريطانية وخسارة الإيرادات منها، وأعقب ذلك خروج القطاع الخاص بأصوله المالية من عدن. في ذلك الوقت، لم يتم العثور على أي آثار للنفط في جنوب اليمن. هذا الوضع الاقتصادي السيئ لا يساعد في مواجهة العجز الكبير في الميزانية، أو تمويل القوات المسلحة لتكون قادرة على حماية ساحل بحري يمتد حتى 2000 كم وكذلك الحدود البرية مع وجود خلافات ونزاعات حدودية، على طول الحدود البرية مع ثلاث بلدان (اليمن الشمالي، السعودية، سلطنة عمان).

هذه الصعوبات والمشاكل ستضمن، بطريقة أو بأخرى، عودة جنوب اليمن إلى الحظيرة البريطانية مرة أخرى. لهذا السبب كان على الحكومة الجديدة أن تتحرك بسرعة لترسيخ سلطتها. حتى اتفاقية جنيف بين بريطانيا والجبهة القومية، والتي التزمت فيها بريطانيا بتقديم مساعدات للجبهة القومية بمبلغ 12 مليون جنيه، لم تتلق الجبهة سوى 2.7 مليون جنيه. وكذا قدّمت بريطانيا بعض المساعدة، بما في ذلك 70 خبيراً من البحرية البريطانية والقوات الجوية. كما سلّمت زوارق دورية مع بحارتها كـ (نواة) للقوات البحرية اليمنية مع التزام بتدريب الكوادر اليمنية. لكنّ الخبراء البريطانيين، بعد فترة وجيزة للغاية، طُردوا من قبل وزارة الدفاع اليمنية لعدم تنفيذ أوامر الوزارة. هذا الوضع الاقتصادي والأمني السيء لحكومة عدن دفع الجبهة القومية للبحث عن دعم مالي من المعسكر الشرقي، ومن بعض المؤسسات المالية الدولية والعربية (الكويت). وعلى هذا الأساس أقامت الجبهة القومية علاقات وثيقة مع هؤلاء المؤيدين البعيدين.


"هذا الوضع الاقتصادي والأمني السيء لحكومة عدن دفع الجبهة القومية للبحث عن دعم مالي من المعسكر الشرقي، ومن بعض المؤسسات المالية الدولية والعربية"


خلال هذه الفترة كانت الجبهة القومية تعاني من انقسام وتمزّق داخلي. بصعوبة، سعى التيار المعتدل بقيادة قحطان الشعبي إلى تحقيق التوازن والاعتدال في سياسته الداخلية والخارجية والحفاظ على العلاقات مع الغرب الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، واستمر في هذا الاتجاه حتى سقوطه في يونيو 1969. أما الحركة اليسارية فقد تأثرت بالصراع الصيني السوفياتي. أصبح هذا الصراع بؤرة الصراعات الداخلية في الجبهة القومية من عام 1969 حتى عام 1986، وكان لهذا الصراع تأثير مباشر على توجه الدولة في السياسة الداخلية والخارجية. وفور تسلم اليسار الراديكالي في الجبهة القومية (عبد الفتاح إسماعيل وسالم ربيع علي) زمام الأمور، نشهد عدم الوضوح في العلاقات مع المعسكر الاشتراكي وكذا مع المعسكر الغربي والمحيط العربي. هذا أثّر بشكل غير مباشر على موقف الاتحاد السوفيتي والصين من القيادة السياسية في عدن. في الأدب الماركسي الذي انتشر في ذلك الوقت في عدن، بما في ذلك كتاب لينين "مرض اليسار الطفولي"، أشار إلى {الطبقة الثورية... أنه يستحيل الانتصار بدون تعلم علم الهجوم الصحيح والتراجع الصحيح، إضافة إلى فهم السياق العام إذا اضطرت الظروف إلى نوع من المساومة، ويفرق بين المساومة والمساومة ...}، فقط قحطان الشعبي وعلي ناصر محمد استطاعا فهم أصول التوجه الاشتراكي. 



رئيس وأعضاء مجلس الرئاسة لليمن الجنوبي في أحد المهرجانات في السبعينات (ارشيف)


لكن ما حدث في عدن، أن استولى اليسار في الجبهة القومية على السلطة عام 1969، وفتح الطريق أمام إقامة علاقات أقوى مع الاتحاد السوفيتي والصين والمعسكر الاشتراكي. في عام 1970 تغيّر اسم الدولة إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (1970-1990)، وانقطعت العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وأصبحت العلاقات محصورة في الدول الاشتراكية. انقسم يسار الجبهة القومية حول موضوع العلاقات مع الكتلة الشرقية (منهم من توجه نحو الاتحاد السوفيتي ومنهم من توجه نحو الصين). كان هذا الخلاف بؤرة جميع الخلافات كما أشرنا داخل الجبهة القومية من عام 1967 إلى عام 1980. 


"سعى التيار المعتدل بقيادة قحطان الشعبي إلى تحقيق التوازن والاعتدال في سياسته الداخلية والخارجية والحفاظ على العلاقات مع الغرب الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي"


سعى الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) للحفاظ على علاقات جيدة مع الصين، وتنفيذ النموذج الصيني للتعبئة السياسية، وزار بكين في عامي 1970 و1974. لكنّ سالمين هُزم وأُعدم دون محاكمة 1978. تولّى بعده عبد الفتاح إسماعيل (فتاح) السلطة وفرض النموذج السوفيتي للتعبئة السياسية. لكنّ تيار عبد الفتاح لم يدم طويلا، حيث استقال من جميع مناصبه لأسباب صحية. وخلفه المناضل الثوري التكنوقراطي علي ناصر محمد سلك نهج فتاح مع بعض جوانب البيروقراطية، لكنه لم يتبع سياسات قحطان الشعبي أو سالمين. لكنه قلل، جزئيًا على الأقل، من اعتماد البلاد على الاتحاد السوفيتي.


المحاور الرئيسية لفهم العلاقات السوفيتية مع اليمن الديمقراطي:


أولاً: مرحلة تقييم مصداقية التوجه السياسي للجبهة القومية وقدرتها على الاحتفاظ بالسلطة ومدى إمكانية الاعتماد عليها.


ثانيًا: إلى أي مدى تتماشى السياسة الخارجية للجبهة القومية مع النهج العام للسياسة السوفيتية والتأكد من عدم توريط السوفييت في مغامرات طائشة (مثل تلك التي أثارها اليسار في الجبهة القومية) التي من شأنها أن تثير هجوم مضاد غربي ضد السوفييت. في الوقت الذي بدأ فيه السوفييت في عام 1956، من خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، إلى فتح الباب أمام بعض الإصلاحات الاقتصادية والتجارية الدولية السوفيتية وتحسين العلاقات مع الغرب.



علي ناصر محمد، رئيس وزراء جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، خلال زيارة ودية رسمية للاتحاد السوفياتي. ليونيد بريجنيف، رئيس هيئة رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وعضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي، أثناء المفاوضات 28-5-1980م (Alamree)


من الواضح أنّ شيئًا كهذا بالنسبة للسوفييت يستغرق وقتًا. عندما شعر الروس بالاطمئنان الكافي لحكومة عدن، حسَبَ الروس بدقة ما يُمكن أن يقدّموه من مساعدات وما هي الأسلحة التي ينبغي أن تُقدّم للقوات المسلحة اليمنية. لم يتم تقديم أي ضمانات للدفاع عن جمهورية اليمن الديمقراطية في حال تعرضها لهجوم من طرف ثالث. لا يمنح الاتحاد السوفيتي مثل هذه الضمانات إلا لدول حلف وارسو. قدّم السوفييت بعض المساعدات الاقتصادية، التي لم تكن كافية من حيث الكمية أو النوعية. ومهما كانت رغبة الجانبين، هناك قيود موضوعية تحدد ما يمكن أن يقدّمه الاتحاد السوفيتي.


ثالثًا: الأوضاع العامة في شبه الجزيرة العربية والخليج والبحر الأحمر كانت تشهد انتشارًا أمريكيًا مكثّفًا خلال تلك الفترة. بالإضافة إلى ذلك، رأى الغرب في اليمن الديمقراطي قاعدة أمامية للمعسكر الاشتراكي في العالم العربي. هذا امر طبيعي خلال الحرب الباردة، اتخذ الصراع الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي أبعادًا دولية. أيضاً دول الجوار تنظر إلى الجبهة القومية على أنها حافز للحركات الثورية في بلادهم. وتزامنت كل هذه المشاكل مع استقلال وقيام دولة جنوب اليمن الجديدة. 


"لم يتم تقديم أي ضمانات للدفاع عن جمهورية اليمن الديمقراطية في حال تعرضها لهجوم من طرف ثالث"


كما فرض هذا الوضع على السوفييت تنظيم وتيرة نشاطهم العسكري في المحيط الهندي، وخاصة في جنوب اليمن (بحر العرب). وإلا فإنّ هذا الانتشار السوفيتي في مياه اليمن الديمقراطي سيكون بمثابة مواجهة للأنشطة الأمريكية ونداء أو منافسة مع الولايات المتحدة في تلك المنطقة والمياه المجاورة التي تخضع تقليديًا لها. على أساس هذه الاعتبارات، تم تحديد القدرات العسكرية السوفيتية التي يجب أن تكون في عدن، والتي تتوافق مع طبيعة المنافسة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.


تمت دراسة كل هذه الاعتبارات المذكورة أعلاه بعناية، والتي على أساسها تم تشكيل وتحديد طبيعة العلاقات السوفيتية مع جمهورية اليمن الديمقراطية.


- دكتور حسن زيد بن عقيل، كاتب ومحلل سياسي يمني

- هناك حلقتان متصلة بهذا السياق ينشرها سوث24 في وقت لاحق



شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا